كان عام انطلاق المملكة الرابعة، بعدما ثبّت العهد الجديد اقدامه في الحكم. وكان عاما احتدم فيه الصراع بين الاصلاحيين والمحافظين، اي بين التحديث والتطوير من جهة، والتردد والنكوص من جهة اخرى. وكلاهما حقق، وبدرجات متفاوتة، انتصارات... ومني بهزائم. كان في آن، عاما جمع التناقضات فوق سطح واحد، وبدا واضحا ان الملك عبدالله الثاني اصر على ضرورة ضبط ايقاع التنافس بين المعسكرين من دون السماح لأي منهما بالانتصار على الآخر، محافظا بذلك على توازن دقيق دفع كل الاطراف الى حلول وسط تمنع احداث هزة كبيرة يمكن ان يسببها انتصار الاصلاحيين الليبراليين، او انتكاسة قد تترتب على نجاح المحافظين في القضاء على فرص تحديث المملكة في ظل عولمة بدأت تفرض نفسها على الاجندة الوطنية للمملكة. استهل الاردن عامه بالتعامل مع تداعيات قرار رئيس الوزراء عبدالرؤوف الروابدة في كانون الاول ديسمبر 1999، ابعاد اربعة من قادة حركة المقاومة الاسلامية حماس الى دولة قطر. وكان رئيس الديوان الملكي، السياسي عبدالكريم الكباريتي، الذي تحفظ على الطريقة التي تم فيها التعامل مع ملف حماس، حسم قراره مسبقا بالانسحاب من منصبه بعدما اتضح له صعوبة التوفيق بين مواقفه السياسية الليبرالية، وتوجهات رئيس الحكومة، الذي طرح نفسه زعيما للتيار المحافظ. وبدا في حينه ان الروابدة، الذي كان يحظى بدعم مدير المخابرات القوي الفريق سميح البطيخي، قد حقق انتصارا على تيار الاصلاح الليبرالي الذي يمثله الكباريتي. وكان الخلاف بين رئيسي الحكومة والديوان الملكي حول فكرة إقامة تكامل ثلاثي مع سورية ولبنان، وعلى هامش الحرية الاعلامية الذي سعى الروابدة الى تضييقه، من الاسباب الاضافية التي ادت الى تعميق الخلاف الذي كان لا بد من ان يحسم بين الرجلين في نهاية المطاف. ولعل موقف الكباريتي من ضرورة اتخاذ خطوات في اتجاه تحقيق قدر اكبر من المساواة بين المواطنين، وفق التوجيهات الملكية، يمكن اعتباره من ابرز اسباب الصدام بين مدرستين سياسيتين لم يكن من الممكن التوفيق بينهما. فالروابدة اعتبر ان المساواة بين المواطنين قائمة قانونا ودستورا، وان مطالبات سياسيين مثل رئيس الوزراء الاسبق طاهر المصري ورئيس الديوان الملكي الاسبق جواد العناني والمستشار السياسي للملك عدنان ابو عودة، بحقوق سياسية متساوية للمواطنين من اصول فلسطينية، امر مرفوض من حيث المبدأ، وتشكل تهديدا للوحدة الوطنية. وكان الروابدة اثار زوبعة سياسية بتحذيره من مخاطر تكرار تجربة "ايلول الاسود" في إطار دفاعه عن قرار ابعاد رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، والناطق بإسم الحركة ابراهيم غوشة، وعضوي المكتب السياسي سامي خاطر وعزت الرشق. واتهمت الحكومة في حينه حماس بمحاولة زعزعة الاستقرار في المملكة من خلال الاصرار على ممارسة دور سياسي فلسطيني انطلاقا من الساحة الاردنية. وفي مقابل موقف الحكومة، اعتبر التيار الليبرالي ان ابعاد قادة حماس وجه ضربة للوحدة الوطنية من جهة انه اثار مخاوف لدى بعض المواطنين من اصول فلسطينية من انهم قد يتعرضون للإبعاد في حال معارضتهم للحكومة، من دون ان توفر لهم الجنسية الاردنية اية حماية رغم ان الدستور الاردني ينص على عدم جواز ابعاد اي مواطن اردني عن وطنه. كما اثار قرار الحكومة حفيظة الحركة الاسلامية التي اعتبرت نفسها مستهدفة في ضوء تطابق مواقفها السياسية مع مواقف حماس. وتقدم قادة حماس الى محكمة العدل العليا بدعوى طعن بقرار الابعاد، تم رده لأسباب شكلية، فيما اعلن اخيرا انه سيتم تقديم طعن جديد بالقرار. واصرت حكومة الروابدة على موقفها من قادة حماس، وواصلت سياسة الاقصاء ضد المواطنين من اصول فلسطينية، كما مارست في التعيينات الحكومية تمييزا جغرافيا ضد محافظاتالجنوب والوسط، لمصلحة الشمال الذي يتحدر منه رئيس الحكومة. وطاولت الحملة الحكومية ضد المطالبين بحقوق متساوية المستشار السياسي للملك، عدنان ابو عودة، الذي نشر كتابا تناول فيه تاريخ العلاقات الاردنية - الفلسطينية وطالب بوقف التمييز بين المواطنين بحسب اصولهم. وأدت الحملة، التي استخدمت فيها الحكومة الاعلام الرسمي وشبه الرسمي الى دفع ابو عودة الى الاستقالة بحجة انه لا يجوز ان تحسب مواقفه في مسألة مثيرة للجدل على القصر. وظل هاجس التيار المحافظ، الذي يسيطر على مختلف مؤسسات الدولة، مزاعم بأن التوجه الى تحقيق مساواة سياسية فعلية سيحول الاردن الى وطن بديل للفلسطينيين، خاصة وان المواطنين من اصول فلسطينية يمثلون ثقلا اقتصاديا كبيرا في القطاع الخاص. وفي المقابل، اعتبر المصري والعناني ان تحقيق العدل والمساواة يعزز الوحدة الوطنية ويدعم الجبهة الداخلية، فيما يعطي دفعة للاقتصاد من خلال تعزيز الشعور بالاستقرار، ما يجذب مزيدا من الاستثمار الوطني والخارجي. وواصل الروابدة مواجهاته مع المجلس الاستشاري الاقتصادي الذي يرأسه الملك، ونجح في المماطلة في تنفيذ غالبية التوصيات التي قدمها المجلس، واحباط توصيات اخرى بحجة انها تفتح الباب على اختراقات خارجية للاقتصاد الوطني، او تعزز من نفوذ بعض مراكز القوى، وتضر بقطاعات شعبية قد لا تتحمل اجراءات اقتصادية اصلاحية قاسية. وكان الملك شكل المجلس الاستشاري الاقتصادي المؤلف من 20 شخصا غالبيتهم من القطاع الخاص، بهدف تجاوز البيروقراطية الحكومية والاسراع في اصدار تشريعات اقتصادية اصلاحية انسجاما مع البرنامج الذي تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. واظهر الروابدة معارضة لمشروع تحويل مدينة العقبة الى منطقة اقتصادية حرة، رغم ان العاهل الاردني كان يدعم المشروع، كما كلف رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب، علي ابو الراغب، الاشراف على وضع خطة متكاملة لتنفيذه. واسفرت المواجهات التي فتحها رئيس الوزراء على جبهات عدة عن تحالف نيابي قاده رئيس مجلس النواب عبدالهادي المجالي وابو الراغب لإطاحة الروابدة. ووقع 44 نائبا من اصل 80 في المجلس على مذكرة تم توجيهها للملك، تطالب بإقالة الروابدة. ولم تفلح جهود رئيس الوزراء في انقاذ حكومته، وتكررت المذكرات، رغم محاولات توفيقية حاول خلالها الروابدة اقناع عدد من النواب بسحب تواقيعهم عن الوثيقة. واضطر الروابدة الى الاستقالة بعدما تم ابلاغه بذلك، فيما تم تكليف ابو الراغب تشكيل حكومة جديدة. واستقبل الرأي العام الاردني حكومة ابو الراغب بمشاعر الارتياح بعد تجاوز مما سمي في حينه "حكومة الازمات"، بسبب الصدامات والمواجهات التي اعتبر الروابدة مسؤولاً عنها شخصيا. كما اشاع تعيين ابو الراغب ارتياحا في الاوساط الاقتصادية بوصفه رجل اعمال اكثر انفتاحا، وكذلك في اوساط المواطنين من اصول فلسطينية، الذين اعتبروا انه قادر على تعزيز الوحدة الوطنية. وساعد ابو الراغب في حينه انه نأى بنفسه عن الصراعات السياسية في السنوات السابقة، ولم يتخذ موقفا سياسيا جدليا يمكن ان يحسب او يحاسب عليه. ومضت حكومة ابو الراغب، التي سيطر عليها الفريق الاقتصادي والتكنوقراط، الى انجاز مشروع المنطقة الاقتصادية الخاصة في العقبة التي وفرت اعفاءات جمركية وضريبية كبيرة للمستثمرين. واستأنفت الحكومة تنفيذ خطط الاصلاح الاقتصادي بنجاح ملحوظ ساهم في التمهيد لتوقيع اتفاق التجارة الحرة مع الولاياتالمتحدة في تشرين الاول اكتوبر، بعد ان كان انضم الاردن الى منظمة التجارة العالمية. وقام ابو الراغب في الاول من تشرين الثاني نوفمبر بأول زيارة لمسؤول عربي على هذا المستوى الى العراق منذ فرض العقوبات الدولية عليه في العام 1990. وكان الاردن ارسل اول طائرة مدنية عربية الى مطار بغداد في خرق للحظر الجوي، واعلن نيته تسيير رحلات مدنية منتظمة، ثم عاد واكتفى برحلات غير منتظمة إثر ضغوط من لجنة العقوبات التابعة للامم المتحدة. ومهدت زيارة ابو الراغب الى بغداد لتوقيع اتفاق لتوريد احتياجات الاردن من النفط لعام 2001، باسعار تفضيلية. وفي ضوء ارتفاع الاسعار الدولية، ارتفعت قيمة فاتورة النفط الاردنية بحوالي 70 مليون دولار بعد ان تم تحديد السعر مبدأيا بحوالي 21 دولار للبرميل، مقارنة مع 19 دولار بحسب اتفاق العام السابق، مع بقاء حجم المنحة العراقية النفطية السنوية في حدود 300 مليون دولار. ويتوقع مراقبون ان تضطر الحكومة الى رفع اسعار المحروقات ومنتجات النفط للمستهلك مع بداية العام المقبل لتغطية فارق كلفة فاتورة النفط، وتضييق العجز في الموازنة بالنسبة للناتج المحلي الاجمالي ليصل الى حدود ستة او سبعة بالمئة. وفي ضوء تراجع الواردات وزيادة الانفاق الحكومي خلال العام، يستبعد الخبراء الاقتصاديون ان تتمكن الحكومة من ابقاء العجز في الحدود المعلنة من دون اجراءات تقشفية قاسية من خلال خفض الانفاق وزيادة الواردات الحكومية بفرض ضرائب اضافية الى جانب رفع قيمة ضريبة المبيعات. وتأمل الحكومة ان تخفف من حدة الضغوط الاقتصادية على المواطن، والتي قد ترافق رفع سعر مشتقات البترول، تفاديا لأية اضطرابات مماثلة للقلاقل التي شهدتها مدن جنوب المملكة في اعقاب رفع اسعار النفط في العام 1989. وساهمت زيارة ابو الراغب الى العراق على رأس وفد رسمي كبير، وتوقيعه اتفاقا نفطيا وتجاريا مع بغداد في اعطاء دفعة للحكومة في وقت تراجعت فيه المؤشرات الاقتصادية وغابت المبادرات السياسية الاردنية على الصعيد الاقليمي. وفسر قرار احالة مدير دائرة المخابرات العامة الفريق سميح البطيخي الى التقاعد ثم ابعاده عن منصبه الاستشاري في القصر على انه انتصار لابو الراغب الذي كان يعتبر البطيخي خصما له. واقدم العاهل الاردني على تعيين البطيخي عضوا في مجلس الاعيان رغم تكهنات سابقة بأنه كان سيعين رئيسا للديوان الملكي خلفا للدكتور فايز الطراونة الذي رشحته مصادر مطلعة للخروج من القصر. ولم يعرف ما إذا كان مدير المخابرات السابق، الذي حل مكانه نائبه اللواء سعد خير، سيعود الى منصب سياسي في وقت لاحق. ومني ابو الراغب بانتكاسة سياسية بعد اعادة انتخاب رئيس مجلس النواب عبدالهادي المجالي في احدى اكثر الانتخابات تنافسا، رغم ان الحكومة قدمت دعما لمنافسه النائب عبدالكريم الدغمي. وتوقعت الاوساط السياسية ان تواجه الحكومة صعوبات في علاقتها مع مجلس النواب في دورته الاخيرة بسبب تدخلها في انتخابات رئاسة المجلس، خاصة وان غالبية النواب يحضرون ايضا للانتخابات القادمة المتوقعة في الصيف المقبل. وبدا واضحا مع نهاية العام ان برنامج الاصلاح السياسي ظل يراوح مكانه من دون احراز اي إنجاز يذكر على هذا الصعيد. إذ لم تتقدم الحكومة بأية تعديلات على قانون الانتخاب الذي تركته لقرار مجلس النواب، كما تم تعطيل خطة لإصلاح الجهاز القضائي وضمان استقلاله عن السلطة التنفيذية. ورغم احراز بعض التقدم على صعيد تحرير الاعلام الرسمي بتعيين مدير جديد لمؤسسة الاذاعة والتلفزيون، بدت الحكومة مترددة في اجراء اصلاحات اضافية تحت ضغط القوى المناوئة للإصلاح والحرس القديم.