منذ اسابيع، عادت عجلة السياسة الاردنية الى الدوران بقوة داخلياً وخارجياً، وفي اتجاهات يمكن القول أنها تحظى بمقدار لا بأس به من الرضا في الأوساط السياسية الاردنية، كما في الأوساط العربية، في الوقت الذي يعني ذلك نظرة شك وعدم رضا في الأوساط الاسرائيلية. يمكن القول بداية ان اختيار السيد عبدالرؤوف الروابدة لتشكيل الحكومة الاردنية الأولى في ظل الملك عبدالله الثاني، كانت له دلالته التي لا تخفى على أحد، وتم استكمال ذلك بالتشكيل الحكومي الذي اختاره الروابدة، ومعه التغييرات الأخرى في رئاسة الديوان الملكي ومجلس الأعيان. ثم جاءت الخطوات السياسية التالية لتجعل المسار اكثر وضوحاً. الروابدة أولاً، ليس من طاقم التفاوض مع الاسرائيليين، وليس من المتحمسين للتطبيع والعلاقة الدافئة مع الدولة العبرية، بل يمكن القول انه أقرب الى تعزيز الخط العربي في السياسة الأردنية، وليست له إشكالات مع أي من دول المحيط العربي. داخلياً لم يكن الروابدة متحمساً لأي من الملفات التي خلقت الاشكالات مع القوى السياسية المعارضة وأهمها: قانون الانتخابات، قانون المطبوعات، التطبيع، الكونفيديرالية. جاءت حكومته ضمن النسق ذاته تقريباً، إذ غاب عنها رموز المفاوضات والعلاقة الدافئة مع الاسرائيليين، وهو ما لم يحدث تقريباً منذ مؤتمر مدريد وحتى الآن. ثم جاء اختيار عبدالكريم الكباريتي المعروف بإيمانه بعلاقة متوازنة مع الاسرائيليين، وانفتاح على القوى السياسية الداخلية، ومعه اختيار "المعارض" أحمد عبيدات خلفاً له في منصب نائب رئيس مجلس الأعيان ليضيف إشارة أخرى الى الخط الجديد. الملف الداخلي من الضروري الاشارة، بداية، الى انه كان ثمة ما يشبه الاجماع على ان المسار الديموقراطي أصيب بجملة نكسات خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. وكان قانون "الصوت الواحد" الذي أجريت على أساسه انتخابات 1993 بوابة ذلك التراجع واشارته الأولى، ثم تواصلت العملية في شكل تضييق على كل النشاطات الحزبية والجماهيرية في فترة ازدحمت بالأحداث زلزال اوسلو، وادي عربة، أسئلة التطبيع، أزمات العراق المتلاحقة، وأضيف الى كل ذلك تراجع كبير في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين. أثناء التحضير لانتخابات 97، جاء إقرار قانون المطبوعات الجديد ليشكل القشة التي قصمت ظهر البعير، خصوصاً بالنسبة الى الحركة الاسلامية التي اكتشفت خطأ دخولها انتخابات 1993 بناء على قانون "الصوت الواحد"، كما اكتشفت ان عملها السياسي والنيابي لم يساهم في فك الحصار حولها وتعزيز العملية الديموقراطية، وان خلاصة الحسبة، هي فوز كبير بالنقاط لحساب الحكومة او الحكومات المتعاقبة. وهكذا اتخذت الحركة الاسلامية قرار مقاطعة الانتخابات الى جانب أحزاب المعارضة، وسط تأييد شعبي ونقابي كبير، ولتزداد مسيرة التراجع الديموقراطي وضوحاً، وتسود حال من التوتر السياسي بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، ومن ضمنها الأحزاب. ضمن هذه الأجواء تحركت عملية "المراجعة الشاملة" التي كان الملك الراحل تحدث عنها، وجاء الانفراج واضحاً مع بداية العهد الجديد. وقد تجسد ذلك الانفراج من خلال جملة لقاءات واجراءات، من ذلك: - لقاء الملك مع مجلس نقابة الصحافيين وقوله: "لا حدود للحرية الصحافية الا المسؤولية الوطنية"، وهو اللقاء الذي جاءت إشارته الثانية من رئيس الوزراء من خلال البيان الوزاري، أذ وعد بقانون مطبوعات توافقي، بدأت المشاورات حوله ولم تنته بعد. - لقاء رئيس الوزراء مع النقابات المهنية وحديثه الدافئ اليهم، وضمه نقيب المهندسين الحالي الى الحكومة ونقيب الأطباء السابق، وكلاهما كان مرشحاً على قوائم الحركة الاسلامية وان لم يكونا أعضاء عاملين فيها. ومن المفيد التذكير هنا بأن النقابات المهنية تشكل قوة سياسية تفوق الأحزاب في المجتمع الأردني، وكان اشتغالها بالسياسة مثار هجوم وانتقاد وتهديد متواصل من جانب الحكومات خلال الأعوام الأخيرة. فيما حظيت بإشادة مهمة في البيان الوزاري. - لقاء الروابدة مع الأحزاب كان جيداً أيضاً، وأشاد به قادتها جميعاً، وبالطبع، فقد قدموا مطالبهم التي كان تغيير "قانون الصوت الواحد" على رأسها. - الأهم من ذلك كله هو لقاء الملك بقيادة "الاخوان المسلمين" الذين يشكلون التيار الأوسع في حركة المعارضة الأردنية، وهو كان لقاء دافئاً الى حد كبير، وحمل وعوداً جيدة، جرى التعامل مع جزء منها، مثل الافراج عن معتقلين من شبان الجماعة، والسماح لخطباء ممنوعين بالعودة الى الخطابة في المساجد، والوعد بإجراء الانتخابات البلدية وفقاً لقانونها القديم، والوعد باعادة النظر في قانون الأوقاف. - العفو العام عن السجناء كان جزءاً من معادلة الانفراج الداخلية، وهو العفو الذي شمل عدداً من السياسيين، وان بقيت مطالبات بالإفراج عن بقيتهم مثل الجندي أحمد الدقامسة و"الافغان العرب" ومجموعة صغيرة اخرى تعرف باسم "الإصلاح والتحدي"... وهي قضايا ينظر اليها قضائياً على أنها أمنية وليست سياسية، فيما يتوقع ان يخضع بعضها لعفو خاص. في ضوء ذلك، لا خلاف على ان أجواء انفراج داخلي بدأت تلمس في الساحة الأردنية، فيما ستبقى أنظار القوى السياسية مركزة على موضوع "قانون الصوت الواحد"، إذ يشير بعض الأوساط الى ان التغيير آتٍ وان تسوية "مرضية" للحكومة ومعارضتها قد تتم قريباً، عبر قانون أفضل قليلاً من "الصوت الواحد" غير انه لن يكون مثل القانون السابق. اما اذا لم يحدث ذلك، فإن سؤال الانفراج سيعود الى الظهور بقوة. لكن من الضروري الاشارة الى ان بعض الفعاليات السياسية عاد يشكك في نيات الحكومة بعد تناقض تصريحاتها عن قانون الانتخاب، وقبل ذلك تغييراتها المثيرة للجدل في كادر وزارة الاعلام. الملف الخارجي على صعيد العلاقة الخارجية يمكن القول ان الملك عبدالله فاجأ الجميع بخطواته المهمة على صعيد تعزيز العلاقة مع المحيط العربي، وهو الأمر الذي يتناسب عكسياً مع العلاقة والدولة العبرية. وهنا يمكن الإشارة الى جملة من الأحداث المهمة: - الغزل الأردني - السوري المتبادل بعد حضور الرئيس السوري لجنازة العاهل الراحل كان العنوان الأول، وهو غزل استمر عبر زيارة نجل الرئيس السوري للعاصمة الأردنية ولقائه مع الملك عبدالله، وقضاء رئيس الديوان الملكي الكباريتي إجازة عيد الأضحى في سورية. وبالطبع، جرى تتويج ذلك كله بزيارة العاهل الأردني لدمشق. وهي الزيارة التي فتحت أفقاً عريضاً للتفاؤل بالعلاقة المستقبلية بين البلدين. وجاء تزويد سورية للاردن كمية من المياه 8 ملايين متر مكعب والمفاوضات الجارية حول سد الوحدة، لتعزز موجة التفاؤل. - اللقاء الثلاثي الأردني - المصري - الفلسطيني في عمان الذي ركز على عملية التسوية ومفاوضات الوضع النهائي التي تهم الأطراف الثلاثة، ثم زيارات الرئيس الفلسطيني المتوالية الى عمان. - التعزيز المتواصل للعلاقة مع مصر الذي توج بتدشين خط الربط الكهربائي بين البلدين وتمضية العاهل الأردني إجازة خاصة في شرم الشيخ والعلاقة الخاصة التي نشأت بينه وبين الرئيس المصري. - زيارة العاهل الأردني للسعودية والاستقبال الحافل جداً والوعود الطيبة التي حصل عليها الأردن من الأشقاء في الرياض كانت عنواناً بارزاً آخر ضمن مسار تعزيز الخط العربي في السياسة الأردنية، اضافة الى الزيارات المتبادلة مع دول الخليج الأخرى إضافة الى ليبيا، والحديث عن امكان انضمام الأردن لدول مجلس التعاون الخليجي، ذلك الذي وإن بدا مستبعداً، الا انه يعكس حال التفاؤل ونيات التقارب المتبادلة. العلاقة مع الدولة العبرية في تقرير لها حول العلاقة الاسرائيلية مع الأردن، تقول الصحافية الاسرائيلية سمدار بيري، في "يديعوت احرونوت": "حسب تحذير الخبراء، ينوي الرئيس المصري مبارك اقتراح لفتة إيجابية على الملك عبدالله من أجل تعزيز العلاقات بين بلديهما أكثر فأكثر، فبدلاً من تحويل مياه طبريا إليه، ستقوم مصر بتحويل مياه النيل للأردنيين. الرئيس السوري هو الآخر يستطيع الانضمام إليه ان اقترح عليه مياه اليرموك، والثمن: إبداء القصر الملكي التفهم وتخفيض علاقاته مع اسرائيل بدرجة أكبر". ما تقوله الصحافية الاسرائيلية، بصرف النظر عن واقعيته، يعكس الإدراك الاسرائيلي للمعادلة التي أشرنا اليها آنفاً حول التناسب العكسي بين العلاقة الأردنية - الاسرائيلية والأردنية - العربية. الأردن بدوره يدرك ذلك بصورة أكبر، وهو لذلك كان بعيداً طوال الأسابيع الماضية عن نتانياهو، وتجنب العاهل الأردني ورئيس وزرائه استقبال أي من المسؤولين الاسرائيليين. وجاء الاعلان الاسرائيلي عن نية خفض حصة الأردن من مياه طبريا المنصوص عليها في معاهدة وادي عربة الى 60 في المئة ليعزز هذه الحالة. أما زيارة وزير الدفاع السابق ومرشح رئاسة الوزراء اسحق موردخاي لعمان ثم زيارة باراك، فهما وإن ظهرتا خارج السياق، إلا ان في الامكان وضعهما ضمن الأجواء غير المريحة مع نتانياهو، حيث سيصنفهما هذا الأخير على أنهما عمل موجه ضده قبل ثلاثة أسابيع من الانتخابات. نتانياهو لم يكن حريصاً على توتير الأجواء مع الأردن قبل الانتخابات الاسرائيلية، ولعل ذلك هو سر التراجع في قضية المياه المذكورة. غير ان المؤكد هو ان تل ابيب لن تسكت لاحقاً، أياً كان رئيس وزرائها، عن المعادلة الأردنية الجديدية، وستمارس أشكالاً مختلفة من الضغوط، بشكل مباشر وعبر واشنطن. ويتوقع ان تتبدى حقيقة الموقف الأميركي من التحركات الأردنية خلال زيارة الملك لواشنطن وبعدها. وهنا يبرز سؤال حول رد الفعل الأردني على كل ذلك. لم يكن نتانياهو حريصاً على توتير الاجواء مع عمان في فترة الانتخابات، ولعل ذلك هو سر التراجع الظاهر في قضية مياه طبريا. والمؤكد ان تل ابيب لن تسكت على المعادلة الاردنية الجديدة. ولن يختلف ذلك مع مجيء باراك الى السلطة، بل سيكون اكثر تأكيداً نظراً الى "النعومة" الظاهرة لباراك وعلاقته الخاصة مع واشنطن التي ستشارك تل ابيب في ممارسة الضغوط على الاردن من اجل العودة عن الخط الجديد. ان ما ينبغي ان يقال هنا، هو ان المصلحة الأردنية لا يمكن الا ان تكون في امتداده العربي، وأي تهاون في هذا الخط سيفضي به في أحسن الأحوال الى صيغة "الكونفيديرالية" المفصلة اسرائيلياً، وهي شيء مختلف عن تلك "الرابطة الوحدوية بين الشعبين الشقيقين بعد قيام الدولة الفلسطينية"، التي قال البيان الوزاري لحكومة الروابدة ان المستقبل سيشهدها، واذا أضيف الى ذلك الجانب الاقتصادي، بعدما ثبت ان خيراً لا يأتي من جانب الاسرائيليين بعد خمس سنوات على معاهدة وادي عربة، ثم التوافق الوطني الداخلي الذي تؤكده حالة الانفراج المعززة بالخط العربي في السياسة الخارجية. اذا أضيف ذلك كله، فإن الاستمرار في مسار السياسة الأردنية كما تبدى خلال الأسابيع الأخيرة، سيكون هو الأفضل للأردن شعباً ووطناً. * كاتب فلسطيني