يخرج الفنان زكي ناصيف من منزله، غالباً، الى المقهى. هذا هو الخروج شبه اليومي، يقوم به هذا الكبير في أيام تبدو بطيئة، في غياب حركة فنّية، لديه استعداد "شبابي" لتحمّل متطلباتها كافة على رغم انها لا تأتي... إلاّ قليلاً. مع ذلك، فهو لا يضجر، وليس نادماً لأنه لم يتزوج، ولم يعد يرغب في تناول هذا الموضوع الذي صار وراء... وراء. والبيت الذي ليس فيه امرأة ولا أطفال ولا أجيال كان يمكن أن يكون أجمل بهم، لولا ان ظروفاً حكمت. غير ان زكي ناصيف الذي حكم قدره بفن جميل يدرك سلفاً ان البقاء، إذا كان، فلن يكون بغير ذلك التراث الضخم الذي وضع بين الدفاتر الفنية اللبنانية ذات الاستمرار، أروع النتاج في الألحان والكلمات والأغنيات الموصوفة. احدى المؤسسات التلفزيونية الكبيرة في لبنان، كانت تعهّدت، قبل سنوات، بأن تكفي الفنان زكي ناصيف في شؤون السكن والسيارة والاحتياجات اليومية. نفّذت تعهدها يومذاك، ثم بقيت على العهد تنفّذه، ويشعر ناصيف بالامتنان لها كونها فكرت في ما تفكر فيه الدولة عادة، بمؤسساتها الثقافية والاجتماعية. ويرفض أي تشكيك بهذه المسألة، لأنها عنده حسّاسة، وذات صلة بالقيم النبيلة. ان هذه الضمانات الإنسانية هي أكبر ما يشغل الفنان الذي بلغ من العمر عتياً. وينتظر ان يجد من يقول له بالراحة والطمأنينة ما يقال لكبير أعطى ولم يبخل، وكان عطاؤه ذا منفعة في حركة تاريخ فنّي ابداعي. المؤسسة اللبنانية للإرسال فكرت بالأمر، وبادرت، وحافظت على المبادرة بعناد. واليوم زكي ناصيف، واحد من "موظفيها" له ما لهم من دون ان يكون عليه ما عليهم. افتراض: لو ان هذه الرعاية الأخلاقية العالية لم تتم، فماذا سيكون وضع ناصيف؟ افتراض لا ليقول إلاّ ان في لبنان تجاهلاً منقطع النظير لأمر الفنانين الذين صاروا رموزاً ولكل الآخرين الذين لم يصر وضعهم في خانة الرمز ويحلمون ويسعون. افتراض يشير الى ان وضعاً اجتماعياً متردياً يعيشه كثيرون من أهل الفن، ولا شيء لا شيء مطلقاً أمامهم من ذاك الذي يدعونه في بلاد الحضارة والقيم ضمان الشيخوخة أو الضمان الصحي أو غير ذلك. قبل أربع سنوات بالتمام والكمال، صدرت اشارة حكومية في لبنان الى بدء معاملة الكتّاب والفنانين في لبنان بقوانين الضمان الاجتماعي. يومذاك، قيل لاتحاد الكتّاب ولجميع النقابات الفنية ان الطريق انفتح، ويجب توفير المعاملات الضرورية والأوراق الثبوتية لسريان العمل بقانون الضمان. وحتى اليوم، فإن ذلك القانون لم يصدر جدياً، والمعاملات والأوراق تنتظر، والكتّاب والفنانون أيضاً ينتظرون. وفي كل سنة تشتد همّةٌ ما في هذا الاتجاه ثم تذبل فتذبل معها أحلام فئة واسعة من أهل الفن والقلم، ويسود الصمت. نقابة الفنانين المحترفين لم تنتظر طويلاً. كأنها أدركت ان الروتين الإداري والحكومي سوف يُدخل المشروع في دوّامته، فأنشأت "صندوق التعاضد" الخاص بها والذي يقبل في صفوفه فنانين آخرين من النقابات الفنية الأخرى. وخلال وقت قصير تمكن هذا الصندوق من أن يؤثر ويحضر بجدارة. زكي ناصيف لا يحتاج الى صندوق تعاضد نقابة الفنانين المحترفين، الآن. ربما كان يحتاجه لو كان وضعه كغيره من الفنانين. وهذا وان يكن مطمئناً له بشكل شخصي، إلاّ انه ليس مطمئناً في المعنى العام إذ أنّ اهتزاز حياة فنان في احتياجاته وصحته تقض مضاجع زملائه الذين لا يريدون لمن كانت حياتهم في دورة نشاط وتوثب وجمال ان يقفوا مكتوفين أمام المرض أو الحاجة أو البطالة. وزكي ناصيف، في يومياته، لا يتابع التلفزيون، الفيديو كليبات لا يراها ولا يعرف هذا من ذاك، وهذه من تلك من مطربين ومطربات في لبنان والعالم العربي. يستمع نادراً الى الإصدارات الجديدة، وحتى الحفلات الكبيرة لفنانين من جيل الريادة كوديع الصافي وفيروز ومسرحيات لمنصور الرحباني لا يتابعها، والسبب الذي لا يقوله ربما هو انهم لا يدعونه، ولو قدموا له الدعوة لما استطاع لغياب الحافز. كأنّ الأعمال الفنية تصير روتيناً قاسياً في ذاكرة من يعرف ماذا يفعل الآخرون من دون ان يتحمل مشقة الذهاب الى حيث العمل الفني الذي يقدمونه! يخرج زكي ناصيف الى المقهى، فيجد أصدقاء، والأصدقاء خبز المواعيد.