تأخذ استعادة التجربة الليبرالية العربية في حركة المثقفين المتمحورة اليوم حول الحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان، شكلاً نوستالجياً مجدداً يتسم بالحنين الى الماضي "الليبرالي" العربي، الذي قطعت الانقلابات الشعبوية الثورية وفق منطق تلك الاستعادة تطوره الطبيعي وأجهضت آفاقه. وتحضر هذه النوستالجيا الليبرالية في شكل خاص في وعي الشرائح الراديكالية السابقة اليت تميزت تاريخياً بثقافتها السياسية الانقلابية، وتآكل نموذج "الثورة" في وعيها، وسقط إثر انهيار المنظومة السوفياتية وإشعاع ما يمكن تسميته ب"الموجة الديموقراطية الثالثة" في العالم، والتي باتت منطقتها الجغرافية اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه المناطق الديموقراطية في أي يوم من الأيام. وإذا كانت ثلاثينات القرن العشرين قد شهدت الجزر التاريخي لليبرالية فإن الربع الأخير من هذا القرن قد أخذ يشهد مدها من جديد، ففي هذه الحقبة وتحديداً ما بين أعوام 1974 - 1999 انتقل وفق احصائية آلان غريش حوالى 133 بلداً من النظام التسلطي الى النظام التعددي، مع ان معظم الديموقراطيات الجديدة كانت من نوع الديموقراطيات التي تتبنى "حريات شكلية". وبكلام آخر أخذ التحول الى النظام التعددي يشكل مضمون العولمة الاجتماعية التي تمثل المنظمات غير الحكومية الدولية عمودها الفقري في ما يمكن تسميته اليوم ب"المجتمع المدني العالمي" وهيمنة الايديولوجيا الليبرالية العولمية الجديدة عليه، وما زالت التسوية ما بين مفهومي الحقوق الاجتماعية والديموقراطية السياسية اليوم في إطار تلك الايديولوجيا عصية على الحل، وهو ما يشكل أحد أبرز مشكلاتها. تكونت الراديكاليات العربية على مختلف ألوانها الماركسية والقومية والإسلامية من ناحية تاريخية في مرحلة الجزر التاريخي العام لليبرالية أي في مرحلة الثلاثينات، وشغلت المشهد الثقافي - السياسي العربي طوال الفترة الممتدة من الثلاثينات الى التسعينات. وقد دمرت هذه الراديكاليات التي شكل المثقفون العرب حاضنتها التاريخية التطور الليبرالي العربي، وأجهزت على تجربته الهشة أساساً لكن لمصلحة نماذج تسلطية. ولم يكن ذلك التدمير ممكناً لولا هشاشة التجربة الليبرالية العربية نفسها وافتقادها لجذور محلية شعبية حقيقية، تجعل الانقلاب عليها غير ممكن. ولقد مثلت من حيث أنها "التقليد السياسي للغرب" كما يعبر واتكنز في مقاله صارت من كلاسيكيات الدراسات الليبرالية، مشروعاً نخبوياً هامشياً محدود الشرعية. وهناك مثل كلاسيكي عربي يوضح دور الليبرالي العربي في بناء الدولة هو المثل المصري، إذ انضم جميع أعضاء لجنة دستور 1923 في مصر الى حزب الأحرار الدستوريين أي حزب الليبرالية المصرية، الذي لم يكن تسمية نفسه بالأحرار إلا معادلاً عربياً لكلمة ليبراليين. وكان هذا الحزب هو وريث حزب الأمة القديم الذي كان اللورد كرومر قد أسسه لمقاومة الحزب الوطني الذي قاده مصطفى كامل. وقد حكم ذلك الدستور قواعد النظام السياسي والقانوني للدولة المصرية حتى حركة 23 تموز يوليو 1952. ما يهمنا هنا في شأن نخبوية المشروع وهامشيته وسلطويته أن الليبراليين المصريين قد أصروا خلافاً لموقف حزب الأغلبية الشعبية: حزب الوفد، بأن يضعوا الدستور عن طريقهم وليس عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة. فولد الدستور منذ البداية بوصفه مشروعاً نخبوياً سلطوياً. ولم تكن نتائج ذلك يسيرة، اذ شكل الليبراليون المصريون عماد حكومات الأقليات، وكان أستاذ الجيل الليبرالي أحمد لطفي السيد وزيراً للداخلية يدير القمع ضد المعارضين والفلاحين المتمردين على أسيادهم في حكومة من أسوأ الحكومات الليبرالية صيتاً. ولقد تميزت التجربة الليبرالية العربية عموماً في سائر الأقطار الأخرى بتحولها الى إطار لسيادة الأقلية على الأغلبية سلطوياً. إن التاريخ البرلماني الليبرالي قد سمح بتكون أطراف أخرى مؤثرة في اللعبة السياسية، وساعد على الإحساس العملي بمفهومي الحريات والحقوق إلا انه ظل إطاراً سلطوياً نخبوياً، يحكمه التزوير والفساد وشراء الذمم. وتقدم اليوم مذكرات الكبار من ذلك الجيل الليبرالي سواء كانوا في مصر أم سورية أم العراق أم غيرها نموذجاً ميدانياً حياً على ذلك الفساد، فقد كان هؤلاء الليبراليون هم أوائل من خانوا مثلهم على مرأى من الجمهور الواسع، من هنا لم "يحزن" أحد على هذه النظم الليبرالية العربية حين ترنحت وسقطت أمام جزمات العسكر العقائديين، بل ان ليبراليين كباراً في سورية ومصر في شكل خاص تدافعوا لوضع أنفسهم في خدمة الانقلابيين الجدد، ووصفوا تلك الانقلابات بالحاجة الضرورية. إن الاستعادة النوستالجية لتلك التجربة الليبرالية العربية، ولأيامها "الزاهية" المزعومة، و"مجتمعها المدني" الذي يحتوي على كثير من الأسطورة وقليل من الحقيقة، لا يعود الى أن تلك التجربة كانت زاهية بالفعل، بل يعود الى الوعي المكثف وشبه النهائي بعقم التسلطية الشمولية ونصف الشمولية العربية التي دمرت المجتمع وأطفأت السياسة، ولم تستطع أن ترسخ صورة الدولة كدولة جميع المواطنين. ومن هنا تشكل تلك الاستعادة في الوقت الراهن عرضاً من أعراض أزمة النخب الراديكالية العربية السابقة التي صارت اليوم على نحو ليبرالية، وتعكس بالتالي تعقيدات انتقالها الصعب من عقلية الألوية الحمراء الى عقلية الليبرالية. وتبدو هذه الاستعادة النوستالجية بشكلٍ أو آخر عائقاً أمام مشروع ديموقراطي حقيقي، يسمح للناس بالسيطرة على مصيرهم، وانهاء احتكار الطُغم للثروة والسلطة. ومن دون وعي هذا الجانب الأسطوري في النوستالجيا الليبرالية الراهنة، فإن حركة المثقفين ربما لن تكون أكثر من حركة نوادي وتجمعات لنخب راديكالية سابقة مأزومة لكنها متعطشة بصدق للحرية، وهنا تكمن نخبويتها كما تكمن مشروعيتها. * كاتب سوري.