يخطئ من يقلل من شأن الطلب المتزايد على الديموقراطية في العالم العربي حالياً، أو من يستخف بما يحمله في طيّاته من شعور متراكم بالغبن السياسي والرغبة في إزالة هذا الغبن وإنجاز التغيير ولو على الطريقة التايلاندية أو القرغيزية كما حدث أخيراً. كذلك يخطئ من يؤمن بنظرية «الاستثناء» العربي من الديموقراطية، تلك التي ترى المواطن العربي إما مجرد «تابع» بالفطرة، أو منقاد بالسليقة، وكأنها باتت من المسلمات التي لا تقبل الشك. فقد بدأت الموجة الأولى للتحول الديموقراطي أو ما يطلق عليه Democratization في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد شملت فرنسا وما لبثت أن لحقتها الولاياتالمتحدة، وتبعتهما بعض الدول الأوروبية التي عرفت للمرة الأولى الأحزاب السياسية كما هي الحال في هولندا والدنمارك. ومع بداية القرن العشرين بدأت الموجة الثانية من التحول باتجاه الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، فوضعت فنلندا أول دستور لها يحترم مبادئ المواطنة والمساواة عام 1906، وانتقلت روسيا باتجاه نوع من الديموقراطية الليبرالية تحت حكم ألكسندر كرينسكي قبل أن يستولي لينين على السلطة ويعلن ثورته البلشفية عام 1917. وبعد الحرب العالمية الثانية تمت إزالة أسوأ نماذج الحكم السلطوي في العصر الحديث ممثلاً بنهاية الفاشية والنازية وانضواء كل من ألمانيا وإيطاليا ومعهما اليابان تحت نوع من الحكم الديموقراطي الذي أنتج حكومات تمثيلية يمكن محاسبتها شعبياً. وهبّت الموجة الثالثة من الديموقراطية منتصف السبعينات، على نحو ما أصّل لها المفكر الأميركي الراحل صمويل هنتغنتون، وكان يشير من خلالها إلى عمليات التحول الديموقراطي التي جرت في بقية بلدان غرب أوروبا مثل اسبانيا والبرتغال. وهي مرحلة امتدت إلى منتصف الثمانينات كي تشمل بعضاً من دول أميركا اللاتينية، كما حدث في البرازيل والأرجنتين والمكسيك. في حين جاءت الموجة الرابعة من التحول الديموقراطي أوائل التسعينات بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق وتفكك الكتلة الشرقية، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا وبولندا ورومانيا والمجر وتحول كثير منها باتجاه الديموقراطية. في جميع الحالات السابقة لم يكن لأحد أن يتنبأ بإمكانية حدوث تحول ديموقراطي مفاجئ، أو أن تسقط أعمدة هذه الأنظمة السلطوية غير مأسوف عليها. صحيح أن ثمة متطلبات نظرية (أو شروط بحسب البعض) تقتضي نضوج الحالة السياسية من أجل حدوث التحول (مثل نضوج المعارضة، وزيادة الوعي لدى الطبقة الوسطى، وتنامي الكتلة الحرجة، وتشكيل ائتلافات سياسية صلبة .. إلخ)، بيد أن الصحيح أيضاً هو أن الخبرة العربية لم تعترف يوماً بنواميس أو نظريات يمكنها تفسير الكثير مما يجري على ساحتها الداخلية والخارجية. (هل يفسر لنا أحد لماذا طالبت الجماهير العربية ببقاء عبد الناصر على رغم نكسة 1967؟ وكيف يمكن تفسير الانقسام العربي إزاء الغزو العراقي للكويت عام 1990؟ ومن لديه القدرة على تفسير تقلبات وتحولات وليد جنبلاط الأخيرة؟ ولماذا لم يهاجم بن لادن إسرائيل حتى الآن؟). بالمثل كيف نفسر حالة الذعر التي أصابت الحكومة المصرية من حفنة شباب خرجوا في تظاهرة سياسية؟ ومن يفسر لنا تفتت وانقسام قوى المعارضة المصرية على رغم تشابه أهدافها وطموحاتها؟ الآن ثمة مدرستان لتفسير الحيوية السياسية الطارئة على الشارع العربي، إحداهما تبشيرية والأخرى تنفيرية. الأولى تقول باكتمال ونضوج شروط التغيير (الفشل البيروقراطي والقمع السياسي وهتك الحقوق، والعوز الاجتماعي) وتعوّل على الأداة التكنولوجية فى نشر ثقافة الاحتجاج وتوتير المناخ العام أو بالأحرى تعمل على إنضاج الشرط المجتمعي لنجاح التحول الديموقراطي. لكنها في النهاية تحيل قرار التغيير إلى إرادة «فوقية» أو رغبة «سامية» بإنجاز التغيير، وذلك حقناً للدماء (الثورة الحمراء) وحفاظاً على الاستقرار الذي سيكون حتماً هو الثمن المقابل للتغيير، أي العودة الى المربع الأول وإبقاء الحال على ما هو عليه بانتظار ما قد «يمنحه» القائد لشعبه. أما المدرسة الثانية فترى أن ما يحدث حالياً في الشارع العربي ما هو إلا مجرد «فضفضة» وتنفيس معنوي للفئات الغاضبة، ما يعني عدم وجود أرضية صلبة لأي تغيير حقيقي. ويرى أصحابها أن وجود الطبقة الوسطى ليس شرطاً لتحقيق الديموقراطية الموعودة، ليس فقط بسبب قدرة الأنظمة العربية على احتواء هذه الطبقة (سواء من خلال رشوتها مادياً وخدماتياً أو إنهاكها وظيفياً)، وإنما أيضاً بسبب «انحطاط» أخلاق هذه الطبقة وفقدان الأمل في قيادتها للتغيير. وهي مدرسة اعتذارية في طرحها، تقليدية في مفهومها للتغيير، فهي من جهة تخلط بين الأسباب والنتائج و «تعلّق الجرس» في رقبة الطبقة الوسطى، من دون مساءلة الأنظمة والنخب الحاكمة عما آلت إليه حال هذه الطبقة وغيرها من الطبقات. وهي من جهة ثانية، تدور في نفس الفلك التقليدي بافتراض أن مناط التغيير وأداته الوحيدة هي الطبقة الوسطى (هذا المفهوم فقد معناه ووظيفته من فرط استخدامه من دون إحكام، ولا يتسع خيالها كي يشمل طبقات ومؤسسات أخرى قد يكون لها دورها في قيادة التغيير (تجارب البرتغال وإسبانيا والبرازيل والأرجنتين تكشف دور الجيش والكنيسة والانتلجنسيا). وكلا المدرستين وقعتا في مصيدة «الحتمية التاريخية»، فإما تغيير فوقي يقي بلادنا شرور الفتنة والفوضى بسبب إرثنا الطائفي والعرقي الثقيل، وإما جمود وقعود عن التغيير بحجة الاستثناء «التاريخي» للعرب من التجربة الديموقراطية. في حين أن الواقع يشي بغير ذلك، فما يحدث حالياً في أكثر من بلد عربي هو أكبر من مجرد احتجاجات «مطلبية» طارئة، وأقل من ثورة تنتظر الانفجار. وبالأحرى هو صراع وكفاح بين طرفين متناقضين (الحكم والمعارضة الجديدة) من أجل السيطرة على الفضاء الاجتماعي والسياسي والإعلامي. وهو صراعٌ يطرح قواعد غير مألوفة للعبة، ويستند إلى أدوات متغيّرة بطبيعتها، يحاول من خلالها كلا الطرفين مفاجأة الطرف الآخر بضربات جديدة. هذا الواقع الجديد يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات هي: (نضوج الوعي الديموقراطي) لدى المعارضات العربية الجديدة (الكتلة التي ظلت صامتة لعقود). فإذا تصورنا أن الطريق إلى الديموقراطية يمر عبر أربعة مراحل أساسية، أولها الإحساس بكلفة الاستبداد سياسياً واقتصادياً وحقوقياً، وثانيها ظهور الرغبة في مقاومة مظاهر ورموز هذا الاستبداد، وثالثها التحرك باتجاه إنهاء الاستبداد، ورابعها إقامة نظام ديموقراطي، فإن «الوعي الديموقراطي» يصبح بمثابة «الحصان» الذي يجرّ «عربة» الديموقراطية من مرحلة إلى أخرى أو بالأحرى «الصمغ» الذي يربطها جميعاً. وما نقصده بالوعي الديموقراطي أمران، أولهما إدراك العقل العربي «المعارِض» لآنية وحيوية لحظة التغيير، وثانيهما الإصرار على دفع كلفة هذا التغيير مهما كان ثمنها. وهو ما يدفع «طلائع» المعارضة العربية حالياً إلى إبداع طرق ووسائل جديدة من أجل التعاطي مع عمليات المنع والقمع التقليدية التي تمارسها الأجهزة الأمنية العربية. ويمكننا تلخيص أهم ملامح نضوج الوعي الديموقراطي العربي في أربع نقاط رئيسية، أولها زيادة الطلب على منظومة الحريات الأساسية كحرية التعبير وحرية التجمع وحرية التظاهر وحرية العمل السياسي. والمثير هنا أن هذا المطلب لم يعد مطلباً نخبوياً، وإنما بات أشبه بثقافة تنتقل من فئة إلى أخرى ومن طبقة إلى غيرها، كما لو أنه «بقعة زيت» تنتشر تدريجياً عبر وسائل الإعلام ومن خلال الشبكة العنكبوتية. ثانيها، الانخراط الثقيل للانتلجنسيا العربية في عملية التغيير، ودخول رموز فكرية وثقافية ظلت لفترة طويلة على الحياد، إلى ساحة النضال السياسي. بدأها فى مصر الراحلان عبد الوهاب المسيري ومحمد السيد سعيد ويكملها الآن محمد البرادعي وأسامة الغزالي حرب وحسن نافعة وغيرهم. واللافت أن هؤلاء جميعاً دخلوا المعترك السياسي من الباب «الشعبي» وليس عبر الأحزاب التقليدية، فضلاً عن إصرارهم على إكمال «مشوار» التغيير مهما كان الثمن. النقطة الثالثة، زيادة المناعة الاحتجاجية لدى شباب المعارضة الجديدة، وتراجع ثقافة «الخوف والرهبة» من السلطة تدريجياً، وهي مناعة تزداد تجذّراً كلما زادت درجة القمع وليس العكس. وهنا لم تسقط وظيفة «الردع» لعنف الدولة فحسب، وإنما أيضاً بات اللجوء إليه أشبه بمغامرة باهظة الثمن. وما تشهده مصر حالياً يشي بإمكانية حدوث ذلك، وسيكون خطأ تاريخياً إذا لجأت الحكومة المصرية الى إطلاق الرصاص الحيّ على المعارضين على نحو ما طالب به بعض نواب الحزب الحاكم قبل أيام، فهذا ما يريده المعارضون من أجل إشعال ثورتهم المكتومة. النقطة الرابعة، وهي الأهم، هي تلك المسافة الفاصلة بين حركات المعارضة العربية والدعم الخارجي من اجل تحقيق الديموقراطية. وأهمية ذلك ليس فقط إسقاط أية دعاوى أو اتهامات بالعمالة والتآمر مع الخارج على نحو ما جرت العادة، وإنما بالأساس في إدراك المعارضة العربية أن مسألة التغيير هي واجب وطني محض يجب القيام به من دون التعويل على الدعم الخارجي. ومن حسن حظ المعارضة المصرية أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قرر قبل يومين خفض المعونة المخصصة لدعم برامج الديموقراطية والمجتمع المدني لهذا العام. لا توجد حتمية تاريخية في مسار الديموقراطية العربية، ولم يعد ممكناً، ولا مقبولاً، أن يتم قمع وكبت موجات الغضب المتصاعدة في الشارع العربي، وعند نقطة معينة سينقطع الحبل المشدود بين طرفي الأزمة، وحينها لن يكون بمقدور الأنظمة السلطوية إعادة العجلة إلى الوراء. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]