عندما بدأت الطائرة في الهبوط كانت مياه المتوسط تتهادى كسلى على عتبة برشلونة، تتلذذ بشعاعات الشمس الدافئة النادرة في هذا الخريف المتردد، وقد أزاحت الشمس كل غيومه. ومحت وجهه الرمادي الكدر شمس المتوسط المشاكسة. تتناهى إليّ الأمواج حاملة عتباً خفيفاً بين طيات هديرها عن حديث القطيعة الذي بحجم البحر، هي التي ركضت من أعماق الأزرق البعيد لتتكسر على شواطئ استقبالي، قالت: تلك طريقتها في الترحيب وعلي أن أفهم حديث الموج وحوار البحر، وألا أستمع كثيراً الى حديث المستشرقين خصوصاً المغرضين منهم. نزلت مطار برشلونة، هنا الوجوه غير الوجوه واللغة غير اللغة، وجوه الأوروبيين تكاد أن تنفجر من التورد والحمرة نساء ورجالاً وأنا أتقدم بوجه هربت منه الدماء، مخلفة قارة نصف سكانها هياكل عظمية. تذكرت ذلك الكاريكاتور الذي رأيته قبل مدة في إحدى الصحف العربية الصادرة في المهجر بريشة الفنان راينز هاتشفيلك. رجل أبيض ضخم عرضه عرض السرير الذي ينام عليه. يتأرجح على يمين رأسه هيكل عظمي يتدلى من السقف. يخرج من بطنه خيط مصران كما يخرج الشريان البلاستيكي من زجاجة المصل، ليدخل ذراع الرجل الأبيض الذي ينام قرير العين بعد ان اطمأن الى أن كل خيرات وثروات العالم الثالث صارت في بطنه. وضعت حقائبي في غرفة الفندق ونزلت سريعاً هروباً من حيطان غرف الفنادق الباردة وشوقاً الى التعرف على هذه المدينة التي أنزلها للمرة الأولى والتي أنوي في سري أن استبدل بها حبك الذي بدأ يطوقني ويحاصرني أكثر مما ينبغي... هل كنت أهرب منك؟ أم أهربك معي، من غرفة لن تجمعنا معاً هذه المرة؟ ملأى بالضعف والذكريات هربت من هذا السكن... كيف يمكنني أن أتنكر في سكني الجديد لرجل كان يسكنني حتى العظم؟ هذه المدينة التي دعتني الى حوار معها حوار الثقافات، كأنها تكهنت حاجتي للابتعاد قليلاً عنك، حتى أدخل حواري مع نفسي وأعيد ترتيب حب مجنون الأطوار. أم أنها دعتني لموعدٍ آخر لا علاقة له بك ولا بمشاريعي المبيتة... نزلت الطوابق الأربعة للفندق على إيقاع ذلك السؤال القديم الذي يتأرجح في داخلي، هل الحب انعتاق أم عبودية؟ ذلك السؤال الذي لم أجرأ على طرحه وأنا بين يديك... أنا الآن بعيدة، وأستطيع أن أمتحن هذا السؤال، هل تعوض المدن وهل يعوض السفر وجه من نحب؟ عندما أتعبني السؤال وجدت نفسي في ساحة فرانسيسكو ماسيا، والكاتليون ينطقونها فرانسا سك ماسيا، بحسب اللهجة الكاتالونية، ويتحسسون من كل من يحرِّف الاسم، عرفت ذلك خصوصاً في ما بعد عندما انضم إلينا في دورة - حوار الثقافات - رسام كاتالوني يدعى فرانساسك أيضاً، كان لا يرد إذا نطق أحد اسمه بغير اللغة الكاتالونية، وكان كلما خاطبه أحد الإسبان بالإسبانية يرد باللغة الكاتالونية وعندما كنا نذهب الى المطعم وفي الشارع لا يتكلم إلا الكاتالونية. وعندما سألته أول ما رأيته هل أنت إسباني، غضب وقال "أنا لست إسبانياً وإنما أنا كاتالوني" وطفق يحدثني عن تاريخ الكاتالونيين وأمجادهم... وحتى عندما دعانا الى بيته أخطأت مرة أخرى وقلت له: "هل يمكن ان نسمع شريطاً إسبانياً وأنا أتحرق الى سماع السامبا الإسبانية... نظر إلي بعتب وقال: "سأسمعك فناناً كاتالونياً..." سألت صديقتي إنجلز الكاتالونية أيضاً التي تتعامل بأريحية مع الإسبان وتتحدث الإسبانية معهم من دون حرج، سألتها عن حساسية فرانسا سك وقد مرنت اللسان على نطق اسمه كاتالونيا، ضحكت من لكنتي الكاتالونية وقالت إن فرانسا سك يمثل التيار المتشدد في حركة القوميين الكاتالونيين الذين يطالبون بالاستقلال الكامل والعاجل لمدينة برشلونة عن إسبانيا نهائياً... قلت لها: ولكن لكم برلمان مستقل، وحاكم برشلونة يُختار من طرفكم بواسطة انتخابات ولا يقع تعيينه بحسب ما أعلم. قالت لي نعم، ولكنهم يريدون اكثر من ذلك، الانفصال التام عن إسبانيا فنحن قوة اقتصادية كبيرة في المتوسط، ولنا علاقات تجارية واتفاقات حرة مع أوروبا والعالم، من دون الرجوع الى مدريد، فنحن مستقلون اقتصادياً تقريباً ونطالب بالاستقلال السياسي التام. فرحت برشلونة أول ما نزلتها، إذ لم يكن لي فيها أي صديق ولا أي عنوان وذلك كي نختلي ببعضنا ولأجد نفسي وجهاً لوجه معها. قبل هذه السفرة، كنت أعتقد أنني لا يمكن أن أتمتع بمدينة جديدة من غير أن تعيش معي لذة اكتشافها. كنت تقول لي دائماً إن أجمل المدن تلك التي نزورها مع من نحب... من قال إننا نسافر لننسى؟ في السفر نحمل معنا حقائبنا ووجوه من نحب تندس خلسة بين طيات ثيابنا... وها أنا أراك في كل فستان ألبسه وفي رائحة كل قميص... هل السفر هو اجترار جديد لشريط قديم للذاكرة؟ ولماذا انقاد إليك في غربتي إذا كنت أريد أن أهرب منك؟ ولماذا تشرق تلك الكلمة في نفسي قبل إشراقة صبح برشلونة؟ كانت عشية خريفية دافئة ساكنة وصامتة إلا من حواري الداخلي معها. شبه خالية من المارة. حتى انتبهت الى أنها عشية الأحد. هل تعاني المدن ومن بينها برشلونة، مثلنا كآبة أيام الآحاد. أم أنها تسعد وقد خف حملها لننفرد نحن بتلك الكآبة... نزلت شارع لا دياغونال وهو الشارع الرئيسي وأكبر شارع في برشلونة، إذ إنه يقطعها عرضاً من شرقها الى غربها وكل بقية الشوارع الأخرى هي تفرعات له أو موازية له. كان الشارع عريضاً جداً تسير السيارات في طرقات على جانبيه، بينما وسطه عبارة عن حديقة أو ممشى طويل تظلله الأشجار عن اليمين وعن الشمال، وبين الأشجار تتناثر مقاعد خشبية مستطيلة ذكرتني بحدائق المدن الأوروبية الأخرى كما ذكرتني بحدائق المدن العربية أيضاً. والفرق بين الأولى والثانية ليس في التخطيط والهندسة والنظافة والجمال فقط أو في هذه المقاعد التي قد تكون هي نفسها هنا أو هناك كلها من خشب أو من معدن، ولكن الفرق هو أنني عندما أجلس على هذه المقاعد العامة أو حتى على الأرض أو في أي مكان شئت في المدن الأوروبية، لا يعاكسني أحد ولا يضايقني أحد ولا يقترب مني أحد ليسألني: "لا أدري أين رأيتك من قبل؟". في برشلونة استيقظت هذه الرغبة في نفسي وارتميت على أحد مقاعدها الخشبية، أشعلت سيجارة فلم ينتبه أحد. خلعت حذائي فلم ينتبه أحد ثنيت ركبتي فلم ينتبه أحد. حتى الذين كانوا يجلسون قريباً مني. أحسست فعلاً أنني أحب الشارع وأحب الحدائق العامة وأحب الفضاء العام إجمالاً وأحب جسدي على هذه المقاعد التي تصالحني مع المكان وتصالح جسدي مع المكان، فالشارع لم يعد عنيفاً عدائياً وغريباً تجاه جسدي، يتربص به متى نزل لتنهبه "عيونهم" نهباً، تلك العيون التي تحمل قهرها وحرمانها وبؤسها وفقرها لتسلطه على جسد المرأة ذلك الجسد الذي شكلته التقاليد وأخضعته القوانين وحاصرته الضغوط التاريخية والثقافية والمادية والدينية. في برشلونة، وفي شارع لا دياغونال وعلى تلك المقاعد الخشبية أحسست أن جسدي يتحرر من كل تلك الضغوط ويولد حراً للتو مغسولاً من كل الذنوب التي ألحقت به. تصالحت معه ولم أعد أهربه أنا أيضاً من الفضاء العام الى الفضاء الخاص ومن الليل الى النهار في مدن ما زال الليل فيها للرجال والشارع للرجال. في ذلك الشارع في برشلونة اكتشفت انني من هواة المشي على الأقدام إذ أنني كنت أسير في الشارع بهدف المشي فقط، ولم أكن أنزله اضطراراً لقضاء بعض الأغراض والعودة مسرعة الى البيت، كمكان آمن أحتمي به من فضاء ما زال يعتبر انني دخيلة عليه، واكتشفت أيضاً أن أسباب سعادتي وحريتي "بسيطة" جداً، فأنا لا أطلب أكثر من السير في الشارع من دون أي تلتهمني "عيونهم" وأن أجلس على مقعد بالشارع العام من دون أن أشعر انني مهانة في ذاتي وفي جسدي. في برشلونة كنت أحلم بمدينة عربية لا يعريني فيها أحد عندما أمر أمام مقاهيها. قاعة المحاضرات "الميرادور" تقع في الطابق الخامس، كإضافة حديثة بلورية الجدران والسقف لأربعة طوابق عتيقة من الطراز القوطي لقصر من قصور الارستقراطية الكاتالونية السالفة العهد. مكان تحول الى متحف للفن الحديث في قلب المدينة القديمة قصد إحياء حي مونتالغرو Montalegre القوطي ثقافياً. فكنا في قاعتنا الزجاجية "الميرادور" نشرف على كامل برشلونة العتيقة بشوارعها الضيقة التي تفضي الى ساحات داخلية ما زالت تحتفظ بآثارها الرومانية والقوطية. وأهمها القصور القديمة والمتاحف. ومنها قصر الحكومة الذي شيّد في القرن الخامس عشر. ويعتبر حالياً مركزاً للحكومة المحلية. ورأينا كاتدرائية ببرشلونة. غابة جبلية من الحجارة العالية الداكنة التي تحمل لون العتمة والأبدية والرهبة والوحشة. عالية رابضة تصل قلب المدينة بسمائها حيث اللامرئي يتربص بهذه الحضارة المادية العلمانية ويراقبها بعين لا تبدو راضية عن فصل الدين عن الدولة ولا الدين عن الحياة. صديقتي الإسبانية "إنجلز" Angeles التي تعيش مع الرجل الذي أحبته منذ أربع سنوات من دون عقد زواج على رغم إنجابها منه "ألكسندرا" ابنة الحولين: قالت لي إن أهل "رجلها" لكي لا أقول زوجها لم يعارضوا ولم يناقشوا أبداً علاقتهما، على خلاف أهلها. ومع ذلك فإن "حماتها" اهتزت فرحاً عندما أرتها انجلز فستان الدنتال الأبيض الذي اشترته لألكسندرا وسألتها من دون أن تنتبه: هل اشتريته من أجل تعميدها؟ ... * كاتبة تونسية.