يشاهد المتجوّل في شوارع باريس وسواها من المدن الفرنسية بعض الشباب والفتيات يلفّون رقابهم بالكوفية الفلسطينية أو العربية. والحال ان منظر الفرنسي الشاب الذي يلف رقبته بالكوفية قد يبدو نشازاً بين الجمع، فالشاب يذهب الى رموز أخرى كالحلق والدبابيس وغير ذلك مما يتم تعليقه بعد ثقبه، بعيداً من الانتماءات السياسية والقومية. فإذا كان يصح نسب صفة التضامن لدى الشبان الذين يعتمرون الكوفية، مع القضايا العربية وتحديداً القضية الفلسطينية، في فترة الستينات والسبعينات فإنه لا يصح الآن، على رغم استمرار الانتفاضة الفلسطينية وعرض القنوات التلفزيونية، والقنوات الفضائية أخباراً، وتقارير شبه يومية عن مجريات الانتفاضة يظهر فيها الشباب الفلسطينيون معتمرين الكوفية، اضافة الى تخصيص بعض المجلات الفرنسية السياسية أغلفتها كاملة لصور شهداء فلسطينيين، تم تكفينهم بالكوفية، وغير ذلك من الصور والمشاهد التي تظهر الفلسطيني معتمراً بها. على رغم ذلك فإن اقبال بعض الشباب الفرنسيين عليها لا علاقة له اطلاقاً بالموضوع الفلسطيني برمته، بل بالكوفية فحسب، لا أكثر ولا أقل، بألوانها، بتخطيطاتها وفي شكلها الغريب - عليهم. مرت الكوفية في فترات عزّ واجلال، وتحولت رمزاً للثورة والكفاح، وعلى هذا اعتمرها كثير من الطلاب اليساريين في ثورة عام 1968 تضامناً مع الفلسطينيين أو مع "الفدائي" الطبعة العربية لغيفارا، الذي يضحي بحياته في سبيل قضيته وثورته. واعتمرها كثيرون من أعضاء الأحزاب الشيوعية واليسارية في أوروبا بمثابة اشارة لتأييدهم القضية الفلسطينية، ومناهضة أميركا واسرائيل. ويمكن هنا ملاحظة ان الكوفية الرائجة كانت الكوفية المخططة باللون الأحمر، ويعود ذلك الى انضواء المنظمات والأحزاب المؤيدة للقضية الفلسطينية تحت لواء اليسار، ذلك اليسار الذي كان على علاقة وطيدة مع اليسار الفلسطيني ممثلاً بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين... الخ من هنا يمكن فهم غياب الكوفية المخططة باللون الأسود، فقلائل هم الشباب الذين كانوا يعتمرون كوفية سوداء على رغم اعتمار ياسر عرفات الكوفية دائماً، إذ ظل اللون الأسود لوناً يمينياً. وظهر عدد كبير من الزعماء والثوريين الذين اعتمروا الكوفية الحمراء أمثال: جان جينيه وكارلوس وكمال جنبلاط. ازداد رواج الكوفية في السبعينات وأصبحت توزع على شكل هدايا مجانية، أو تباع بأسعار رمزية في الاحتفالات والأعياد الخاصة، بالأحزاب الشيوعية واليسارية في أوروبا، اضافة الى معظم أحزاب الاشتراكية الدولية. وسرى عرف فلسطيني، وهو تقديمها كهدية للرؤساء والقيادات والملوك في العالم، من زعماء الفصائل الفلسطينية أثناء زيارتهم للخارج، أو زيارة هؤلاء الآخيرين للمخيمات. اعتمرها أيضاً كل من تدرب في المخيمات الفلسطينية كأعضاء حزب توده الإيراني وبعض الفصائل الكردية... الخ. وفي الوقت الحاضر اعتمرها باساييف ومسخادوف وحطّاب العربي في الشيشان، وقادة الثورة الإسلامية في جنوب الفيليبين أيضاً. كانت تعلق في البيوت على الجدران مزيّلة بعلم فلسطين، وبكلمات مثل: تحيا فلسطين، أو ثورة حتى النصر.. الخ. وقيلت فيها القصائد والأغاني ودخلت الى اللوحة التشكيلية لدى كثير من الفنانين العرب والفلسطينيين، وطبعت على أغلفة الكتب الأدبية وغيرها. هذه الفترة الذهبية التي مرّت على الكوفية سرعان ما خفتت ويساهم في هذا الخفوت وضعف حضورها خارج فلسطين، عدد من الأحداث السياسية مثل خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وسقوط الاتحاد السوفياتي، وغياب أو ضعف اليسار الدولي، ومن ضمنه اليسار الفلسطيني، ونهاية الحرب الباردة... كل ذلك أدى الى اقتصار حضورها على الفلسطينيين داخل فلسطين فحسب. وإذ عادت الكوفية رمزاً فلسطينياً داخلياً ولم يبق لها ذلك الحضور الذي كان في الماضي، فلا عجب ان صارت تستعمل - أحياناً - ملاءةً لطاولة الطعام أو حافظة لمخدات النوم، وغير ذلك من الاستعمالات التي لم تعهدها من قبل في بيوت بعض العائلات العربية. ولدى سؤال أكثر من ثلاثين شاباً وفتاة يعتمرون أو يلفّون رقابهم بالكوفية عمّا يربطهم من ناحية الإحساس والشعور بالشبان الفلسطينيين، أثناء رؤيتهم يقذفون الجنود الإسرائيليين بالحجارة، على شاشة التلفزيون، يجيب الجميع أو يشيرون الى عدم وجود أي رابط تضامني مع الفلسطينيين الذين يعتمرون الكوفية نفسها. فكارولين 22 عاماً تلف رقبتها بالكوفية لا لشيء إلا لأن صديقها أهداها إياها. أما فرانسوار 25 عاماً، فاشترت الكوفية أثناء مرورها في حي باريسي الذي تقطنه جالية عربية واسلامية، وقد أعجبت بألوانها ومربعاتها الحمراء الصغيرة. بينما فرانسوا 24 عاماً، - يلفّ رقبته بالكوفية اتقاء للبرد، ورؤية أي أشخاص آخرين يضعون الكوفية بمن فيهم الفلسطينيون لا تثير عنده أي احساس على الاطلاق. ستيفاني 22 عاماً ترى ان الكوفية مصنوعة من القطن، وهي حلوة، وجميلة ويمكنها أن تخفف بعضاً من البرد القارس، "ولا أشعر بأي شيء حين أرى الفلسطينيين يعتمرون الكوفية نفسها". أمال 22 عاماً المغربية التي تتحدر من الجيل الثاني للمهاجرين العرب ترى الأمر نفسه، ويمكن هنا استثناء قلة قليلة من الذين يعتمرون الكوفية أو يلفّون رقابهم بها وينتمون الى أحد الأحزاب اليسارية، فهؤلاء "يسيِّسون" استعمالهم للكوفية. بيار مثلاً 26 عاماً يعتمر الكوفية نكايةً بالامبريالية والصهيونية واسرائيل، وهو يتضامن مع الفدائيين، باستخدامه أحد رموزهم حول رقبته. وأخيراً يمكن القول ان انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وضعف الحركات اليسارية ساهمت الى حد كبير في تحرير الكوفية من السياسي، خارج العالم العربي. ولكن تظل الكوفية وغيرها من الرموز المستمدة من التراث والفولكلور الفلسطينيين ترعب الإسرائيليين والصهاينة، وهي أشبه بشوكة في حلوقهم، إذ تشير الى صمود شعب له تاريخ وعادات وفولكلور وتقاليد في اللباس والطبخ. فما ان يروا أحداً يعتمر كوفية، حتى تهب مشاعرهم الحاقدة السوداء.