تطرح علاقة العرب بالسياسة إشكاليات تبدأ بتعيين الوجود التاريخي. فهذا يطرح علاقة الذات بالآخر، وآلية تشكل النخب الفكرية التي غالباً ما تحتكر سؤال السياسة، وطبيعة تشكل الدولة القومية الحديثة وما ارتبط ولحق بها من طبيعة مؤسساتها القائمة على الاستئثار بالسلطة فانتهى الواقع العربي الراهن الى استبداد مترامي الأطراف لا يعرف له خلاص، وانتهت معه أحلام الفئات العظمى من الشعب في التغيير والنهضة والتقدم وما الى ذلك. انحصر اذاً الفكر السياسي العربي اليوم في السؤال عن اصل الاستبداد وسببه بحسب ما استنتج رضوان السيد في كتابه الحواري مع عبدالإله بلقزيز "أزمة الفكر السياسي العربي" دار الفكر - دمشق فهو يعيد التأريخ للفكر السياسي الاسلامي منذ نشأته ليسأله عن مواطن ازمته وليفسر مآلاته التي انتهى اليها في الزمن الراهن، معتبراً ان المتغير الرئىسي في مجال الفكر الاسلامي كان ولا يزال تزعزع مفهوم الأمة في الفكر الاسلامي الحديث وبالتالي تغير مفهوم الشريعة ووظائفها. ذلك انه ومنذ زوال الخلافة والمفكرون المسلمون يبحثون عن نموذج سياسي، مما اتجه بهم ليس الى اعتبار مبدأ سيادة الأمة بديلاً عن مؤسسة الخلافة كما يجب ان يكون ذلك وانما الى ازاحة لاهوت الخلافة كما يسميه رضوان السيد لمصلحة لاهوت آخر ينتصر للمقدس كما جسده خطاب حسن البنا في قوله "القرآن دستورنا". والقرآن المتحول الى دستور هنا كان المقصود به الحلول محل دستور عام 1923. وهكذا اعيد انتاج الخلافة بخطاب فكري جديد لا يتأسس على الأمة التي غابت وانما يتأسس على الشريعة التي اختصرت في رؤية ايديولوجية محددة هي رؤية الحاكمية كما صكها ابو الأعلى المودودي وتبعه فيها سيد قطب. هذه الرؤية التي آذنت بالافتراق بين الشريعة والجماعة او بين الدين بوصفه مثالاً وبين الأمة بوصفها جماعة مؤمنة به. وبذلك صارت هذه الايديولوجيا هي المعيار لايمان الجماعة او انعدامه وما عادت توجد حلول وسط، فإما ان تكون الأمة خاضعة لتلك الايديولوجيا فيثبت ايمانها، او لا تكون فيتضاءل الايمان الى حد الزوال، وتتفاقم ازمة المشروعية لتصل الى حدود التشكيك في الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات الاسلامية. هكذا غابت مقولة الأمة في الفكر الاسلامي المعاصر والممارسة السياسية الاسلامية، فطبيعي بعد ذلك الا يوجد تفكير في الآليات التي تمكن الناس من صون مصالحهم الخاصة والعامة، والا يوجد تفكير ايضاً - في التجارب العربية الحديثة - يسعى الى تمكين الجمهور من مباشرة مصالحه بنفسه، بل وغابت ايضاً التفرقة الواضحة بين الشريعة والفقه عندما صارت الشريعة ايديولوجيا، وأدغمت الأمة في الشريعة والأخيرة أدغمت في الدولة، وبدأ الكلام الكثير عن الدولة الاسلامية وأصولها وكيفية تأسيسها. واتجه الاسلاميون وفقاً لذلك الى الشريعة باعتبارها المعطى الناجز، الذي لا يمكن إعادة فرضه إلا بالدولة او من طريق سطوتها. يحدد رضوان السيد أزمة الفكر السياسي الاسلامي بأنها غياب لمفهوم الأمة لحساب حضور مفهوم الشريعة وما تبع ذلك من تأسيس لرؤية الحاكمية القائمة على اختزال محدد للشريعة ينحصر وفقها العمل في النضال من أجل الدولة الاسلامية. واذا كان هذا العمل انحرف الى العنف فإن السيد لا يرى ان الاسلاميين هم وحدهم من سلك سبيل العنف من اجل التغيير بل هم حاكوا في طريقهم هذه النخب القومية المتحولة الى اليسار. وما فعله الاسلاميون ليس سوى تقليد تحليلات وحلول تلك النخب مع اعطائها عناوين وشعارات اسلامية. فالجهاد المحول باتجاه الداخل الجاهلي هو نفسه الصراع الطبقي. وحرب الشعب الطويلة الأمد وحتمية الحل الاشتراكي هي نفسها حتمية الحل الاسلامي. أما عبدالإله بلقزيز فلا يحاول تتبع أزمة الفكر السياسي العربي من تكوينه وحتى زمنه الراهن كما يشي بذلك عنوان بحثه وانما يتتبع الصراع الايديولوجي بين التيارات. فيرى ان المسألة السياسية كانت حاضرة بقوة في خطاب جميع هذه التيارات منذ النهضويين الأوائل، مع فارق جوهري قائم على اساس ان الفكر الاصلاحي الاول اكتشف الدولة في دياره كاستعمار وجيش وإدارة في حين تعرف الفكر السياسي الحديث عليها كتنظيم اجتماعي واقتصادي ومدني. هكذا تتشكل القطيعة بين الفكر السياسي الاسلامي الوسيط المؤسس على الآداب السلطانية، وترث التيارات العربية الرئىسية الفكر الاصلاحي وتعيد توظيفه في سياقها الخاص، فاللحظة الماركسية تعيد انتاجه وفق نظرية سياسية حركية لا تهتم كثيراً بتأصيله في التراث العربي الاسلامي، مما جعل خطابها يبدو دائماً غريباً في الأرض العربية الاسلامية وغير متوافق مع اسسها التراثية. اما اللحظة الاسلامية فتنتهي مع البنا وقطب الى انتاج خطاب تمايزي مؤسس على النفي. وتحدث قطيعة تاريخية بين الخطاب الاصلاحي وبين الخطاب الاسلامي الحركي. اما اللحظة القومية فترث الفكر الاصلاحي وفق صيغتها الخاصة. اذاً تتفق التيارات الفكرية العربية المعاصرة جميعها في الاحتفال بالمسألة السياسية. لكن بموازاة ذلك هناك فقر فكري مدقع في مجال انتاج معرفة نظرية بالمسألة السياسية، مسألة الدولة والسلطة والمجال السياسي. الى ذلك، قامت هذه التيارات الفكرية جميعها على فكرة الحتمية. وجوهر هذه العقيدة كما يرى بلقزيز هو جوهر فلسفي مضمر أو معلن يقوم على الايمان بالحتمية بوصفها التعبير المطلق عن فعل قانون الموضوعية. ولقد كان هذا الايمان الأعمى بها هو المسؤول عن سقوط الخطابين الليبرالي والماركسي في نزعة علموية فاضحة. فالدولة الليبرالية على النمط الاوروبي تمثل قدراً محتوماً في رأي الليبراليين العرب. أما الدولة الاشتراكية فهي حتمية تاريخية لا غبار عليها في منطوق الاشتراكيين العرب. وهو لذلك ينتهي الى عدد من النتائج يشترك فيها الفكر السياسي العربي اذاً انتهى الى ان يصبح فكراً دوغماتياً، محكوماً بقطعيات نهائية وبداهات غير قابلة للنظر، فيمنع نفسه من تجديد نفسه ومن إثراء موضوعاته وفرضيات التفكير لديه، ويفقد مضمونه المعرفي والنظري متحولاً الى ادبيات سياسية من طبيعة دعوية بحيث لا يعود في مكنته غير اداء وظيفة تحشيدية وتعبوية ليست من هواجس الكتابة المعرفية والنظرية. لذلك فإن في صدارة اولويات إعادة بناء الخطاب السياسي العربي مطالب معرفية حيوية اولها تنمية المنزع العلمي النظري وتمرين الذات على ممارسة النقد والمراجعة. ثم بناء علاقة متوازنة مع الغرب والموروث. ولكن اذا كان السيد تمكن من كشف الاشكالية والعائق في الفكر السياسي الاسلامي فإن بلقزيز لم يتجاوز مستوى تحليل الخطابات السياسية الايديولوجية العربية وكشف آلياتها السياسية. فغابت الاشكالية في بحثه وتحول الى مجرد قراءة في تطور الخطاب السياسي العربي المعاصر. بينما انتهى السيد في وظيفته كمؤرخ الى اكتشاف الاشكالية من دون ان يغادر وظيفته لبحث مصائر الخطاب السياسي وآليات الخروج من تكويناته الشائهة. فلم يقترح او يقدم لنا حلولاً بعكس بلقزيز الذي كان سخياً في طرح الحلول والبدائل التي وجدها في قيام خطاب فكري عربي تركيبي جديد، يجمع بين هذه المساهمات، فالفكر الاسلامي قدم افضل مساهمة في مسألة الهوية. والفكر القومي قدم افضل مساهمة في المسألة الكيانية وقضية الوحدة العربية. والفكر الماركسي قدم افضل مساهمة في مسألتي التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية. والفكر الليبرالي قدم افضل مساهمة في مقاربة مسألة الديموقراطية وحقوق الانسان. وجمع هذه الخطابات يُكَوِّن الخطاب العربي التركيبي الجديد. وإذا كان بلقزيز يسقط في التلفيقية السطحية فإنه يدافع عن ذلك من دون ان يشعر باستحالة الجمع بين النقائض وان ما يرغب في فعله هو ان يقلي ثلجاً.