هذا المقال مقدمة لكتاب جماعي أعدّه معتز الخطيب في عنوان «مأزق الدولة بين الإسلاميين والليبراليين» وسيصدر عن دار مدبولي في القاهرة. ليس مبالغة القول إن معضلة الدولة شكلت – ولا تزال - محور النقاشات الدائرة في الفكرين العربي والإسلامي؛ فقد شكّلت همومُ الدولة وطبائعها وأدوارها مساحة مركزية من التفكير، سواءٌ في زمن أطروحة الدولة الوطنية التي انشغل بها الإصلاحيون الإسلاميون، أم في زمن الدولة القومية التي سعى إليها القوميون، أم في زمن الخلافة التي أمل كثير من الإسلاميين بإقامتها أو استعادتها، ولا يزالون، وصولاً إلى الدولة الإسلامية التي ظهرت كرد فعل على سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، والدولة الدينية كما نجد مع أفكار الحاكمية وولاية الفقيه. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن أصحاب المشاريع المختلفة أو الأيديولوجيات المختلفة، يعلِّقون مشاريعهم على الدولة التي يُعطونها هذه الأهمية الاستثنائية والخاصة التي تجعل منها المعبود الحقيقي للمجتمع كما لدى القوميين، أو دولة الخلاص واستعادة الإسلام وحماية الشريعة كما لدى الإسلاميين، أو دولة الديموقراطية والحريات الفردية كما لدى الليبراليين. بل قبل ذلك أيضاً، ساد اعتقاد لدى الإصلاحيين في القرن التاسع عشر بأن الخلل الذي أصاب المجتمعات الإسلامية ومدنيتها إنما يرجع إلى تخلف نظمها السياسية التقليدية، في حين تقدمت أوروبا وتفوقت بسبب قوة نظمها السياسية (بما تشمله من جيوش ومؤسسات قوية وإدارة فعالة وتنظيم مالي متقدم... إلخ)، فكان أنْ لجأوا إلى فكرة الدولة الوطنية. ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى مفارقتين في الحديث عن الصراع على الدولة، تتعلق الأولى منهما بأن كثيرين من الإسلاميين يُقرّون بعدم وجود نص على الدولة، وأنها ليست مسألة تعبدية، ومع ذلك خاضوا – ولا يزالون - صراعات كثيرة في سبيلها، ربما دفع إليها الاستقطاب الأيديولوجي الذي كان سائداً منذ السبعينات من القرن الماضي مع العلمانيين في هذا الخصوص. والمفارقة الثانية أن النزاع او السجال الذي يدور حول الدولة بين الإسلاميين والعلمانيين، يقع خارج حدود السلطة الفعلية القائمة وعلى هامشها، التي تارة تنزع إلى هذا ضد ذاك، وتارة تتمسح بذلك ضد هذا، فتأخذ من العلمانية ضِغْثاً، ومن الإسلامية مثله! فالدولة القائمة لا هي إسلامية بالمعنى الذي يريده الكثيرون بمعنى تطبيق الشريعة كاملة، ولا هي علمانية - بالمعنى المعروف للكلمة – التي تفصل الدين عن الدولة وتُلزِمه الحياد فلا هو يهيمن عليها ولا هي تستغله لمآربها وتدعيم نفسها! وفي الواقع ثمة مشكلة في التفكير العربي والإسلامي في خصوص الدولة، شخّصها البعض بأنها تعود - في جوهرها - إلى أن الدولة القائمة في عالمنا اليوم دولة «مستورَدة» - على حد تعبير نزيه نصيف الأيوبي، وبرتران بادي - فُرضت على عالمنا فرضاً من الإمبريالية الغربية، وتضخمت تضخماً شديداً تحت رعايتها حتى تحقق مصالحها وتحافظ على هيمنتها. ثم جاءت الاستقطابات الأيديولوجية فزادتها تعقيداً واتسعت الهوة، وظهر سيل من الأفكار والنقاشات، يمكن أن يتم النظر إليه من زوايا مختلفة أو متعددة، بعضها سياسي وبعضها معرفي، وبعضها قانوني، إلى غير ذلك. ومساهمة منا في هذا النقاش حول الدولة، كان هذا الكتاب الذي يحاول تشخيص مأزق الدولة في عالمنا العربي وفكرنا الإسلامي، من مواقع مختلفة، يجمعها الهم النقدي، ونُشدان الدولة التي تحقق مصالح الأمة، وتحفظ حقوقها، وإن اختلفت التصورات وتَفَرَّقت السبل. فالفصل الأول «الدولة... معضلة المفهوم والتطبيق» يؤكد التعقيدات التي تكتنف مصطلح «الدولة»، سواءٌ على مستوى المفهوم أم على مستوى الكيانات القائمة والشاخصة في عالم اليوم. لكن ثمة اتفاقاً تقريباً - في هذا الفصل - على أن الدولة «هي آلية لتنظيم الشؤون الاجتماعية المشتركة»، و «هي التعبير عن نجاح المجتمع في الوصول إلى توافقات وبناء مؤسسات تعكس تجاوز تجربة العنف، وتضمن استمرار السلام، ومن ثم الاستقرار والتعايش المديد بين السكان. فكل دولة هي مشروع بناء أمة أو مجتمع متفاهم مع نفسه ومع السلطة المركزية التي يخضع لها طواعية، وتقوم بمهام تنظيم شؤونه وإدارة مصالحه» - بتعبير د. برهان غليون –، وهي «تعبير عن جماعة وأداة للحكم بين الناس»، فالدولة ممثلة للجماعة الوطنية، ترعى الشأن العام للمواطن والشعب، أما نظامها السياسي والاقتصادي «فنظام قانوني يناط به الفصل بين الناس بالعدل وإدارة دولاب الحكم» - بتعبير المستشار طارق البشري -. وإن كان البشري يعالج معضلة الدولة القائمة وليس دولة المفهوم والفكرة، ويبحث في سبل الخروج من حالة الشخصنة التي آلت إليها الدولة اليوم والسبل التي تنمّي الفعل الشعبي الذي من شأنه أن يَرِد من خارج الإطار الرسمي المرسوم من غير توقع ولا حساب. وإذا أردنا ألا نناقش في فراغ فلا بد من أن نميز - عند النقاش في موضوع الدولة - النموذج الذي نتحدث عنه، أو نصطرع عليه؛ فكل طائفة أو تيار يَصدُر عن مفهوم وتصور للدولة، كما يصدر عن مرجعية مغايرة لمرجعية الآخر. فثمة خلط بين مفاهيم متعددة للدولة، وبين مفهوم الدولة والجماعة السياسية، بل إن نصاب السياسة ليس واحداً، وليست ماهية السياسي متطابقة في كل العصور والأقطار. كما أن علاقة الدولة بالجماعة السياسية ليست واحدة في كل الأنماط السياسية، فإذا أضفنا إلى هذا كله ذلك التصور الذي يرى أن التمييز بين السياسة والدين أمر مبتدع لا يجوز القبول به أو الارتهان إليه تفاقم المأزق واستحكمت المعضلة! عليه، يتطلب تحديد مفهوم الجماعة التدقيق في الدلالات المختلفة لمصطلح الدولة، السلطانية والديموقراطية، وكذلك يتطلب تحديد مفهوم الدولة التدقيق في استخدام مصطلح الأمة الذي يقضي بالتفريق بين المعنى الديني والمعنى السياسي، إذا ما احتكمنا إلى الفكر السياسي الحديث، الذي يحتكم إليه برهان غليون. إن جزءاً مهمّاً من الصراع الدائر حول الدولة في فكرنا العربي منذ أكثر من ثلاثة عقود، يرجع إلى غموض مفهوم الدولة ذاته أو تشوشه في الوعي العربي العام، وعند معظم الأطراف. وليس من الاستطراد هنا الإشارة إلى أن عبدالإله بلقزيز حينما كتب عن «الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر» (ط . 2002) لم يتعرض لمفهوم الدولة أصلاً!. فمصطلح «دولة» يُطلق على نماذج لا حصر لها من الدول، كاملة التكوين أو مُنجزة، وناقصة التكوين، أو غير مستكملة لشروطها، بل ومجهضة كالمولود السّقط. ويُطلق كذلك على أصناف من الدول ذات أشكال من التنظيم للسلطة العامة، وللمجتمع ككل، ووظائف عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية واجتماعية، وغايات يمكن أن تتباين من النقيض إلى النقيض. ولهذا استعرض غليون أنماط الدولة وأشكالها في ذهنيات او تصورات الأطراف المختلفة من إسلاميين وليبراليين وماركسيين، وحتى أولئك الذين لا يؤمنون بالدولة! كما شخّص الصراع الدائر، وحلل انعكاساته ودلائله، ورأى فيه انعكاساً للطلب الاجتماعي المتزايد على الدولة من حيث هي مؤسسة لمصالح عامة وطنية مقابل المصالح الخاصة، كما رأى فيه انعكاساً لانحلال النظم الوطنية بشعاراتها وأفكارها وقيمها وأهدافها وغاياتها وسياساتها ومناهج عملها وتسييرها. وفي هذا السياق تتأكد مقولة هاني فحص عن «امتناع تنميط الدولة»، بمعنى اقتراح نمط واحد لها من كل التيارات المتصارعة، لكن هذا الامتناع عنده قد يكون تمهيداً للقول بخصوصية أو بنمط مغاير للدولة «الغربية» – وهو ما سيتضح أكثر في الفصل الثاني من الكتاب -، فهذا الخطاب يحاول أن يخرج من مأزق عدم وجود «دولة إسلامية» محددة المعالم، فيُقرُّ بأن شكل الدولة وطريقة تشكيلها ليسا شأنَ الدين، لا الاسلام ولا غيره، فلا توجد وصفة دينية ملزمة للدولة، وإنما شأن الدين - بما هو معرفة وسلوك وثقافة وقيم وعلائق وتقوى - هو أداء الدولة، أي عدالتها. إن هاني فحص يسعى هنا إلى القول بنوع من التمييز بين الدين والدولة وليس الفصل، فهو تمييز يحدد ملامح الوظيفة الفقهية حتى لا تختلط بالوظيفة السياسية، تمييز يسحب من الفقه أو من الفقيه صلاحيات تحديد شكل الدولة أو اقتراح طريقة تشكيلها، إلا في حدود كونه شريكاً متكافئاً مع الآخرين من أهل المعرفة في هذا الشأن وأهل الخبرة. وهي فكرة ستزداد وضوحاً في الفصل الثالث من هذا الكتاب، مع بحثي لمسألة «الفقه والفقيه ومتغيرات السلطة» التي تقرر أن فكرة الدولة الحديثة أو القائمة في عالمنا قضمت كثيراً من صلاحيات الفقيه لمصلحة أدوار جديدة فرضتها طبيعة المتغيرات والتراكمات المعرفية ونشأة حقول معرفية جديدة ونشأة أدوار ووظائف اجتماعية لم تكن من قبل. إن التمييز الذي يقترحه فحص يجعل من الفقه ثقافة معيارية، معيارها الحرية والعدالة، الحق والقانون، أي ديموقراطية تحضّ على العدل، وتحرض على الجور، وتتعاطى مع مضمون الدولة ومعناها لا مع شكلها ومبناها، ومن موقع إرشادي حاضن، لا من موقع الولاية والوصاية القابضة على زمام الأمور؛ لأن المولى هو الله سبحانه في المطلق وفي التاريخ، أما الولاية على الأمة فهي للأمة نفسها، وهذا من شأنه أن يعكر صفو الأطروحات السياسية التراثية والحركية المعاصرة التي تجعل من الدولة هي الحاضن للشريعة وليس الأمة. إلى ذلك، ثمة مسألة شديدة الأهمية في الحديث عن الدولة وضرورتها، فالدولة كما يتضح من الفصل الأول وبخاصة في ورقتي فحص وغليون، ضرورةُ اجتماع، يقتضيها الاجتماع ويبنيها، لا تبنيه، معنى ذلك أن الاجتماع متغير ومتطور تبعاً للأزمنة والأحوال وتطورات انتظامه وتكويناته ومعارفه، فإذا تغيّر وعي الاجتماع لذاته وعلائقه، وتغير وعي الفرد لموقعه في المجتمع ومسؤولياته وحقوقه وواجباته، وتغيرت الأدوار تبعاً لذلك، فلا بد من أن يؤثر ذلك في شكل الدولة، وأدائها، ودورها، ومصدر شرعيتها، وآليات تحقيقها، طبقاً للتغيرات الحاصلة في بنيان المجتمع. وهذا المعنى سيصادفنا كذلك في مطلع الفصل الثاني «أطروحة الدولة الإسلامية»، حين يقرر راشد الغنوشي أن التصور الديني التراثي يجعل الدولة (نصب الإمام الذي هو رأس الدولة) «واجباً دينيّاً لإقامة الشريعة وضرورة اجتماعية إنسانية لا بديل منها في توفير شروط بقاء الجماعة»، وأن الخوارج هم وحدهم الذين شذوا – في القديم - فجعلوها ضرورة اجتماعية فقط، لكنه لا يلبث أن يقرر أن التصور الوسطي الذي عليه جمهور الإسلاميين يتمثل في اعتبار السلطة ضرورة اجتماعية وأداة من أدوات الأمة في إقامة عدل الإسلام، وأنها مجرد أداة اجتماعية توظفها الأمة لحراسة الدين والدنيا، وأن القائمين بها ليسوا سوى خدام عند الأمة؛ إذ هي المخاطب الحقيقي بإقامة الشريعة، بما يجعل شرعيتهم موقوفة على إنفاذهم للشريعة والتوافق مع توجيهاتها كما يرتضيها جمهور المسلمين. وهذا المسلك كان مدخلاً لقول الغنوشي بضرورة الدولة الإسلامية، ما دام الإنسان اجتماعيّاً بطبعه، وما دام الإسلام نظاماً شاملاً، وهي دولة الرسالة، ولا تختلف عن الديموقراطيات المعاصرة إلا من حيث علوية المبدأ الخلقي في إقامة العدل وفق ما جاءت به الشريعة أو وفق ما لا يخالفها، وهو ما أسست له مدرسة الإصلاح كما جاء بيّناً في فكر كل رموزها مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا وحسن البنا وحسن الترابي والمرجع الشيعي المعتبر المرحوم آية الله محمد مهدي شمس الدين.هذا التصور الإصلاحي لمدنية الدولة الذي قرره محمد عبده وغيره من الإصلاحيين، وحافظ عليه رواد الحركة الإسلامية من بعده حين قالوا بالدولة الإسلامية، دفع إلى اعتبار الدولة ضرورة اجتماعٍ لا ضرورة دينٍ. لكن نصر عارف انتقد تلك الكتابات الحديثة في النظام السياسي الإسلامي أو في الفكر السياسي الإسلامي التي تستبطن النموذج المعرفي الغربي في علم السياسة وفي التفكير السياسي، وتحاول أن تنسج على منواله. وهو مع ذلك يُقرُّ بأنه لا يمكن الادعاء بأن هناك نظاماً سياسيّاً إسلاميّاً واحداً محدد المعالم والخصائص والمكونات، بل هناك منظومة معرفية إسلامية تعالج الشأن السياسي وتحدد له الأسس والمنطلقات والمقومات والمقاصد، وعن هذه المنظومة ومنها تنبثق نظم سياسية كثيرة مختلفة المكونات والأشكال والوسائل والصيغ. وعليه، فهو يحاول تقديم أسس نظرية عامة لملامح النظم السياسية الإسلامية، وأهم ملامح هذا النموذج الإسلامي المقترح، أنه يتخذ من المجتمع مركزاً له، بينما يهمش - إلى حد كبير - دور الدولة، بالاستناد إلى أن النموذج النبوي يشهد على أسبقية المجتمع على الدولة في الأهمية والاهتمام، كما أن الجدل الكلامي المبكر الذي أسهم في تكوين الفرق الاعتقادية انطلق - في أساسه - من اختلاف بين تيارين أحدهما يرى أولوية الدولة، وكيف أنها أصل من أصول الدين وواجب عليه تعتمد بقية الواجبات. وثانيهما يرى أنها وسيلة لا أصل، وأن الدين يحتضنه ويعبر عنه المجتمع وليس الدولة، وقد كانت السيادة التاريخية من حيث الأغلبية والنفوذ للتيار الثاني. ثم إن مفهوم السياسة في الإسلام كمنظومة فكرية يجعل معظم الفعل السياسي فعلاً مجتمعيّاً غير قاصر على الدولة أو على أجهزتها السلطوية، فجوهر هذا المفهوم هو الإصلاح أو المصلحة، تأسيساً على معناه اللغوي. الفصل الثالث «إشكالات الدولة الإسلامية»، ينصبّ في الأساس على محاولة تحديد معالم الدولة الإسلامية عند القائلين بها، ودراسة علاقة الدين بالدولة والدولة بالدين، بدءاً من التراث السياسي الإسلامي وصولاً إلى حركات الإسلام المعاصر، ليقدّم رؤى نقدية في أطروحة الدولة الإسلامية ويبلور بعض إشكالاتها، بالاستناد إلى قراءة التجربة التاريخية في محاولة لإزالة اللبس الذي وقع فيه القائلون بأطروحة الدولة الإسلامية. وفي هذا الفصل، يعيدنا د. رضوان السيد إلى ناحية استعراض التجربة التاريخية للدولة الإسلامية بعد زمن النبوة؛ لأن هذا الاستعراض سيُفيدنا مع الإسلاميين بأنْ يضعَ الأمورَ في سياقِها المعتبر لدى المسلمين في أزمنة الخلافة والسلطنة وعلى مدى قرونٍ عدة استقرتْ فيها المفاهيمُ والآليات، مفاهيمُ علاقة الدين بالدولة، والآليات التطبيقية للنصوص وللاجتهادات وللأفهام. يبدأ السيد من تعريف الإمامة لدى الماوردي وغيره بأنها «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»، وهو تعريف محشوّ بالإيديولوجيات، وبصراعات العقائد والمذاهب والسياسات حتى أيامه. وعلى رغم أن الماوردي يَعتبر منصب الإمامة أو السلطة الإسلامية يستند إلى «الوضع» وليس النص؛ ما يعني أنها منصب مدني «وضع» بإجماع الصحابة، إلا أنه باعتباره الإمامة أداة أو وسيلة أو سلطة لحراسة الدين – بالإضافة إلى الوظيفة المتعارف عليها للسلطة – يكون قد أعطى الخلافة صلاحيات وطابعاً دينيّاً؛ فهي إمامة وخلافة «عن النبوة»، وهي تقوم بالإضافة إلى سياسة الدنيا (وهي المهمة المتعارف عليها لأي سلطة)، بمهمة دينية كبرى هي حراسة الدين. وحين ذكر الماوردي وأبو يعلى الحنبلي المؤسسات الفرعية التي تشرف عليها الخلافة؛ كان من بينها ولايات دينية بحتة: الولاية على إمامة الصلوات، والولاية على الحج، وولاية الصدقات، وأحكام الحسبة، وولاية النقابة على الأنساب. لكن رضوان السيد لاحظ أمرين إثنين: الأول صراع طبقة العلماء والفقهاء مع السلطة السياسية طوال القرن الثاني الهجري على المرجعية في الدين، وتجلى الصراع الثاني مع المحدثين أو أهل الحديث والسنّة في (المحنة)، أي الخلاف بين المأمون العباسي من جهة، وأحمد بن حنبل وزملائه من جهة ثانية، حول من يتولى تحديد طبيعة التعامل مع القرآن، وهل هو الخليفة (الذي قال: إن القرآن مخلوق) أم أهل السنّة والجماعة (أصحاب الحديث) الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق! ومما له دلالته أن أهل السنّة هؤلاء كانوا يقولون بوجوب الطاعة للسلطان في الشأن السياسي، ولا يرون طاعته في الشأن الديني (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). إن وقوف الفقهاء في وجه الصلاحيات التشريعية للسلطة، ووقوف المحدثين في وجه المرجعية الدينية للسلطة السياسية، هذان الموقفان يتصل أحدهما بالآخر، لكن موقف المحدثين كان أكثر جذرية، وأوضح لجهة التمييز بين المجالين الديني والسياسي. وقد كان من نتائج هذا الصراع، أن استقل المجال الديني عن المجال السياسي بعد منتصف القرن الثالث الهجري، فتولى العلماء (ورثة الأنبياء) الشأن الديني، وانفردت السلطة بالشأن السياسي، وبقيت المرجعية العليا للإسلام، كما بقيت المرجعية القانونية والمؤسسات للسلطة السياسية، كما في كل دولة. وبالعودة إلى الدولة أو الإمامة ذات الطبيعة الدينية نجد أن المقايسة بين علاقة الدين (الزرادشتي) بالدولة وعلاقة الإسلام بالدولة، هي التي أفضت إلى تلك الصياغة (حراسة الدين وسياسة الدنيا)، وهي صياغة يراها رضوان السيد «وهمية». استمرت الخلافة حتى مطلع القرن الرابع الهجري إلى أن فوجئ الفقهاء بظهور الدولة السلطانية، وهذه الظاهرة الجديدة، التي بلغت ذِروتها عام 333/334 ه بدخول البويهيين إلى بغداد، دفعت الفقهاء وكتاب الآداب السلطانية، والفلاسفة وغيرهم إلى كتابة قراءات لأوضاع الخلافة فظهرت ثلاثة كتب في «الأحكام السلطانية» ما بين 440 و470ه هي: كتاب الماوردي، وكتاب أبي يعلى الحنبلي، وكتاب إمام الحرمين الجويني. أما الماوردي وأبو يعلى فيعترفان بالتغير وبالوقائع الجديدة، ويعتبران أن الحل الموقت الذي جرى التوصل إليه (ألا يباشر الخليفة الأمور بنفسه، بل من خلال تفويض أمير الاستيلاء) هو الوحيد الممكن والمعقول، لأنه يحافظ على وحدة الدولة (لا على وحدة السلطة)، ويترك الأمل والباب مفتوحاً لتصحيح الأوضاع باتجاه توحد السلطة (الدستورية) والقوة من جديد. لكن الجويني يختلف معهما، بل ويهاجم معاصرَه الماوردي من دون أن يسميه. فالخليفة العباسي صار عبئاً ولم يعد ميزة، ولا حاجة الى هذه الازدواجية السلطوية، ولا حاجة أيضاً الى بقاء الخليفة لسبب ديني، فالشأن الديني يتولاه الفقهاء والعلماء. أما السياسة (تدبير الشأن الداخلي)، والشوكة (الجهاد والدفاع عن دار الإسلام)، فيتولاهما السلطان، سواء سميناه خليفة أم لا. لكن الاتجاه التقليدي المؤسسي هو الذي انتصر في الظاهر، فقد بقي الخليفة، وحَكَم السلاطين، وظلوا يطلبون التكليف منه مهما بعدت أقطارهم. واستناداً إلى هذا الإدراك للمتغيرات، تشبث الفقهاء بالأمر الديني والشعائري وما يتصل بهما، ولجأوا في المجال العام إلى تطوير ما اعتبروه «سياسة شرعية» للخروج من الضروري والطارئ إلى الصالح والشرعي. فجرى - بعد انتصار القوة والشوكة في الدولة - الانتقال من «الأحكام السلطانية» إلى «السياسة الشرعية»، أي أن المصلحة صارت مصدراً شرعيّاً، كان على الفقهاء الانصراف إلى تقنينه وضبطه بالقدر الذي تسمح به السلطة والظروف. فاضطر الفقهاء إذاً الى شرعنة إمارة الاستيلاء وسلطنة التغلب، حفظاً للوحدة، ودرءاً للانقسام، واعتبروا أنه ما دامت الخلافة قائمة، فإن المشروعية التأسيسية متحققة، والخلل إنما داخل شرعية المصالح؛ وهذا يمكن تلافيه بالإصرار على العدالة. وهذه النزعة يجعلها د. القرضاوي معبِّراً عن واقعية الفقه الإسلامي، وأنه لا يعيش في الهواء بل في الواقع ويتفاعل معه. وبقي الأمر على هذه الحال حتى مشارف العصور الحديثة، إذ أُعيد القول في الفقه والفكر السياسيين، مع صدمة الغرب وظهور الدول الحديثة، ثم مع سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، فقد طوَّر الشيخ محمد عبده أُطروحة الدولة المدنية في الإسلام في سياق الجدال مع فرح أنطون حول العلمانية، ثم تأسَّست الحركات الإسلامية العاملة لاستعادة الدولة الإسلامية التاريخية، والتي تطورت لديها في خمسينات القرن العشرين وستيناته مقولةُ (الدولة الإسلامية) التي تكتسبُ اسمَها هذا من (تطبيق الشريعة)، في مقابل تيارين آخرين، يرى أحدهما ضرورة إعادة الخلافة، ويرى الآخر ضرورة القول بالعلمانية. والصراع إنما قام ويقوم بين هذه التوجهات الثلاثة. إن التطور الذي استجدّ في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء تصور او مرجعية الدولة الحديثة، بما هي مهيمنة على تفاصيل حياة البشر، وفي هذا السياق حدثت تحولات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام، وهي «النظام الشامل»، فتحولت من إطار دولة مجسدة لها وقائمة بها، إلى إطار جماعة أو تنظيمات إسلامية، فجرى الدمج بين الإسلام بصفته نظاماً شاملاً، وبين ما سمي لاحقاً ب «الإسلام السياسي» على معنى المشاركة في السلطة، أو السعي إليها. فاشتمال الشريعة الإسلامية على مسائل السياسة أمر لا مفرّ من الإقرار به، وهو ما يشهد به ذلك النتاج الفقهي الضخم، والتاريخ الإسلامي أيضاً، بل ويشهد به التحليل المنطقي عن تعريف الفقه الإسلامي وبناء تصوراته، لكن الجديد والطارئ هو مَنْ يمارس تلك السلطة، ويقوم على تطبيق تلك التصورات. هنا حدث - ويحدث - الكثير من الاضطراب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة والصراع على السلطة والمرجعية أيضاً. * كاتب سوري