يغص المحترف التشكيلي في البحرين بالتجارب الفنية، التي ينزع بعضها الى تلمس طريقه في اتجاه نوع من الفرادة الأسلوبية، في حين لا يزال البعض الآخر ملتبساً بالمؤثرات الأسلوبية العربية والعالمية. وفي الحالين فإن الفن التشكيلي البحريني يمتلك نبرته العالية والواضحة. وهو أمر يرتكز على غنى التجربة الفنية وقدمها قياساً الى مثيلاتها في دول الخليج الأخرى. وللمرأة حضور لافت في المنجز التشكيلي هناك. هذا الحضور لا يمثله اهتمام تزييني، يتم في جزء منه لأسباب مظهرية تلخص نوعاً من التنافس الاجتماعي، كأن تتسابق النساء على اقتناء الأعمال الفنية، وهي على العموم ظاهرة طيبة، بل يجسده وقوف المرأة تنافسياً الى جانب الرجل، مشاركة في المعارض الجماعية، من جهة، ومن جهة أخرى، مندفعة في اتجاه تحديث العمل الفني وتعميق الوعي بحداثته. ورسوم الفنانة بلقيس فخرو ليست استثناء في هذا المجال. فهناك الكثيرات من الرسامات اللواتي تمثل تجاربهن التشكيلية لحظات جمالية تتصف بفرادتها، أو على الأقل بسعيها الى التجريب الفردي. أثارت اهتمامي في غير مناسبة تجربتان لفنانتين من البحرين تكاد تفصل وتفرق بينهما سبل كثيرة. وهذا الاختلاف هو سبب مضاف من أسباب الاغراء بالاقتراب منهما وقراءتهما، كل تجربة على حدة. أقصد: هلا الخليفة ولبنى الأمين. هاتان الرسامتان استطاعتا في وقت قياسي أن تنضما بامتياز موهبتهما الصريحة الى المشهد التشكيلي في البحرين. ولا أتحدث هنا عن واقع افتراضي يستدعيه التوقع المحض، بل عن مشاركة فعلية لافتة، ان عبر المعارض الفردية أو من خلال العروض الجماعية. ورسومهما اليوم تمثل عالمين منفصلين عن التجربة الجمالية المكرسة في بلدهما وفي الوقت نفسه ملتصقين بالنسيج العضوي لتلك التجربة. وفي شكل عام فإن الاثنتين لا تبديان كثير اهتمام للالتصاق بالمعنى المكرس لمفهوم المحلية إلا بنسب متباينة وغير أساسية وخصوصاً على مستوى المواد المستعملة لدى الأمين التي وجدت في الأبواب القديمة عنصر الهام لها وكذلك مساحة يتمدد عليها فضاؤها المتخيل لونياً. وليس في هذا السلوك ما يثير أية حفيظة استفهامية بصدد التأويل النظري للفكرة. إذ يمكننا القول بيسر ان هذه الرسامة استبدلت قماشة اللوحة بخشب الأبواب القديمة لما تنطوي عليه هذه المادة من حساسية ملمس جاهزة. وهي حساسية استدرجتها الرسامة في اتجاه فكرة العتق الماثل باسترخاء في أعماق انسانيتنا. انها تعيدنا الى الأماكن التي غادرناها، حيث تركنا جزءاً منا لا يزال حياً. الأبواب لدى هذه الرسامة شواهد وليست علامات. وهي فاصلة بين زمنين وليست مجرد حجاب يخفي وفي الوقت نفسه يؤذن بالانتقال من مكان الى آخر. أبواب هذه الرسامة هي سطوح وليست خلفيات. لذلك فإنها كأي عنصر آخر من عناصر بناء اللوحة لا تتوقف عن اقتراح جمالياتها، أثناء الرسم وأثناء المشاهدة على حد سواء. ولا بأس ان عثرت لبنى الأمين على شقوق أو ندب أو حروق على الخشب، بل ان هذا الاكتشاف لا بد ان يكون مصدر سرور لها. ذلك لأنه يكون أشبه بالجدار القديم الذي نصح دافنشي بتأمله واستخراج الأشكال من الآثار التي تركها الزمن عليه. الأمر يتعلق بالإلهام أيضاً. ولن تفوّت الرسامة فرصة الهام جاهزة مثل هذه، إذ عملت على تحريك هذه المفردات عن طريق اللون الملقى باستفهام مسبق وجعلت من السطح فضاء مملوءاً تشتغل فيه العلامات. لقد استخرجت الأمين من السطوح الخشبية عالمها الجمالي الذي يظل عالماً افتراضياً ما دام الخشب ماثلاً للعيان. وما دامت الرسامة لا تعني بإخفائه رغبة منها في الاستمرار في التماهي مع تجلياته. لكل واحدة من الرسامتين عالمها الشكلي الذي يكشف عن نزعتها الرؤيوية الغامضة. وإذا كانت لبنى الأمين وهي التي تحاشت الخوض في الرسم مدرسياً، استعارت من العالم الخارجي سطوح لوحاتها، فإن هلا الخليفة تستأنف الرسم من لحظة فرار من المحيط. الأولى تقيم عالمها الشكلي في انسجام تذوقي مع التزامات جاهزة يهيئها المحيط الخارجي، أما الثانية فإنها لا تخفي شعورها المحبط بما يحيط بها من اكتمال. لذلك فإنها تستلهم قدرتها على التجريد من هذه الصلة الناقصة. وهي صلة يفرضها شعور عميق بالغياب. ومن هنا يتخذ الرسم طابعه المتحرر من أي التزام بصري مسبق. هلا الخليفة تنشئ عالمها من مادة متخيلة، وهمية، ومنتقاة بعناية من تجارب الرسم ذاتها في كل ما تجلبه هذه التجارب من خبرة. وهي لذلك لا تغفل أي بارقة جمال تمن بها الصدفة. وهو ما يدفعها الى الإبقاء على عناصر الرسم في حالة حركة مطلقة، وكأن فعل الرسم يعني بملاحقة الهذيان الى أقصى نقاط ذروته. هذه الرسامة لا ترى الشكل في لحظة اكتماله، بل هي لا تعترف بهذه اللحظة إلا كونها علامة موت. ولهذا فهي لا تريد لأشكالها أن تصل، رغبة منها في أن لا تضل طريقها الى الجمال المطلق. انها تبتكر أشكالاً غير مقيدة بالمعاني بعد أن تكون جردتها من هيئاتها المؤكدة. وهي أشكال تتذرع بالشك من غير ان تذهب بخيلاء طموح الى اليقين. هذه الأشكال لدى كثير من الرسامين تعبر عن وعي مزدوج بالحيرة واللذة. حيرة من لا يجد في الشكل ملاذاً آمناً ولذة من يبصر العالم يتشكل وفق مشيئته البصرية. وهي مشيئة تسعى الى الاستغراق في عصيانها. ذلك لأنها لا تفسر فعل النظر حيادياً وهي غير معنية بذلك على الإطلاق. انها ترى العالم من جهة تشكله الجمالي غير المسبوق. فهو تشكل يحدث في اللوحة ولا صلة له بالخزين البصري. هلا الخليفة تصنع عالمها في لحظة انبهار ودهشة، هي ليست مقتبسة من صلة بالمحيط، بل ذا جزء من عالم عرفاني يهيئة الاستغراق في الرسم، فعل ابداع خالص. هذه الرسامة ترى في الرسم محاولة لاستحضار علاقات شكلية، وليس لتقليد هذه العلاقات أو ابتكارها. ذلك لأن هذه العلاقات قائمة ولكن وراء حجاب لا يمكن اختراقه الا عن طريق الاستغراق الإشراقي. وهو فعل لا يمكن الوصول اليه إلا بالاستجابة العفوية لنشاط المواد المستعملة في الرسم. وهو ما أجادت الرسامة الخليفة القيام به. الرسامتان لبنى الأمين وهلا الخليفة هما جزء من المشهد التشكيلي الباهر الذي يعيش في البحرين تحولاته المستمرة. وهي تحولات تليق ببلد يمضي الى ترفه الخيالي بشظف عيش مثالي.