من بين الأسماء النسوية الفاعلة في الساحة التشكيلية السعودية يبرز اسم الفنانة حنان باحمدان، فمنذ إطلالاتها الأولى على الجمهور في معرضها الشخصي الأول الذي أقيم في الرياض عام 1992 وحتى معرضها الأخير والذي أقيم عام 2009 والذي خصصته للبحث عن وجوه منسية مرورًا بالعديد من المساهمات في معارض فردية وجماعية داخل المملكة وخارجها، وعطاؤها لا ينضب لأنها تستند على موهبة واضحة وإنجاز إبداعي يمتاز بأسلوبية متفردة. يقول برنارد مايزر: “إن العمل الفني هو نتيجة لتخطيط واع”، فهو إذن عملية تركيب قصدي لعناصر الإبداع الفني عبر خطوط وفضاء اللوحة وفق رؤية وذوق الفنان وإحساسه في خلق صور تعبر عن وعية الجمالي، وهذا ما نشاهده في اشتغال الفنانة حنان باحمدان؛ فهي تمتلك المقدرة على تطويع المفردات التشكيلية لمصلحة الصورة والمشهدية، فتقدم الواقع الطبيعي برؤى مختلفة عبر اهتمامها بتفاصيل المكان وجزئياته لتعطي العمل الفني تبسيطًا واضحًا في التفاصيل على المستوى الفني والفكري من خلال إقامة الصلات الشكلية مع عناصر الواقع أو الإيحاء بكل ما له صلة بالشكل الواقعي من أجل تحريك المشهد، وضخ كمية كبيرة من المشاعر القوية في جميع أرجاء اللوحة. يظل للواقعية في أغلب أعمالها؛ وخصوصًا في تصويرها لوجوه الأشخاص ورسم بورتريهات لشخصيات واقعية، تحمل ملامحهم سحرًا خاصًا، وقدرتها في التعامل مع الفعل الجمالي والتأثير العالي في المتلقي، من غير أن يغيب عن الأذهان بأنها لا تكتفي بفعل ما تفعله آلة التصوير من محاكاة سلبية للواقع بل تطورها من أجل الغور في البحث عن اللحظة الشاردة، بل إنها تحاول الإمساك بالمزيد من تلك اللحظات العابرة لتوثقها وتوثق تلك الانفعالات وإن كانت جامدة. في محاولة إلى أن تنفذ إلى روح الشخصية وأن تترجم مشاعرها بأعلى درجات الصدق والعفوية. ومما يلفت الانتباه أيضًا في اللوحة / البورتريه تعابير الطيبة والبراءة التي تنطق بها ملامح الشخصيات؛ وكأنها هنا تؤرخ لزمن ما وهو زمن انفعالي بالطبع. والزمن في أعمالها زمانان: زمن واقعي وزمن إبداعي، فالزمن الذي نتفاعل معه في إبداعها هو ذلك الزمن الذي يتحرك عبر البنية التشكيلية، ليساهم في إعطاء صورة انطباعية ذهنية عن الزمن الممكن وهو زمن المستقبل أي الزمن الذي يشغل بال المتلقي. والزمن الممكن يبدو من خلال تجسيد شكل الواقع واقعًا متخيلاً ليشدّ عين المتلقي وهذا الزمن الذي تقصده الفنانة حنان باحمدان وهو غير قائم في الواقع فقط، بل يتجاوزه نحو المستقبل لأنه زمن يحمل أفقًا أسطوريًّا بعيدًا بعض الشيء عن الواقع المجرد. وكما يتحرك الزمن في البنية الإبداعية يتحرك المكان فهو الفضاء الذي تنهض به الأحداث وتتحرك فيه الشخوص المجسدة للواقع، سواء أكانوا شخوصا أو حياة صامتة. المهم هو أنها تنمو وتتحرك عبر هذا الفضاء الذي تنسج خيوطه هذه الأشكال المشكلة للبنية الفنية، التي لم تعد فيها اللوحة تعبر بشكل مباشرة عن الواقع بل تنزاح وتميل بشكل إيحائي لتحريك المتخيّل الجماعي والفردي عند المتلقي، لكي يصبح المشاهد عاملاً مساعدًا وليس عاملاً معاكسًا كما يقول السميائيون فيخلق الصورة السميائية في مسألة العامل والاستجابة، والتعبير التشكيلي بهذا المعنى أضحى وسيلة للإيحاء، ولم يعد أداة لنقل الواقع المجرد فقط. وهنا يكمن الفرق بين المعنى العقلي للصورة والمعنى التخيّلي لها. بمعنى إنها تحاول فك أسر اللغة التشكيلية بإخراجها من المعنى الذهني القائم على الواقعية المجردة إلى المعنى التخيّلي المبني على إطلاق العنان للخيال المفكر، كي يسبح حرًّا في عالم من التخيل والقراءة المتعددة الوجوه للحظة الواحد. بعيدًا عن لغة الوصف التقليدية متجة إلى لغة الكشف بامتزاج واضح بين الانفعال العاطفي والممارسة الفنية. تحس بعالمها المحيط عالمًا صغيرًا ينصت بشكل جيد لخطاب الروح وينساق لخلق الحلم في افق الواقع، فهي تمتلك خبرة بصرية تجمع بين الأنساق الجمالية وتفعيلها داخل سطح اللوحة تدل على حركية واعية لهضم الواقع واستنتاج الجمال من بين ثناياه عبر التواصل الواعي لمكامن الجمال الإنساني وديمومة المشهد التشكيلي. إن الجمال في الفن ليس بتصوير المشاهد الجميلة وحسب بل هو وكما يقول مكسيم غوركي: “.. انسجام وتطابق يسبغها الفنان على المنتج ويمنحها الشكل الذي يؤثر على الإحساس أو العقل فتمنح المتلقي المتعة والفرح..” أي إنها محاولة للإمساك بما لا يمسك. فالواقع إذن في أعمال الفنانة باحمدان ليس أكثر من ذريعة لتصوير دواخل وهموم الفنان ذاته وما يحيط به ولإبراز الانفعال الكامن والسكون الظاهر. فهي من الفنانات القلائل اللاتي استطاعن أن يضعن أفكارهن داخل بنية بناءات النص البصري لتوسيع مدرك المتلقي بدون ضجيج أو مباشرة مبالغ بها؛ بل استخدمت الرمز الواقعي الإيجابي في مواجهة الواقع؛ فصوّرت الحياة الشخصية لموجوداتها بشكل إنساني بعيدًا عن الإعلان الصاخب، ولتخلق هيكلاً علائقيًّا منظمًا لسرد الواقع في غور المعنى. فهي إذن تزاوج بوضوح بين المرئي بدلالته الجمالية واللامرئي بدلالته العاطفية والفكرية. (*) ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا