في رسوم ديزي أبي جابر التي عرضت في غاليري اجيال بيروت تتبدى الاشارة وهي في اقصى درجات تقشفها. انها تمضي عارية الى قدرها اللاشكلي، من غير ان تحتمي بدلالاتها المسبقة. هذه الاشارة لا تريد ان تقول شيئاً محدداً، شيئاً يسعى لذاته. بل تتخطى ذاتها في اتجاه مستواها التعبيري الغامض. هذا المستوى الذي ينشأ من تلاقيات غرائبية مصدرها المصادفة البحتة بين ما هو مادي وما هو انساني بكفاية روحية جياشة. ان الاشارة هنا تتخلى عن حساسية دلالتها التعبيرية لتعلن انحيازها الى اندثارها الذي يعبر عنه اندماجها بالسطح كونها بقايا حياة. وعلى اية حال فإن هذه الحياة لم تكن لتمثل الا جوهراً افتراضياً ليس الا. اي ان الاشارة لا تعني ذاتها الا في حدود استقلالها الشكلي، اما على المستوى الدلالي فإنها تكون دائماً ملحقة بالسيرة التي تختزلها. والرسامة هنا تعتق الاشارة من هذا الارتباط الدلالي، لا في الاتجاه الذي يعزز استقلالها الشكلي بل في الاتجاه الذي يعمق حريتها في اختيار طريقة فنائها. وليس غريباً والحال هذه ان تولي الرسامة حساسية السطح كل اهتمامها، بل وتجعل من السطح شاهداً على حياة كادت ان تكون سرية، هي حياة الجوهر الخفي للاشارة. لذلك فإن تعدد الانواع الاشارية حروف لاتينية او عربية او علامات رياضية او بقايا شخبطات لا يعني تعدداً في المعاني الصورية المراد مباشرة استيعابها، بل ان الاثر الذي تقتفيه هو الذي يشكل بلاغاً لذاته، وهو بلاغ لا تقدمه الاشارة منفردة. ذلك أنها صارت جزءاً من كل هو السطح. وهنا بالضبط تكمن مسافة الاختلاف التي تفصل الرسامة ابي جابر عن التجربة الحروفية العربية، على رغم ان الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد انحرف بهذه التجربة في اتجاه العناية بالسطح متأثراً بالاسباني تابيس. وعنايته تلك لم تكن الا حذفاً وحفراً وحرقاً ونسفاً لأية بنية جاهزة. في حين ان ديزي ابي جابر تصنع سطوحاً وفق مبدأ التراكم وحده، لذلك فإن السطوح لديها لا تتجاور بل يمحو بعضها البعض الآخر. وكأن هذه السطوح هي نثار ازمنة مرت على عجل. فهذه الرسامة لم تظهر اي نوع من الحذق الحرفي او المهارة التقنية وهي تصنع سطوحها. وهي بذلك تشبه الى حد كبير اشاراتها التي تجنح الى النسيان. وجمالياتها هي الاخرى من النوع الذي ينبعث من لحظة التلقي، ذاتها، حيث تحل بكامل تأثيرها المرتجل من غير ان تدعي القدرة على استدعاء اية لحظة جمالية مسبقة. فديزي ابي جابر لا تراهن الا على لحظة الانخطاف البصري الآني. ذلك أن رسومها غير قابلة للاحالة، وهذا ما يجعلها متفردة بين رسامي الاشارات. وهم يشكلون رهطاً لا يستهان بعدد افراده بين الرسامين المعاصرين. فهي تمحو عن الاشارة اية بلاغة، بل انها غالباً ما تلجأ الى محو الاشارة ذاتها. وبذلك يكون الرسم لديها فعلاً مقصوداً لذاته. قد يكون فعل تنقيب في الاشارة عما تخفيه لا على مستوى المعاني بل على مستوى الايقاعات. وهي ايقاعات غالباً ما تحل مرتجلة، بل ومستسلمة لهذا الارتجال ولا تلجأ الرسامة الى اخفاء اضطرابها الشكلي مستسلمة هي الاخرى لهذا الارتجال. وعن طريق هذا الارتجال تفادت الرسامة الوقوع في المنطق الزخرفي الذي قد يقود اليه الالتزام بالايقاع. ان رسومها وهي تتبع منهج الاستحضار اللحظوي، مستجيبة لدوافع الرسم الخفية انما هي محض احتمال جمالي، لا يسعى الى التكريس. وفي هذا الاحتمال التخيلي يتجلى الكثير من الصور الذهنية. وهنا يتجلى مظهر آخر ومختلف من مظاهر الصورة. وهي على اية حال صورة محتملة لا تراهن الرسامة الا على اجزاء منها، حيث تكون اجزاء كثيرة منها اما معطلة او لم تتشكل بعد. صورة تجد في كل احتمال حياتها القابلة للاستئناف، دائماً. هذه الرسامة التي درست الرسم في باريس وتعرفت الى اللارسم في لحظة مبكرة من حياتها العملية، رسامة تطمح الى اختراق المرئي في اتجاه مفهومه الغامض والملتبس، انما تلقي بمعرضها الحالي خطوة على ارض جديدة، هي ارض وطنها الذي سعت الى استرضاء مزاجه عن طريق استعمال بقايا الحروف العربية. وهي محاولة لم تخرج الرسامة بعيداً عن عالمها بل وجدت في هذه الحروف لذة عيش تنبئ بحرية مضافة. وكما ارى فإن هذه الرسامة لا يعنيها نوع الاشارة، انتساباً، فهي لا ترى في مظهر الاشارة عنصر حسم، بل ترى الاشارة في فنائها وتسترسل في هذا الفناء.