على رغم ان الفنان التشكيلي عاصم عبدالامير انهى دراسته الفنية في بغداد عام 1979 وصار الرسم يشغل الحيز الاعظم من حياته. غير انه لم يسع الى اقامة معرض شخصي الا في كانون الأول ديسمبر 1997 في قاعة "اثر". غير ان مشاركاته المستمرة، سواء في المعارض السنوية "جماعة الاربعة" والتي كان واحداً من مؤسسيها، بدءاً بعام 1982، او في المعارض العامة، كانت تظهره رساماً يسير في خط مستقيم في اتجاه هدفه: نضوج عدته الفنية. وكان انشغاله بالنقد الفني، وهو احد النقاد المهمين في العراق، ادى الى ان تأخذ مسألة العرض الفني لديه مساراً صعباً. ذلك لأن احكامه النقدية، صارت تسبقه، وتسبق رسومه. غير ان تجهم الناقد لم يقف حائلاً بين الرسام وبين حريته، ذلك الكنز الخيالي الذي لا ينضب. وحسناً فعل عبدالأمير حين اغفل النظر الى مقولات الناقد الجمالية وأطلق العنان ليده لكي تؤثث فضاء حريتها مستعينة بحساسية طفل. وهو بذلك، انما اهتدى الى حل سحري قابل للاتساع باستمرار. حل مفتوح لا على مستوى ما يعلق به من تقنيات مرتجلة مصدرها عفوية فطرية في الاستجابة لعناصر الرسم من خط ولون وشكل ومساحة، فحسب، بل على مستوى ما ينطوي عليه هذا الارتجال من بعد خيالي، يحضر معه، بكل عدته، التي هي عدة الفاتحين بالصدفة وببراءة خالية من اي خبث. لم يستحضر عاصم عبدالامير مولود في العام 1954 الطفل الذي كانه في يوم ما. ولم يرسم كما الاطفال من موقع المحاكاة، بل غطس بكل مؤهلاته المعرفية في عالم الطفولة. فصار يلتقط العالم اللامرئي، اصواتاً وصوراً، بحساسية طفل. وهنا ينسف كل ما يذكره بماضيه النقدي، ويكون استأنف حياته رساماً من لحظة بلوغه الرسم. وكان ذكياً حين فصل الرسام عن الناقد. فكان كمن يؤسس لازدواجيته ولانفصاله النفسي، هذا الانفصال الضروري. كيف يمكننا النظر الى عبدالأمير رساماً؟ رسومه، تواجهنا، لأول وهلة، بضبابيتها. وهو امر شغف به الرسام منذ سنوات التسعينات الأولى. قبلها، كانت هندسة المساحات وسيلة لاستعراض نوع من البراعة المدرسية جعلت رسومه تقترب من الواقعية - النقدية. الآن، رسوم عبدالأمير تخفي اكثر مما تُظهر. وهي في كل ما تُظهره انما تؤكد انتماءها الى السطح كواقعة جمالية. السطح الذي يغلف، بإيقاعاته المنسجمة حيناً والمتضاربة حيناً، حياة مبادة يكون فيها المعنى مبيتاً والشكل مستقراً بصفاته الخيالية، غير المكرسة واقعياً. لذلك، فان ما يظهر من الشكل بعد الاخفاء والتغليف ما هو الا محاولة للاحتفاء بمغزاه، ذلك المغزى الذي يتعرض دائماً للتحول والهدم والاضافة. فالشكل لدى هذا الرسام ملتهم بفعل تقدم السطح بأبنيته التي تتصاعد كالركام. وهنا نتحدث عن الشكل مجازاً، فهذا الرسام لا يحفل كثيراً بالشكل ولا تشغله مسألة اكتماله. فهو غالباً يرعى الصيغة التي تتمدد بدعة من اجزاء متباعدة من اللوحة لتغطي الاشكال وتسحقها. وما يسحره حقاً هو فعل المباغتة الشعرية الذي يطلقه اللون وهو يسعى الى اكتماله. يكاد اللون، في عالم هذا الرسام، ان يحتل الدرجة الأولى من اهتماماته. فهو مادة هذا العالم وهو الغطاء الذي يصنع مسافة عزلته. والرسام وسط هذه العزلة اللونية، يلجأ الى اقامة صلات غامضة بالعالم الخارجي، من خلال اشارات تكون غير مقصودة لذاتها. فهو يستعملها ذريعة للخروج من صمت عزلته ولصنع وهم علاقة شكلية مسترسلة في هذياناتها الخارجية. هذه الاشارات، هي الحيز الوحيد الذي يظهر من خلاله الرسام اكتراثه بالعالم الخارجي. وهو حيز صغير، يؤكد حجمه الصغير عزوف الرسام عن الاستيلاء على العالم الخارجي شكلياً، حيث صار الرسام يحقق لذة استثنائية داخل الرسم، لا عن طريقه. وصار هدف الرسام ان يصل الى حقيقة الرسم، عالماً داخلياً خالصاً، بصفاته الذاتية، لا بما يعبر عنه من صفات العالم الخارجي. وهنا يتحرر الرسام، من كل شيء، ليكون لصيقاً بفعل الرسم. محاولة خيالية لبناء عالم لامرئي. هذا العالم الذي تنبض كائناته بوعي جمال مضاف، مدهش، وغرائبي، وجديد.