بحسب ظنٍ شائعٍ، شيوعاً له ما يبرره، أضحت الرواية الشكل الجماليّ الأقدر على الإلمام بحوادث التاريخ الجِسام. ولعل شيوع هذا الظن وحده ما يحدو بمن يقبل على قصّ حادثة، كحادثة الحرب مثلاً، الى توّسل بناء روائي فخم متماسك بما يضاهي جسامة الحادثة التي يعرض لها، او استخدام اسلوب رمزيّ يختصر مجمل عناصر الحادثة المعنية الى وحدات صغيرة تنوب عنها وترمز إليها. بيد انه من الوارد جداً، بل وقد يكون من الانسب، على الرواية الاّ تنتهج اي السبيلين. ونحن اذ نعيش اليوم زمناً، لم يعد من المسوّغ فيه النظر الى الحوادث المهمة، الراهنة او الماضية، كأمور محددة واضحة بما يتيح سوق حكاية لها متماسكة ونهائية، بتنا ميالّين الى سرد لا يزعم الإحاطة بالحادثة إحاطة تامة، ومن ثم الإنابة عنها، وبما لا يُغني عن العودة اليها ثانية ومحاولة سوق سرد آخر لها. والغزو العسكري العراقيّ للكويت عام 1990، في ما كشف عن مفارقات وفجرّ من تناقضات، لهو احد الحوادث التي تسوّغ نظرة كهذه. لهذا فإن الكاتبة السورية غالية قباني، اذ تتناول في روايتها الاولى "صباح امرأة" هذا الغزو، فإنها تتوسل اسلوباً سردياً موفقاً في مراعاة شروط الإلمام بهذه الحادثة وفي الاستجابة لتلك النظرة في آن. فليس اسلوب السرد الذي تنتهجه مما يميل الى تشييد بناء روائي محكم التماسك، وانما هو سرد مكثف ومقتضب يعمل على اقتفاء معالم ما إنهار وتشظّى. فالرواية تتوزع ما بين تمهيد وثلاثة اقسام، كل منها يشمل قرابة عشرة فصول، وكل فصل يتفاوت بين ثلاث وست صفحات. ومثل هذا التوزيع يستبعد اية محاولة للإسهاب في الوصف او في الاسترسال في الإخبار. ليس هذا البناء القصصي بمثابة تعبير عن إختيار جماليّ عشوائيّ، ولا هو حصيلة استجابة صرف لما بات شائعاً من تقنيات السرد الحديثة وانما هو ما أملته جسامة الحادثة المذكورة. فإزاء المدار الزمني للرواية، وهو يمتد ما بين صبيحة الغزو وعشية حملة قوات الحلفاء المشهورة ب"عاصفة الصحراء"، فإن جسامة الاحتلال في حدود مدار الرواية لا تتمثل في سير العمليات العسكرية، او في العواقب التي اسفر عنها، وانما في ما كشف عنه من اوهام وتناقضات وما أدىّ اليه من خلخلة في العلاقات وانقلاب في الموازين والتصورات. وهذا ما شمل حياة الافراد بقدر ما شمل حياة جماعات، وغيّر حياة الكثيرين من العرب كما غيّر حياة الكويتيين. والافراد الذين تتبع الرواية مصائرهم من الكثرة والتنوع ما يجعلهم يمثلون قوميات واقواماً متباينة. غير انهم من التآلف المجتمعيّ، او السياسي، ما يجعلهم يشكلون مجتمعاً صغيراً من كويتيين، أصلاء وغير أصلاء، بحسب التمييز القانوني والاجتماعيّ، ومن مهاجرين عرب، من سورية والعراق ومصر وفلسطين، ومهاجرين آسيويين. وقد يرتاب القارئ في حكمة الإكثار من الشخصيات، وبعضها يظهر ويختفي بلمح البصر، بيد انه سرعان ما يوقن بأن ما تزمع الرواية تصويره لا يستوفي حقه الاّ من خلال هذه الكثرة. فهولاء هم افراد المجتمع الذي يتعرض الى التصدع، ثم الى الزوال، وما مصائرهم الاّ الشظايا التي تسعى الرواية الى تعقّبها وجمعها. اننا كقراء من خلال سعي الرواية هذا، نستبين التناقضات والمفارقات التي اشرنا اليها من قبل، ومن خلال هذه الاخيرة يتجلى لنا ذلك التداخل المعقد بين الخاص، او الشخصيّ، وبين العام، او السياسي. وفي الحقيقة فإن ما يستحق بليغ الثناء في هذه الرواية هو نجاحها في الربط بين هذين البعدين ربطاً يستحيل معه التمييز بينهما. فلا يكون العام محض خلفية لحوادث الخاص، ولا يكون هذا الاخير محض هامش كحوادث العام. وبراعة هذا الربط انما تتجلى منذ الاسطر القليلة الاولى للرواية. إذ تلتبس الامور على احدى الشخصيات، فلا تعي اذا ما كان الغزو الذي تشهده يجري على شاشة التلفاز ام خلف النافذة المطلة على الميدان العام للمدينة. اي ان الشخصية لا تعرف اذا ما كانت هي محض متفرجة على ما يجري ام انها تقف في قلبه. وما هذا المشهد الاّ صورة مجازية للإلتباس الناجم عن تشابك معقد بين ما يجري في حياة شخوص الرواية وبين حادثة الغزو. ولعل في قصة ندى ومجدي، من جهة، وقصة عبدالرحمن، من جهة اخرى، ما يبيّن ذروة التشابك المقصود. فبوقوع الغزو يبلغ زواج ندى ومجدي نهايته، فيعلنان الطلاق. وعلى رغم ان هذا الطلاق ليس محض رمز لانهيار سياسي، الاّ ان في اسبابه ما يجمع بين الاخفاق السياسي والاخفاق الشخصيّ. على ان هذه الصلة الوثيقة لا تتضح الاّ باللجوء الى مخيلة سياسية تمكننا من عقد صلة بين ما جرى ويجري لهاتين الشخصيتين، على المستويين الخاص والعام. إن انهيار زواج الطبيبة السورية ندى والصيدلي المصري مجدي، هو نتيجة اخفاق علاقة ندّية. وهذه العلاقة كانت انعقدت قبل عقد ونيف من الزمن خلال مشاركتهما في تظاهرة ضد اتفاقية "كامب ديفيد" جرت حينما كانا طالبين في الجامعة. فالندّية او التكافؤ الذي يسم علاقتهما في البداية مصدره الانضواء في نشاط سياسي مُعارض. وبما ان هذا النشاط لا يكون اكثر من نشاط عابر، فإن التكافؤ المزعوم يكون عابراً ايضاً. فليست السياسة بالنسبة لمجدي الاّ من قبيل العمل الطلابيّ غير النقابيّ، ومن ثم فإنه يبدو اقرب الى اعراب عن رغبة شاب متحمس يتوق الى مشاكسة أولي الامر. لذلك فإنه حينما يتخرج في الجامعة تراه يقلع عن السياسة كما لو انها كانت هواية مراهقة لا بد له من الاقلاع عنها طالما انه دخل سنّ الرجولة. وليست السياسة بأجدى شأناً بالنسبة الى ندى نفسها. فهي، بإعتبارها راوية القصة، تخبرنا كيف آل أمر مجدي من شاب يساريّ ناصريّ، مفعم بالنشاط، الى محض موظف قصارى طموحه النجاح المهني والثراء وممارسة حقوق زوجية يضمنها له المجتمع التقليدي خير ضمان. اما حكاية عبدالرحمن فإنها تكشف وجهاً آخر من تداخل الشخصيّ بالسياسي، وتضيء جزءاً من الصورة التي تنتهي الرواية الى تركيبها. فعبدالرحمن طبيب كويتي لا ينتمي، على ما تشددّ الرواية، الى قبيلة قويّة. وفي مجتمع ما برحت تسوده العلاقات القوية التي تقضي بأن يكون النفوذ والامتيازات العامة من نصيب الاقوى والاغنى، فإنه لا يتاح لامثاله لعب دور فاعل في الحياة العامة. بل ان نمط العلاقات هذا يحول دون ارتباطه بالفتاة التي يحبّ طالما انها تنتمي الى ملة اجتماعية أثرى. الواقع ان هشاشة التزام عبدالرحمن او مجدي او ندى، او سواهم من شخصيات الرواية، لا ترجع فقط الى ما تنطوي عليه نفوسهم من طموح ذاتيّ او من نزعات انفعالية، وانما ايضاً الى طبيعة ما يُسمى ب"الوعي السياسي القوميّ". فهذا الوعي، في انكاره الشرائع الدولية التي تسير بموجبها الدول، وفي تجاهله الحقائق الثقافية والمجتمعية التي يستوي كل مجتمع وفقها، انما هو وعي هشّ لا قِبل له على الرسوخ في نفس حامله ورافع لوائه، سواء كان هذا فرداً ام حزباً ام نظاماً. فلدى اول احتكاك لاصحاب هذا الوعي بالواقع، فإن وعيهم القومي المزعوم يتطاير تطاير طبقة غبار كانت مستقرة على جسم ساكن. والنظام العراقي، او غيره من النُظم التي رفعت راية "القومية"، وشأنه في ذلك شأن الافراد والاحزاب، فإنه ما ان اصطدم بالواقع الفعليّ، وليس المتخيل او المتوهم، حتى سارع الى إلقاء هذه الراية كاشفاً بذلك عن طموحه الفعليّ كمحض طموح نظام مستبد عدوانيّ لا يتورع عن فعل اي شيء في سبيل بقائه. لعل هذا الربط الذي تعقده الرواية بين الشخصيّ والسياسيّ، ذو اهمية جمالية وسياسية معاً. بما ان "صباح امرأة" فهي رواية سياسية، او لعله من الاصح القول، رواية عن السياسة العربية، فهي لا تدور في اروقة دوائر أو ادارات السياسة الرسمية وغير الرسمية. ولا تكتفي من السياسة بجملة الافكار والمواقف والتصريحات، او بالحوادث السياسية معزولة عن حياة الافراد والمجتمع، وانما هي رواية الحوادث والافكار في اشدّ صلاتها وثوقاً بالناس ممن هم ليسوا من محترفي العمل السياسيّ. غير ان وعيّ الفرد التابع يأتي متوافقاً مع سياسة هذا النظام او تلك السلطة، وان ليس بالضرورة مؤيداً او مناصراً. ولئن قدمت الرواية صورة لجندي عراقيّ تدعو الى التعاطف معه كفرد مغلوب على امره، فإن الوجه الذي تظهر عليه هذه الصورة تجعل الامر بمثابة الاستثناء الذي يُخالف القاعدة. تكشف رواية "صباح امرأة" هشاشة السياسة العربية، وتبيّن ان العواقب الوخيمة التي تنجم عنها ليس مما يمكن ان يُروى الاّ من خلال استجماع حكايات مشتتة. غير ان لا هذا البيان ولا ذاك الكشف مما يبعث الاحساس بالانتصار او العزاء في نفس القارئ. والارجح ان قراءة هذه الرواية ستترك غصّة في قلب هذا القارئ. غصّة مألوفة عند ابناء البلدان العربية ممن نعموا بالعيش في سلام، وان لوقت قصير نسبياً، ثم ما لبثوا ان بوغتوا بحوادث جسيمة تقلب حياتهم وحياة مجتمعاتهم. ولئن إكتشف القارئ ان مجتمعاً كهذا كان رهن سياسة لا قوانين راسخة لها ولا اعراف، فإنما يكتشف ذلك من خلال شهادته على تفكك علاقات الجوار والمهنة والصداقة التي على رغم ما كان يشوبها من توتر واحساس بالمنافسة او الخصومة، الاّ انها كانت تجمع خليطاً من ابناء بلدان وقوميات واصول ثقافية مختلفة في اطار مجتمع ثريّ بتنوعه. فأي انتصار في اكتشاف حقيقة ان قوام المجتمعات العربية وإستقرارها هو رهن حركة السياسة؟ وأي عزاء ممكن اذا ادركنا ان هذه السياسة هي التي ما انفك البعض يتحسّر على ما انقضى منها ويعوّل على ما تبقى منها؟ * صدرت الرواية عن "المركز الثقافي العربي"، بيروت والدار البيضاء، 2000.