الأحساء وجهة سياحية ب5 مواقع مميزة    إعصار قوي جديد يضرب الفلبين هو السادس في خلال شهر    «هلال نجران» ينفذ فرضية الإصابات الخطيرة    شرطة الدمام تقبض على يمني قتل آخر حرقاً بالأسيد وطعنه بسكين    إحباط تهريب 590 كجم «قات» بمنطقتي عسير وجازان    حسن آل الشيخ يعطّر «قيصرية الكتاب» بإنجازاته الوطنيّة    المواصفات السعودية تنظم غدا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    الليث يتزعم بطولتي جازان    الهدى يسيطر على بطولة المبارزة    12 اتحادا تختار إداراتها الجديدة    برامج تثقيفية وتوعوية بمناسبة اليوم العالمي للسكري    إعلان أسماء 60 مشاركاً من 18 دولة في احتفال "نور الرياض 2024"    تطبيق الدوام الشتوي للمدارس في المناطق بدءا من الغد    بيان سعودي فرنسي عن الاجتماع الثاني بشأن العُلا    الأربعاء المقبل.. أدبي جازان يدشن المرحلة الأولى من أمسيات الشتاء    السيطرة على قريتين .. تقدم روسي شرق أوكرانيا    وزير التجارة: منع الاستخدام التجاري لرموز وشعارات الدول والرموز والشعارات الدينية والطائفية    التواصل الحضاري ينظم ملتقى التسامح السنوي "    «الداخلية»: ضبط 20124 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    مدرب البرتغال يؤكد أهمية التأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    ضيف الرأي: الفنانة التشكيلية مروة النجار    إطلاق مركز (Learning Hub) للتعامل مع التهديدات الصحية المعقدة    «سلمان للإغاثة» يوزّع 175 ألف ربطة خبز في شمال لبنان خلال أسبوع    المربع الجديد استعرض مستقبل التطوير العمراني في معرض سيتي سكيب العالمي 2024    مصرع 10 أطفال حديثي الولادة جراء حريق بمستشفى في الهند    يدعوان جميع البلدان لتعزيز خطط العمل الوطنية    استمرار تشكل السحب الممطرة على جازان وعسير والباحة ومكة    مهرجان صبيا.. عروض ترفيهية فريدة في "شتاء جازان"    سوق بيش الأسبوعي.. وجهة عشاق الأجواء الشعبية    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    رونالدو يقود البرتغال للفوز على بولندا والتأهل لدور الثمانية بدوري الأمم    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    في أي مرتبة أنتم؟    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس أول فائز بجائزة اللغة "اللاتينية" . رحلة دون كيخوته في البحث عن تاريخ المكسيك
نشر في الحياة يوم 13 - 08 - 1999

حاز الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس "جائزة اللغة اللاتينية" التي تمنحها الأكاديمية البرازيلية للآداب والأكاديمية الفرنسية. وأكد الكاتب خلال تسلّمه الجائزة "ان انتصار هوّيتنا اللاتينية يرتكز على ألاّ نحتقر هويّة أحد"، مضيفاً "ان الهوية اللاتينية لديها ماضٍ وحاضر ومستقبل" وان الأمر يشكل مرآة "يجب أن نكتشف أنفسنا فيها، أوروبيين وأميركيين لاتينيين".
وأشار فوينتس الذي وضع رواية "موت ارتيميو كروز" الى "أننا نُبدي الاحترام للتنوع"، مضيفاً ان ثمة "إرادة في المشاركة بيننا وبين العالم، من دون التخلّي عن هوياتنا".
و"جائزة اللغة اللاتينية" اشتركت الأكاديميتان الفرنسية والبرازيلية للآداب في انشائها عام 1998، وهي تُمنح مكافأة "لعمل أدبي لكاتب حيّ ساهم في بلاده أو على المستوى العالمي، في تألّق الحضارة اللاتينية واغنائها". والجائزة هذه تُمنح للمرة الأولى. هنا قراءة في أدبه وعالمه الروائي:
كُتّاب العالم الثالث عائدون، لا محالة، الى الماضي من سبيل ما أو آخر. ففي بلدان أُقحمت في الحداثة اقحاماً، ولم ترتسم فيها حدود فاصلة ما بين العصر الحديث والعصور التي سبقته، لا بد أن يكون شبح الماضي تهديداً حاضراً فيها مهما جدّت في طريق التمدين والتحديث. والنتيجة أنه كلما حاول الكاتب في هذه المجتمعات "الفصامية"، على حد تعبير الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، تعريف ذاته وعالمه في نطاق "هنا والآن" شُرّعت أمامه أبواب الماضي داعية إياه الى رحلة بحث عن الأصول والجذور والهوية.
وشأن جلّ كُتاب ومثقفي المكسيك، وأميركا اللاتينية عموماً، ممن لُقنوا علوماً غربية واكتسبوا بأنفسهم ثقافة ووجداناً حداثيين، فإن فوينتس الناظر بعين الحيرة والقلق الى ذلك الفارق الشاسع ما بين بلاده وجارتها الشمالية الولايات المتحدة لم يكف عن توسل رؤية نقدية الى واقع وتاريخ بلاده الهشة بشكل يجعلها عرضة لأزمات وشدائد واضطرابات قد تعود بها في أية لحظة الى عصر ما قبل كولومبس.
"منذ وطأت قدما كولومبوس أرض القارة الأميركية" يقول فوينتس، "ونحن نعيش ما بين الحلم والحقيقة وعلى شقاق ما بين المجتمع الصالح الذي ننشده والمجتمع الناقص الذي نعيش فيه. لقد تشبثنا بالطوبى لأننا كنا أصلاً قد أُنشئنا كطوبى. ولأن ذكرى المجتمع الصالح انما تتوغل عميقاً في جذورنا، ولأنها أيضاً استجابة لأحلامنا".
لقد قضى الغزاة الإسبان على امبراطورية ازيتكا البدائية الأصلية في المكسيك قضاءً مبرماً ساعين من وراء ذلك الى اقامة طوبى كاثوليكية تجسد طموحات الملكية الإسبانية فلا تعرف "الفساد" الذي راحت أوروبا تشهده منذ بداية عصر النهضة. بيد أنهم شأن كل مغامرين استعماريين انتهوا الى اخضاع البلاد المستعمرة الى قيمهم وقوانينهم وتدابيرهم، مسخّرين خيرات البلاد ومواردها لصالحهم، دافعين شطراً من الأصليين في طريق المدنية وتاركين الشطر الآخر لطريقة معاشهم البدائية ما لم يعارضوا أو يتعارضوا مع مآربهم، الأدهى من ذلك ان اسبانيا نفسها كانت، عهد استعمارها لهذه البلاد ما بين أواخر القرن الخامس عشر ومطلع القرن التاسع عشر، متخلفة عن غيرها من القوى الاستعمارية في طريق الحداثة، ومن ثم فإنها قد أورثت مستعمراتها تخلفها الاجتماعي والثقافي فبقيت هذه الأخيرة دون التقدم والثراء ورسوخ المؤسسات واستقرار الحياة السياسية الذي نعمت به أميركا الشمالية، وبما انجلى عن ذلك الفارق الشاسع الذي لا يشب كاتب أو مثقف لاتيني إلاّ ويعيه على وجه شديد المضاء.
لا يعود فوينتس، ان في مقالاته ومحاضراته أم في قصصه ورواياته، الى الماضي البعيد بغية ندب مجدٍ اندثر، أو لكي ينحي باللائمة على الاستعمار فهذا متروك للكتاب العرب. فلئن كان الكاتب المكسيكي الكبير مخلصاً لبلاده إخلاصاً لا يرقى اليه الشك، فهو المثقف المتشبع بالفكر السياسي التنويري وبمناهج القراءة والنقد الحداثيين، لا سيما بمنهج الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" وجورج لوكاش في "نظرية الرواية" بما يجعله يدرك إن إخباراً لحوادث الماضي، أو تأويلاً للتاريخ الشفوي والمكتوب يجاري معطيات العصر الحديث تبعاً لما نصّ عليها كتابي الفيلسوفين المذكورين لا يمكن أن يستوي وفقاً لحكاية الذئب الشرس والحمل الوديع.
ففي روايته الأشمل والأكبر طموحاً "تّرا نوسترا" يقفو الكاتب اثر تاريخ كلا العالمين القديم والجديد في الحقبة السابقة على سقوط الأول تحت سلطان الثاني، وما كان بعد ذلك من تداخل ثقافي. فتسلط الرواية الضوء على ما ابتلت به اسبانيا في عهد فرديناند وايزابيلا من عزلة بعدما تمّ طرد العرب وقهر اليهود، ومن اخضاع الرعية الى سُنة كاثوليكية صارمة وقمع سياسي متواصل. فعن تاريخ كهذا صدرت التناقضات التي طبعت تاريخ العالم الجديد وثقافته. وبهذا المعنى فإن الرواية على أحد مستوياتها المتعددة والمتشابكة انما ترمي الى العثور على أرض مشتركة، أو أصل ثقافي واحد للعالمين المتنازعين.
ثنائية الماضي والحاضر
وعلى ما يُستشف من بعض أهم روايات فوينتس، فإنه لا محيد لسرد روائي للتاريخ المكسيكي السياسي والثقافي عن الإحاطة بثنائيات من قبيل ثنائية الماضي والحاضر، الحقيقة والوهم، الطوبى والمجتمع الناقص، التاريخي والخرافي... الخ. غير أن سرداً واقعياً خيطياً يدرج اخبار الحوادث في سياق تعاقبي لا يمكن أن يستوفي حقّ احاطة كهذه. فهذا الضرب "الفخم" من الإخبار، على ما يذهب اتباع "ما بعد الحداثة"، الزاعم زعماً مسبقاً وجود عالم قائم هناك يقبل على تصويره قد يُطابق الزمن التاريخيّ لسير الحوادث الفعلية المزعومة، بيد أنه مضطر لإغفال الخرافي والوهمي والطوباوي من الحوادث والطقوس مما لا يستوي وفق وتيرة زمن تاريخي كهذه، وهو حتماً لا يستطيع أن يقدمهما على وجه مكافىء لامتزاجهما في التاريخ والمجتمع المكسيكيين.
ولا عجب في أن يسير فوينتس منذ البداية في السبيل الذي مهده روائيون مكسيكيون كبار من أمثال الفونزو ريتز وخوان رولفو وخوسيه رفولتاز وغيرهم ممن دفعوا الرواية المكسيكية بعيداً عن السرد الواقعي التقليدي المنطوي أو المفصح عن احتجاج اجتماعي وسياسي على ما كان معهوداً لدى أسلافهم. ولقد وظف فوينتس أحدث التقنيات السردية وأفاد من الدراسات الأناسية في تحليل ثقافات الشعوب البدائية لا سيما الأوجه الأسطورية والخرافية منها.
وفي ما يتصل باستخدامه لتقنيات السرد الحديثة فإنك لتعثر في أكثر من قصة أو رواية على ذلك التناوب أو التوازي أو التداخل ما بين أصوات سردية تجري بضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب. فهاك الراوي الذي يرمي الى البوح والكشف الذاتي أو التماس العزاء والسلوان بعد حياة حافلة بالنجاح والاخفاق، وهناك الراوي الذي يسعى الى أن يضع شخوصه أمام حقيقة ما يقولون ويفعلون بإسلوب حميمي وشخصيّ، وهناك الراوي الذي يتوخى سرداً محايداً. ومثل هذا التوظيف يتجلى بمهارة فائقة في رواية "موت ارتيمو كروز". وإذ ينبري الكاتب لسرد تاريخ المكسيك الحديث ما بين عام 1889 وعام 1955، مركزاً على تاريخ الثورة المكسيكية في العقد الثاني من القرن المنصرم، فإنه يستعين بصوتي ضمير المتكلم والمخاطب كاسراً سياق السرد الساعي الى نهج من الإخبار التعاقبيّ. فيتداعى الأول مصوراً الحياة الناجحة لأرتيمو كروز ثرياً وصاحب حظوة لدى أصحاب النفوذ فيما يظهر الصوت الآخر ليكشف لنا قصوره وعجزه واخفاقاته على المستوى الشخصي والخاص من حياته.
ان قصصاً تلعب فيها الطقوس السحرية والشعائر الوثنية دوراً مهماً تتطلب من دون شك ضرباً من السرد الملائم، بيد أن ذلك لا يُملي ضرورة اللجوء كل مرة الى بناء روائي بالغ التعقيد من قبيل ذاك الذي نقع عليه في رواية "موت ارتيمو كروز". فقد يُستوفى الغرض بحيلة أو تدبير بسيط ما. وهناك الكثير من قصص فوينتس تُسرد على شكل يوميات أو مذكرات أو رسائل متبادلة، أو من خلال الانتقال الى أمكنة تجعلك تحسّ بأن لا حساب للزمن الدنيوي لما يجري فيها.
ففي قصة من مجموعة "ماء محترق"، وهذا اسم بحيرة أسطورية يشيع الظن بأن مدينة المكسيك ترسو عليها، وفي دلالة لا يمكن أن تغيب عن نباهة النبيه أو الأقل نباهة يبتاع موظف في احدى الدوائر الرسمية صنماً ل"شاك مول"، إله المطر في الديانة الأزيتكية، يحتفظ به في بيته ولا يعتم أن يتحول الى عبد طائع له يلبي أوامره تلبية أوامر كائن حيّ ومستبد. وهذا ما يؤثر على أدائه واجبه الوظيفي الأمر الذي يؤدي الى طرده من عمله، ومن ثم جنونه وموته المفاجىء.
ولكن حيث لا يسع الكاتب سوق هذه القصة من خلال "سرد فخم" طالما أن ما تنصّ عليه يتنافى مع مقاييس العقل والحس السليم، فإنه أيضاً لا يقدمها كحكاية رجل فقد رشده أو وقع ضحية حالة هذيان مرضيّة. فالغرض هو تقديم صورة لموظف في احدى مؤسسات العاصمة الممعنة في التمدن والذي هو في الآن نفسه مكسيكي مقيم على إيمانه بالخرافات والأساطير التي يحفل بها التراث الذي ما انفك يحكم أذهان الناس. والتدبير الذي يلجأ اليه الكاتب في سبيل تحقيق غرض كهذا هو سوق القصة على شكل مفكرة يومية للموظف يقرأها صديقه، وزميل له في العمل، خلال رحلة في القطار.
أما في رواية "أورا" فيدخل بطل القصة منطقة غير مأهولة بالسكان ودارة من القدم والانغلاق بما يُخيل له، وللقارىء على السواء، بأنه في زمن مختلف عن ذاك الذي تعيشه المدينة وبما يبرر الحكاية العجيبة التي تحدث فيها. إذ تستدرج السيدة العجوز كونسولا، صاحبة الدار، بطل القصة بذريعة حاجتها الى مؤرخ شاب كفؤ المزايا بحيث يتمكن من اعادة كتابة مذكرات زوجها الجنرال المتوفي قبل ستين عاماً. ثم تعمد من خلال ممارسة طقوس دينية بدائية الى ايقاعه في غرام الصبية "اورا" التي تقدم اليه بصفتها ابنة اخت كونسولا، غير أننا نكتشف بأن أورا هذه ليست سوى تجسيد لكونسولا في شبابها، وان المؤرخ الشاب ما هو إلاّ صورة مجسمة للكولونيل الذي عاش في القرن الماضي. وان غرض صاحبة الدار هو احياء طرفاً من شبابها وعاطفتها المنقضين.
الرواية والسياسة
وحده فن الرواية، على ما يذهب فوينتس، يمكنه الاحاطة بتاريخ وثقافة بلد كالمكسيك. فسبل التأريخ المعهودة لا تفلح في التعاطي إلاّ مع الحقائق والمعطيات التي تتوافق ومقاييس العقل والمنطق. أما الروائي فإنه يرى ما لا يراه المشتغلون في حقول العلوم الوضعية، أو بحسب تعبيره "هناك من الأمور ما لا يسع أحد رؤيتها ما عدا دستويفسكي وحده. أمور لا يمكن أن تقع عليها في بطون كتب التاريخ".
وملاحظات كهذه، ونظيرات كُثر، تسوغ الظن ان فوينتس، شأنه في ذلك شأن اتباع الحداثة عموماً، حريص على الإعلاء من شأن الجمالي في الفن والحط من شأن السياسيّ، ان لم نقل الاعراض عنه اعراضاً تاماً. بيد أن ذلك بعيد كل البعد عن حقيقة مواقف الرجل السياسية وعما تنطوي عليه قصصه.
ففوينتس نشأ على وعي سياسي مبكر وما برح كاتب مقالة سياسية يُحسب له حساب. وهو قد استمد وجدانه السياسي من خبرات ومصادر عملية ونظرية متباينة.
غير أن المصدر الأهم والأشد اثارة لوجدانه انما كانت الثورة المكسيكية. وهي التي ما انفك يعود اليها الكاتب في رواية تلو الأخرى قارئاً وقائعها ومبجلاً انجازاتها ومتسائلاً عن سرّ اخفاقها في تخليص البلاد من الأخطار التي ما انفكت تحيق بها وتتهدد استقرارها. وكانت الثورة التي قادها اميليو زاباتا في الجنوب وبانشو فيللا في الشمال قد تمكنت من اسقاط نظام الاستبدادي لبورفيرو دياز ومن ثم تحرير البلاد من ارتهانها الى السياسة الخارجية الأميركية ومن سلطان اقطاعيي ومُلاك الأراضي الذين استولوا على 98 في المئة من مساحة أراضي المكسيك فيما بقي 90 في المئة من الفلاحين من دون أصغر ملكية.
ولئن أخلص الكاتب المكسيكي الى نصيحة الفونزو ريتز، معلمه وأحد أسلافه، بأن ما يمكن أن يجعل الأدب المكسيكي أدباً مهماً ليس كونه مكسيكياً ولكن لأنه أدب بالأصل، ومن ثم عزوفه عن استخدام الرواية كأداة احتجاج فهذا لا يعني أن فوينتس قد اعتنق فن الرواية اعتناق ديانة ذات طقوس وشعائر. وان البناء الجمالي هو نقطة انطلاقه، وتمامه هو الغرض الرئيسي المنشود. إذ تكاد كل رواية أو قصة أن تنطوي على موقف سياسي، صريح أو مستتر، نقديّ ولكن ليس تحريضياً أو احتجاجياً. كأن تصور رواية "الوجدان الصالح" تحالف عائلة من عائلات الطبقة المكسيكية العليا في غواناتاهو مع الحكام المحليين والوزراء تصويراً يرمي الى الكشف عن سلطان أوليغاركية القرن التاسع عشر، الاقتصادي والسياسي، الذي لا تحده أعراف أو تقيده شرائع. بيد أن هذا الكشف إنما يُصار اليه من خلال تتبع الرواية لمسيرة أحد أفراد العائلة الذي يشب على غير وفاق معها، وإذ يقوده تمرده الى تكوين وجدان اجتماعي ودينيّ يبيّن تناقضات وادعاء الطبقة التي ينتمي اليها، فإن ذلك لا يكون إيذاناً بولادة البطل الإيجابي الذي اشتهرت به الواقعية الساذجة، أو ما يسمى ب"الواقعية الاشتراكية". ولئن أذعن في النهاية الى ما تقتضيه تقاليد عائلته وطبقته، فإن هذا الإذعان لا يظهر بمظهر الخيانة والارتداد طالما أن الرواية تحرص على ألاّ تكون بمثابة أمثولة ذات رسالة جليّة.
وتميل رواية "تغيّر البشرة" الى حمل رؤية سياسية أعمق وأكثر تعقيداً. فمن خلال تداخل الماضي والحاضر ومن خلال الربط ما بين طرد العرب واليهود من اسبانيا والمجزرة الفظيعة التي ارتكبها الاسبان بحق أبناء مدينة شولولا الأزيتكية العريقة، وما بين الجريمة التي اقترفها النازيون بحق اليهود، تبدو الرواية وكأنها تخلص بنا الى أن ثمة صلة وثيقة ما بين عصر الغلبة الأوروبية وشيوع فلسفة الأنوار الزاعمة ان في وسع الإرادة الإنسانية اعادة تكوين الطبيعة الإنسانية تكويناً قويماً وما بين سياسة التصفية الجماعية، أو ما يُسمى بلغة قَتَلة اليوم "التطهير العرقيّ".
وعلى غرار "تغيّر البشرة" فإن رواية "موت ارتيمو كروز" تحضنا على استخلاص موقف سياسي مناهض للطبقة الحاكمة الجديدة في المكسيك غداة الثورة.
ولعلّ السياسة التي استرشد بها فوينتس منذ شبابه المبكر هي ذلك الضرب من السياسة "التقدمية" التي قالت بشرعية النضال في سبيل العدل الاجتماعي ولكن من دون التضحية بالحرية. ومن ثم فهو ينتمي الى ذلك الجيل "الكوزموبوليتاني" النزعة الذي ظهر غداة الحرب العالمية الثانية والذي لم تُسكره نشوة الانتصار على الفاشية عن التنبه الى حجم وطبيعة الدمار الشامل الذي انجلى عنها، ومن ثم فإنه استنكف موالاة أيٍ من المعسكرين، الشرقي والغربي، المتنازعين في ما يُسمى ب"الحرب الباردة"، مختاراً سبيلاً بديلاً. ولئن ناصر فوينتس الثورة الكوبية والحركات الراديكالية الأخرى في أميركا اللاتينية، فإنه لم يتوان عن أن يكون ناقداً صارماً لنظام فيديل كاسترو، وان يبدي خيبته حيال ما انتهت بعض الحركات اليسارية الأخرى اليه من ترويع وتقتيل بالأهالي.
ومجمل القول ان السياسة التي اعتنقها فوينتس وأبناء جيله انما كانت مستقاة من بطون الكتب، لا سيما كتب رسو والراديكاليين الإنكليز، روبرت أوين وتوماس بين ووليم موريس، فضلاً على ماركس والماركسيين من بعده. ولا مراء في أن سياسة كهذه غالباً ما تكون مجافية للواقع نازعة نزوعاً طوباوياً مما يجعلها أخيراً مبعث خيبة أمل مريرة. ولكن ما حيلة ذاك الذي نشأ على اتخاذ الكتب مصدراً رئيسياً للمعرفة؟
الكتب والعالم
"هل هناك كتاب من دون أب؟ كتاب لا يتحدر من كتب أخرى؟". يسأل فوينتس في مقالة يشرح فيها ظروف كتابة روايته الفانتازية القصيرة "أورا". وإذا كان وقوع مشهد عابر في شقة المؤلف في باريس عام 1961 هو الذي حفزه على كتابة هذه الرواية، فإنها ما كانت لتظهر الى الوجود إلاّ بفضل نظيرات لها سبقتها. ويحيلنا الكاتب الى مراجع كثيرة منها خاصة ثلاثة نصوص، هي "بيت بين القصب" للياباني يورا أكيناري و"ملكة البستوني" لبوشكين و"أوراق اسبرن" لهنري جيمس، تروي تباعاً حكاية ناس يبعثون من الموت بغية احياء ذكرى عاطفة متأججة.
ولا تقتصر الإحالة الى كتب وكتّاب على مقالاته فحسب، وإنما نقع على الكثير منها في متون قصصه ورواياته. وهي احالة نادراً ما تكون مسقطة أو مجانية طالما أن الكثير من شخصياته يقرأون كتباً بل وان بعضهم يُعرّف نفسه وطموحاته وأحلامه من خلال احالات كهذه. والحق فإن بحثاً في المؤثرات أو مشروعاً للكشف عن الأسلاف في أدب فوينتس لهما عملان فائضان عن الحاجة. فالقصة لديه انما تتحقق أبعادها من خلال الإحالة الصريحة الى آخرين سبقوه أو عاصروه حتى ليبدو أقرب الى بورخس الناظر الى الكتب ككتاب واحد والى الكون كمكتبة. فهو حينما يكتب لا يغفل أو ينسى ما قرأ، فالكتابة هي محاولة تذكر واعادة كتابة يكاد أن يقتصر دور المؤلف فيها على تقديم اضافات محدودة.
ولا يغرب عن بالنا ما للسينما من أثر على أعماله. فإذا شكلت الكتب المصدر الرئيسي لمعرفة نفسه والعالم من حوله، فإن السينما أغنت مخيلته غناءً بصرياً بما كان له أثر بارز في توظيفه للتقنيات السردية الحديثة. ففي استخدامه لصوت ضمير المخاطب على نحو خاص ثمة ما ينمّ عن محاولة محاكاة حركة الكاميرا. فيبدو الراوي الذي يخاطب أبطال روايات مثل "أورا" و"تغيّر البشرة" و"موت ارتيمو كروز" أشبه بكاميرا ناطقة ذات قدرة استثنائية على تتبع الشخوص وسبر أغوارهم والكشف عما يدور في أفئدتهم. وليس من قبيل الغرابة بعد ذلك أن يقوم بناء رواية "ارتيمو كروز" على شكل مماثل لرائعة أورسن ويلز "المواطن كين".
وإذا كان كتاب سرفانتس "دون كيخوته" يقوم مقام الرواية الحديثة النموذجية بالنسبة لفوينتس، فإن أفلام لويس بونويل، مواطن سرفانتس، لهي التجسيد البصري لثنائية الوهم والحقيقة، والخرافي والفعلي وغيرهما من الثنائيات التي أدرك الكاتب بأن لا محالة من الإحاطة بها في سياق كتابة الرواية المكسيكية. هذا بالإضافة الى ما تنم عنه هذه الأفلام من نزوع الى "موضعة" التراث الإسباني في اطار كونيّ.
وعلى رغم أن فوينتس مكسيكي التوجه والولاء إلاّ أنه، وهو المولود في بنما، عام 1928، والمتلقي علومه الأولى في واشنطن والعليا في جنيف، فضلاً عن اقامته في تشيلي والأرجنتين وتردده المنتظم على باريس ولندن ومدريد، هو "كوزموبوليتاني" التكوين أيضاً. ولقد ارتقى منذ نعومة أظفاره مدارج الثقافتين الإسبانية والإنكليزية معاً، بما جعله مزدوج الثقافة أولاً ومتعددها لاحقاً، وبما قد يُجيز الزعم ان اقبال الرجل على كتابة "أدب مكسيكي" انما هو حصيلة اختيار متقصد واعراب عن ولاء الى بلد قُدّر له أن يُولد، بل وأن يقيم بعيداً عن ربوعه في أغلب الأحيان.
إلا ان فوينتس يظلّ أحد تلامذة سرفانتس المخلصين، ومن ثم فإن الرواية عنده أقرب ما تكون الى رحلة بحث عن واقع استقى معرفته به من الكتب. رحلة قد تبرهن على أنها ليست خيراً من رحلة الفارس ذي الوجه الحزين، أي دون كيخوته، من حيث صعوبة الفصل فيها ما بين الوهم والحقيقة وما بين المتخيل والفعليّ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.