لا يمكن لقارىء الكاتب الاميركي سول بيلو ان يُغفل المجازفة التي تنطوي عليها رواياته. هذه المجازفة تتلخص في ان المدينة الحديثة ميدان اعماله، وانه يصور الميدان المشوش المعقّد الذي يعصى على الاحاطة، فالفوضى وشيوع العشوائي والعرضي يكون ازدحاماً لا يمكن اخضاعه لمنطق السبب والمسبب، وعلى رغم ذلك يُصر على اتباع نهج من السرد راسخ الجذور في تربة الرواية التقليدية، الطبيعية والواقعية التي اشتهر بها بلزاك وفلوبير وديكنز وغيرهم. انه، بإختصار، يأخذ بالايديولوجية الكامنة خلف في الادب الحديث في القرن العشرين في ما يتصل بتصويره الحضارة والمدنية الغربيتين، ويصر في الآن ذاته على التشبث بنظام جمالي ما انفك يولي الانسان موقع القلب، مجازفاً بذلك في كتابة ادب لا يرضي القارئ الحديث ولا المحافظ معاً. لا يبدو بيلو قادراً على الاستغناء عن فكرة مركزية الانسان في الكون. فأسئلة من قبيل "ما هو الانسان؟ ما معنى وجوده؟" لا تني تظهر في رواياته على السنة شخصيات عادية من ضحايا العشوائي والعرضى بحيث تميل الى ربط الخاص من همومها ومتاعبها بما هو كونيّ وميتافيزيقي. ان المرء منفصل عن العالم الذي يقيم فيه انفصال المغترب الناقم، مقولة يتبناها بيلو تبنياً تاماً، غير ان ذلك، وخلافاً للكثير من الروايات الآخذة بهذه المقولة، لا يفضي به الى تهميش البعد التاريخي وانكار الحضور المادي بنظامه الطبيعي، اي ان هناك جماعة ينتمي اليها الفرد وان لم يكن على وفاق معها. وما ينكره بيلو على ادب جويس وكافكا ومان وسارتر وبيكيت واونسكو وآلان روب غرييه ووليم برو هو ذلك الاذعان للنزعة الزوالية او القيامية التي تؤدي الى تقليص الوجود الانساني، الخاص منه والعام، الى الحد الادنى منه. فيغدو المجتمع تبعاً لهذه الرؤية جملة صور وعلامات متفرقة تحلّ في وجدان كينونة انسانية تقلصت الى محض حواس وملكات ادراك. ان الانسان الحديث يعيش قلقاً وجودياً، انه مكتئب ومعزول، مرتاب بالقيم والمعايير التي نشأ عليها، عاجز عن التواصل مع محيطه، وهذا لا يعني بالنسبة الى بيلو ان الانسان مات، على ما انذرت الفلسفات المعادية للنزعة الانسانية، او انه لم يعد ثمة ما يدل على وجود الشخصية او الفردية الانسانية طالما ان ما تبقي منها انما يدعو الى الرثاء والاحتقار الذاتيّ. "لا يمكن للفنان"، يقول بيلو مسترجعاً سيرته الفكرية "ان يدعو الصرافين والبنائين والجمهور عموماً الى ان يخلّصوا الديموقراطية من خلال العمل بشرف، او من خلال تبني دعاوى سيكولوجية او جنسية او سياسية. فهو مرغم، على إحتضان ما يكون. هذا الاحتضان ليس استسلاماً وانما قبول ضروري بكتلة من التعقيدات." وهذا ما يمكن ان نستخلصه من حال شخصية مثل جوزف، بطل روايته الاولى "الانسان في حالة التدلي". جوزف مفكر معني بشؤون السياسة والتاريخ وليس ملتزماً. كان ماركسياً، لبعض الوقت، الى ان تبيّن له خواء هذه الايديولوجية، ومن ثم اختار العزلة سبيلاً للتخلص من اطباق العالم المزدحم على نفسه، مؤثراً معاناة الشعور بالعزلة الناجم عن عدم انتمائه، منقطعاً عن الماضي منقاداً الى سيل حاضر تتشابه لحظاته تشابها يثير السأم. بيد ان جوزف لا يكتفي بالحرية التي توفرها له العزلة، فيستغرق في التساؤل عن الحقيقة البسيطة للوجود الانساني: إذا كان الوعي بالازدحام والعشوائية والفوضى ذريعة للانكفاء الى الذات، فإن ذلك ليس مبرراً مقنعاً للكف عن التساؤل عن معنى الوجود الانساني ومن ثم الاقبال على ما هو تاريخي وعام. لذا فإن السرد في رواية بيلو ينحو نحو تأسيس حقيقة او قيمة او نظام، وبصوت صريح صراحة تدعو الى الارتياب أن ما يُسرد محض اراء وافكار ذات طابع تجريديّ لا تُستحسن في السرد المتخيّل: "لقد جهدت دوماً الى تجنب إلقاء اللوم عليهم لانني كنت منضماً اليهم. سواء احببت ذلك ام لا، فقد كانوا جيلي ومجتمعي وعالمي. وكنا اشكالاً في العقدة نفسها مثبتين ثباتاً ابدياً الى بعضنا بعضاً". ان الضعف الانساني والوضاعة والاحتقار وانعدام الانسجام والرشد موضوعات اساسية في الادب الحديث، غير انها لا ينبغي ان تكون الموضوعات الوحيدة، على ما يجادل بيلو. فالانسان الحديث المنشغل بمعرفة كيانه وعالمه لن يكون افضل اذا استغنى عن قيم الجمال والعدل والاخلاق، او بالضرورة كفّ عن نشدانها. لهذا فهو، وان اقرّ بفضل الادب الحديث في تكوينه الفكري، يضعه موضع التساؤل: أي جدوى من هذا الادب؟ ليس المقصود التقليل من شأن ما انتجه عمالقة مثل بروست وجويس وهمنغواي وغيرهم ممن ذكرنا سابقاً، وانما التنبه الى خطورة الالتزام بالحدود الادبية التي ارستها هذه الاعمال بحيث تغدو الكتابة اوثق صلة بالانماط الادبية الرائجة من صلتها بالحياة. وانه ليسرّ الاميركي المتعلم ان يرى كتّاب بلده مجدّين في السبيل الذي مهده جويس ولورنس، اذ ألف الناس اقتناص لذائذهم الثقافية من السبل المعهودة، والكتّاب انفسهم استجابوا لمثل هذه الذائقة، غير انها لعبة لا يمكن ان تستهوي طويلاً الكاتب الذي قيّد نفسه الى واقع الفوضى الحديث والمجتمع الاميركي الراهن. وفي مثل هذا الكلام تتجلى معالم التحدي الذي آل بيلو على نفسه الإضطلاع به من خلال كتابة ادب لا يُسلّم تسليماً مسبقاً بضآلة شأنه وفاعليته ولا يرى في الانحباس في الأطر التي ارساها الادب الحديث قدراً لا مفر منه. بهذا المعنى فإن تشبث الكاتب الاميركي بجمالية الرواية الواقعية والطبيعية ليس موقفاً محافظاً متشنجاً، كما قد يتبادر الى الذهن للوهلة الاولى، لا سيما انه لم يتوان عن توظيف الكثير من تقنيات السرد الحديثة، انما اقرب الى التوكيد على مسؤولية الكاتب الرافض داء الاشمئزاز والاحتقار الذاتيين المتفشي في الادب الحديث. فالموقف الجمالي هنا هو موقف اخلاقي وسياسي في جوهره. أن "وجودنا مسيّر بوجود الآخرين" ثيمة رئيسية في روايات بيلو، خصوصاً روايات مثل "الضحية" و"مغامرات اوجي مارش" و"هندرسون ملك المطر" و"هيرتزوغ". الحرية التي ننشدها، او ينشدها شخوص هذه الروايات، من خلال العزلة او الاقبال على العالم، رهينة هذه الحقيقة. "اننا لانختار الكثير" يقول آلبي، بطل رواية "الضحية"، ويضيف: "نحن، على سبيل المثال، لا نختار ان نولد، ولا نختار ان نموت، الاّ اذا انتحرنا. ولكن ان تحظى بخيارات قليلة بين الفينة والفينة فإن ذلك يجعلك تحس بأنك اقل من محض حادثة بالنسبة الى نفسك. ما يجعلك تحس بأن حياتك ضرورية. العالم مكان مكتظ، تباً له اذا لم يكن كذلك! من يريد ان يكون كل هؤلاء الناس هنا، خصوصاً ان يكونوا الى الابد؟". هناك الكثير مما يثير الذعر ويدعو الى الاشمئزاز ويدفع المرء الى العزلة، ولكن يبقى التحدي الرئيسي استنباط اخلاقية ملائمة لبشر محكوم عليهم بالعيش المشترك. وآلبي هذا هو الخصم اللدود لبطل الرواية المذكورة، إزا لفنتال. وخصومتهما تصدر عن تنازع مادي واخلاقيّ ما يجعل واحدهما ضحية الآخر. فآلبي ضحية إزا طالما ان هذا الاخير هو المتسبب في دماره المادي، وإزا ضحية الاول طالما انه لا يكف عن استصغار شأنه كونه يهودياً. والتحدي الذي يواجهان، على وجه مضمر من قبل الاول، ومعلن من الآخر، هو الاقرار بالذنب والمسؤولية، ما يؤدي الى تحررهما من قيد واحدهما الآخر. غير ان أياً منهما، وهذه من عواقب المجازفة المشار اليها آنفاً، لا يبلغ الحرية المنشودة. بيلو يعي مصدر الصعوبة ومبلغها، غير انه لا ينفك يراهن على تلك الحرية المتوفرة لدينا من خلال مقاربة ما يسميه "المدهش الذي لا يمكن ان يُصادر منا" وما هذا الاّ الحق بأن نفعل خير ما في وسعنا من خلال فن يُقرّ بالعيب والدنس، ولا يتورع عن تقديم اقصى التنازلات واقعية، آخذين بعين الاعتبار ما "للعواطف الشخصية" من سلطان قد يفضي بنا الى الجنون معتبرين بحقيقة الشرّ والقسوة والعنف اعتباراً لا يخفف او يلطف من حقيقته وفعليته. النزوع الى المحاكاة التهكمية أحد التحولات البارزة في روايات بيلو مما يمكن ادراجها في سياق مقاومته الاستسلام لدعاوى ومقولات الحداثة الادبية في القرن العشرين، هو ذلك التحول من الإخبار الذي يجاري الشخصية الكئيبة المنعزلة في ما تشعر وتؤمن به، الى الإخبار ذي الطابع الهزلي. وفي روايات مثل "مغامرات اوجي مارش" و"اغتنم فرصة النهار" نقع على انشاء من المحاكاة التهكمية والسرد البيكاري يستلهم اعمال كتّاب مثل سويفت ورابلييه وسرفانتس. خلافاً لشخوص روايتيه السابقتين، فإن بطل "مغامرات اوجي مارش" لا يسعى الى الحرية من خلال الانغلاق الذاتي والعزلة وانما من خلال انتهاج نهج الرحالة المغامر الذي لا يكف عن الانتقال من مدينة الى اخرى من شيكاغو الى المكسيك فروما ومن ان يعهد نفسه الى شخصية كاريزمية ما، على الاقل، تبعاً لما يصوّرها هو نفسه. تومي شخصية تسعى بقدميها لأن تكون موضوع تأنيب الأب الذي لا يقيم ادنى وزن للمشاعر الابوية والاواصر العائلية، وضحية نصّاب يتخذ من التحكم بحياة الآخرين مهنة. هو ايضاً شخصية محيرة من حيث انه صاحب طموحات كبيرة واستعداد للمغامرة والتكيف تبعاً لما تقتضيه الظروف، الاّ انك تراه متردداً سريع التأثر بالمشاعر والاهواء المتضاربة. وهذا يُسهل وقوعه في الشرك الذي غالباً ما يقع فيه ما يدفعه اخيراً الى التسليم بأن المعاناة جزء طبيعي من الوجود. فهو ميّال الى تصعيد معاناته تصعيداً جمالي النزعة، حيث ان كل ما يعترضه يتحول الى ازمة ميتافيزيقية شاملة ما يُزيّن لناظريه محاباة ما يعانيه، "اذا لم يكن في وسعه الاحتفاظ بمتاعبه امامه، فإن في ذلك مجازفة كبيرة بخسارتها جميعاً، وهذا، كما كان يعي من خلال الخبرة، ادهى". شأنه شأن اوجي مارش، فإن تومي شخصية تدعو للشفقة وللسخرية في الآن نفسه. ضحية قصوره الشخصي لكنه ايضاً ضحية محيطه. وعليه فإن الجنوح الى الإخبار التهكمي لا يعني ان العالم في هاتين الروايتين اقل تخبطاً وقسوة وان ما يجري فيه اقل استعصاءً على المنطق العقلاني. فالمصاعب التي تعترض البطل في كل من هذين العملين فعليّة وليست من اختلاق نفس مضطربة. بل ان الاضطراب النفسي الذي يعتورها انما مرده انعدام النظام والترابط في العالم الذي تنشأ فيه الشخصية من هذا الطراز. تمسك بيلو بعنصر الشخصية الروائية لا يعني أن الرجل غافل عن حقيقة ان الشخصية الوحدوية التي ارسى الادب التقليدي اصولها لم يعد لها وجود في العصر الحديث، اية محاولة لبناء شخصية كهذه، تنتهي الى تقديم شخصية جوفاء وفضفاضة. غير ان خيار التسليم بموت الرواية وضرورة الاستعاضة عنها بسرد لا معالم ولا مواصفات له، ولا بناء يعينه ويتشكل من خلاله، ولا يزودنا بمعنى الاّ ذلك الذي يحيلنا الى ذاته، لهو الخيار الذي يريد الكاتب تجنبه. ان من يؤمن بالفوضى ايماناً عميقاً لا يمكن ان يحب الرواية، على ما يرى بيلو، فغريزة الروائي تقوده الى النظام. والنظام الذي يقصده الكاتب هو ذاك المتولد عن الافكار، لا بما هي افكار مجردة تؤكد على صحة ذاتها تأكيداً منطقياً، او محض وتائر مسقطة على الموجودات والحوادث، وانما تلك التي يتم اكتشافها من خلال هذه الحوادث، يمكن ان نراها من لحم ودم. الرواية في رأس البطل سول بيلو كاتب يهودي، لا بنسب الولادة فحسب، بل بالانتماء الثقافي والفكري والانحياز السياسي. وهو يحتل منزلة استثنائية بين كُتّاب ما يُعرف ب"الرواية اليهودية الاميركية"، مردها الى انه، خلافاً لغيره من الروائيين اليهود لم يزعم التجرد من إرثه وهويته الثقافيتين، على رغم انه كان في وسعه ان يفعل اصلاً نظراً الى كونه ابناً لعائلة من المهاجرين الروس، حطت الرحيل اولاً في كندا ثم ما عتمت ان يممت شطر شيكاغو بيلو نفسه ولد في مونتريال عام 1915 ولم يصل الى الولاياتالمتحدة حتى التاسعة. فضلاً عن انه لم يستسلم لموقع الروائي اليهودي اسير الارث الثقافي والغيتو الذي نشأ فيه. صحيح ان الثقافة اليديشية والتوارتية ذات حضور لا ينكر في ادبه، بيد ان هذا يُسهم في اغناء مضمون النزعة الانسانية عنده. بيلو في الحقيقة مثال المثقف اليهودي المديني الجديد الذي راح يظهر على مسرح الثقافة الاميركية منذ منتصف القرن، من غير ان يُحمل على اخفاء هويته اليهودية او الاعتذار عنها. وفي ادبه صورة حيّة لليهودي الحديث الواعي هويته الثقافية التي تميزه عمن حوله، من دون ان يقوده هذا الوعي، تحت ضغط الحياة المدينية، الى التقوقع في اسر هذه الهوية او التواني عن النزوع الى ما هو انساني بشكله الكوني. وكثيراً ما تبدو اعمال بيلو كأنها ميدان لصراع افكار ومعتقدات. فشخوصه مثقفون يميلون الى التعبير عما يجول في نفوسهم من خلال خواطر وتأملات فكرية وفلسفية. وهو ما يتفق تمام التوافق مع كاتب ميّال الى مسرحة المقالة في سبيل مجابهة دعاوى رائجة كالتسليم بعقم وعبث الحياة والى ما سوى ذلك من دعاوى حديثة. "صرفت حياتي كلها محاولاً العيش وفق افكار مترابطة ترابطاً منطقياً. بل انني اعرف اية افكار بالضبط." يقول هيرتزوغ، بطل الرواية التي تحمل اسمه عنواناً. وهذا في اصراره على رؤية اي شيء في سياق ما هو كوني، يبدو كأنه شخصية تحتل مركز الكون. فرغم المصاعب العويصة التي يواجهها في حياته الشخصية، الاّ انه لا يجد في ذلك مبرراً للانشغال عن المسائل التي يثيرها التاريخ والفلسفة والاخلاق وكل ما يتصل بتصور البشر لوجودهم وكيفية تدبيره. هيرتزوغ لا يختلف كثيراً عن بقية ابطال بيلو. فهو يخاف الكثرة والازدحام والعشوائية والفوضى، هذا ناهيك عن معاناته من زواج مُني بالفشل ومن خيانة زوجية ومن جشع اقارب وانعدام مسؤولية زملاء له ما يكاد يذهب بعقله ويدفعه الى اقتراف الجريمة. والفارق البارز ان هيرتزوغ شخصية ناجحة بمقاييس مجتمع الطبقة الوسطى، التي ينتمي اليها اجتماعياً وليس فكرياً. فهو المولود لعائلة يهودية مهاجرة، عانت ويلات التشرد والفقر، افلح ان يصير استاذاً جامعياً مرموقاً وان يؤلف اعمالاً مثيرة للاهتمام والجدل. غير انه في الوقت نفسه مثال المثقف اليهودي الحديث الذي لا يني يعرب عن مسؤولية اخلاقية كونية. لهذا نلقاه طوال صفحات الرواية منغمساً في مراسلات متخيلة مع كبار رجال الفكر والسياسة والزعماء الروحيين، من سبينوزا الى مارتن لوثر كنغ، ومن هايدغر الى نهرو فغاندي. لكن على رغم ما يظهره هيرتزوغ من التزام اخلاقي وانساني عموماً، الاّ انه ليس بصورة للبطل الايجابي. بل انه مثال اللابطل، او البطل المضاد. وفي هذا ما يجيز التساؤل حول مدى نجاح المجازفة التي اقدم عليها بيلو. فرغم نشدان البطل نظاماً عقلانياً ما، الاّ ان نهج السرد الذي يتبعه يُضعف، من وجه، رصيد الترتيب اللغوي الذي تسعى الرواية الى ارسائه تبعاً لتقاليد الرواية الطبيعية والواقعية، ويرجح، من وجه آخر، مرجعية الادب الحديث التي يدعو بيلو الى وضعها جانباً. فالتنازع الواضح بين وعي بطل، وعياً فينومينولوجياً، يتجلى في سياق من السرد متعدد المستويات، بل وفي احيان كثيرة متشظ، وهو ما يعود بنسبه الى كتّاب مثل بروست وجويس وسارتر، وما بين لغة تميل الى بيان الترابط المنطقي السببي ما بين الحوادث والشخوص والافكار، ينجلى عن غلبة الاول. اما البطولة والالتزام المزعومين فإنهما يبقيا طموحين بعيدين عن التحقق شأنهما في ذلك شأن الشخصية الروائية، بل، وفي حصيلة الامر، الرواية نفسها. الرواية النازعة الى ارساء نظام عقلاني على اساس مراعاة التوازن ما بين الخاص والعام، ما بين الفرد والجماعة، ما بين الاحساس بالذنب والمسؤولية وما بين تصورات ومعتقدات فلسفية متباينة، لا تنجلي الاّ عن محض محاولة غير مكتملة. والنتيجة عمل ادبي محيّر، لا ينفي ولا يؤكد، لا يشفي غليل الناقم ولا يُنير طريق الباحث عن خلاص عقلاني. وكيف لا يكون الامر كذلك طالما انه يستند الى دعوى فضفاضة لا تصلح الاّ لكلٍ متجانس الاجزاء يتوسطه ذلك "الانسان الميتافيزيقي" الذي يتكرر ظهوره على صفحات الرواية؟ ولِمَ لا يكون الامر محض اعراب عن موقف انفعالي وعاطفي ساذج لا يختلف كثيراً عن موقف الكاتب المنحاز الى اسرائيل بوصفها حملاً وديعاً بين ذئاب؟