إستيقظَ الفتى الصغيرُ في الصباحِ الباكرِ، على أصواتِ العصافيرِ، وهي تَصدح في الحديقةِ، وتملأُ بصوتها الفضاء. فَرَك الطفل عينيه بدهشةٍ، وقال: -أيَّتُها العصافيرُ السعيدةُ. علامَ تُغنّين أيَّتها العصافيرُ، وتَمْلَئيِنَ، منذ الصباح الباكرِ، فضاءَ حديقتنا بألحانِك العذبةِ؟ قُولي لنا: هل أنتِ في عيدٍ أمْ مهرجانٍ؟ أمْ أنّكِ في عُرْسٍ دائمٍ تستقبلين فيه الشمس عروس الصباح، وتزُفِّينها الى الأرض بفرحٍ عظيمٍ؟ سمعتِ العصافيرُ كلامَ الفتى، فقالتْ: - إنني أستقبلُ الشَّمسَ أيُّها الصديقُ. شمسَ الصَّيف الذهبيَّة. ألا تراها طالعةً من خلفِ الجبل، تسبُقُها الأنوارُ الساطعةُ، وتندحرُ أمامها جيوش الظلام؟ ثم انقضى الصيفُ، وجاء من بعده الخريفُ. نظرَ الفتى الصغيرُ الى العصافيرِ، فوجدها تقفُ ساكتةً على الأغصان، وكأنَّها خسِرَتْ أصواتَها، وترتجفُ حينما تهتزُّ الأوراقُ، أو تسقطُ عن الأشجار. قال لها: لماذا أُصِبْتِ بالوُجُوم أيَّتُها الطيورُ، ولماذا أنتِ ساكتةٌ هكذا، ألا يُثيرك مشهدُ الغيوم التي بدأت تتجمَّعُ في السماء، والأشجارُ التي بدأت تتعرَّى من أوراقها؟ أجابتْهُ العصافيرُ قائلةً: إنّ الخريفَ يتركُ في نفسي خوفاً على الزهور وهي تذبل، وعلى الأوراقّ وهي تتساقطُ على الأرضِ صفراءَ كئيبةً، لذلك تراني أغرَقُ في صمتي، وأتأمَّلُ ما يجري حولي. ثُمَّ انقضى الخريف، وجاء الشتاءُ. فقال الفتى للعصافير: أيَّتُها العصافيرُ الحزينةُ أيَّتُها العصافيرُ ما لي أراكِ ساكتةً في هذا الصباحِ الرماديِّ؟ النهارُ يأتي، ولا أَثَرَ لجلَبَتِكِ فوق الأغصانِ، والنهارُ يمضي، وأنت هادئةٌ، لا يرتفع لك صوتٌ، ولا تصدحين بغناءٍ. فما الذي أصابَكِ بالصَّمتِ أيتها العصافيرُ الحزينةُ؟ قالتِ العصافيرُ: - إنَّه الشتاء، أتى بزوابعه، وأمطاره، وأنا أخافُ من برْدِ الشِّتاءِ وعواصفِهِ، لذلك تراني أختبِئُ في الأعْشاشِ، وألجأُ الى ثُقوبِ المنازِلِ، تاركةً ريشي يُدفئُ جسَدي الهزيلَ. ومضى الشتاءُ بزوابِعِه وبرْدِهِ. وجاءَ الربيعُ، فانتشرتِ العصافيرُ في الفضاءِ، منْ جديدٍ، وهي تُحَلِّقُ فرحةً بقُدُومِه. رفعَ إليها الفتى الصغيرُ رأسهُ وقال: - أيَّتُها العصافيرُ المَرِحةُ...أيَّتُها العصافيرُ ما لي أراكِ تنتشرينَ في هذا الفضاءِ الواسِعِ، وتَفْرُشينَ أجْنحتَكِ كالمراوحِ في الهواءِ، ترتفعينَ، وتنخفضينَ برشاقةٍ، وتذْهبينَ في كلِّ اتِّجاهٍ، وكأنّك طائراتٌ من وَرَقٍ مُلوَّنٍ؟ لماذا أنتِ سعيدةٌ هكذا، أيَّتُها العصافيرُ؟ - لماذا أنت سعيدةٌ؟ رَفْرَفَتِ العصافيرُ بأجنحتها، وقالتْ لَهُ: - أنا سعيدةٌ، أيُّها الصغيرُ العزيزُ، لأنَّني حُرَّةٌ، أطيرُ حَيْثُ أشاءُ، لا يُقَيِّدُني سِجْنٌ أو قَفَصٌ. فالحريَّةُ يا صديقي، هي سببُ سعادتي وحُبُوري. هُنا تعجَّب الفتى الصغيرُ من حديثِ العصافيرِ إليّهِ، ففتح فمَهُ مدهوشاً، وقال: - أيَّتُها العصافيرُ الغِرِّيدةُ. أيَّتُها العصافير قولي لي بأيِّ لُغةٍ تتكلَّمينَ؟ وما هو معنى صُداحِكِ الدائمِ على الأغصانِ؟ فأجابَتْهُ العصافيرُ، وهي تُكمْلُ أناشيدَها العذبة: - إنني أُغنِّي للحبِّ والحياةِ، يا صديقي. وأرْفع صوْتي بالتَّسبيحِ إلى خالقِ هذا الكوْنِ العظيمِ، فالكوْنُ كُلُّهُ مِحْرابُ الله، وما غنائي سوى صلاةٍ لا يَفْهَمُها إلاَّ مَنِ امتلأَ قلبُهُ بالحبِّ والإيمانِ.أمَّا مَنِ امتلأَتْ نفسُهُ بالشرِّ، فإنَّهُ لنْ يَفْهَمَ لُغَتي.. لُغَةَ الطيورِ. قصة: محمد علي شمس الدين رسُوم: لجينة الأصيل * الكتاب مع رسوم ملونة عن دار الحدائ