في الطريق إلى نيسابور ثمة تلال بعيدة، وأضرحة، وآثار فاتحين عابرين، ومساقط ضوء. توقفنا عند بقعة. كانت المياه تملأ الأنحاء: مدرجات وأسيجة خشبية قديمة معلقة، عائلات تتناثر هنا وهناك وهي تفترش بسطها، حمار صغير ينزه أطفالا، أشجار تستطيل عارية من أوراقها.. وثمة حانوت.. حانوتان.. ثلاثة وبضاعة مكرورة... وما يستوقفك أن أغلب القادمين أناس، كأهلك، بسطاء كما تدل هيئاتهم، وهذا ما يطمئنك ويشعرك بألفة المكان. توقفنا عند بقعة أخرى لا أتذكرها، فما يشغلني ليس الطريق، فأنا لست بأوليس، وليس في ذاكرتي غير نيسابور والخيام الذي قطع هذا الطريق، ربما، مرات ومرات.. السماء ذاتها، التلال ذاتها، البشر ذاتهم، والحنين ذاته، والحيرة ذاتها.. الحيرة المقيمة أبدا في أبسط أحوالها وأعقدها. وقبل أن نصل نيسابور يلوح الخيام بعيدا قريبا وقد استقبلنا مطلا، عابرين إليه ممر حصى وأشجارا تقابل أعمدة، وفسحة هي بيته المفتوح على السماء والريح والمطر والبرق. لم أر قبرا جميلا يبعث البهجة كقبره.. باستثناء قبر واحد هو قبر لوركا الذي زرته منذ سنين فأوحشني وأبهجني. قبر بازلتي تعلوه أعمدة بينها فراغات مشرفة على اللا نهاية تلتقي هناك عند نجمة، وفراغات أخرى كم تبدو لصيقة بالنجمة. قبر أم فرح؟ في هذه الأبدية التي ندخلها فجأة ترى البشر يسيرون هادئين مطمئنين بينما تصدح الحروف وهي تغني مكتوبة على الأعمدة .. أعمدة عشر كم يبدو المكان خفيفا وغامضا! أليفا وغريبا! مسكونا بالأبدية، مقبلا على زائريه يا لهدوء زائريه! كم يبدو الشعر عظيما! وهو يجمع من جاءوا من مختلف الأصقاع عشاقا، وسائحين، وأبناء بلد..! وثمة غناء شجي بعيد لأشعار الخيام. وفي الجهة اليسرى وأنت تدخل الممر ثمة متحف وتمثال للخيام، ومكتبة صغيرة اقتنيت فيها مجموعات لسهراب. كم يحزنني أنني لم أتذوق شعرهم في لغتي إلا القليل منه، بل في لغات وسيطة أخر 1 مقام الخيام: في كل منعطف سأراه. قلت سأراه حقا ولن أنتظره هنالك جالسا عند قبر. في كل منعطف سأراه متبوعا بقمر وربما بشمس، أميرا.. شاحبا.. هائما في حدائق سره، جالسا عند شجرة خريفه الدائم.. خريفه المتساقط ورقا. قلت: سأراه. وكان لي أن أراه جالسا عند شجرة وهو يتطلع إلى تفاحة تضئ.. تفاحة لا تقطف.. تفاحة تخطف أو تخطف ولعلها غير موجودة أبدا. فكيف تراءت لي؟ وكيف تراءى لي؟ وكيف اجتمعنا معا، دون أن نجتمع في مكان ولو كان قبرا؟ 2- مقام فريد الدين العطار غادرنا الخيام وكأننا نغادره في حلم ما زلنا أسراه. الطريق ظلال وصمت، والفضاء خال يمتد، لكن ما أسرع ما يمتلئ بالطير وهي تتقدم أسرابا، وعلى مبعدة منها بدا طائر بقنزعته وهو يتقدمها وكأنه مركب صغير يشق بحرا إلى السيمرغ. إنه الهدهد. فجأة يتبدد الحلم وقد بدت قبة، وشاهدة طولها متران، وقبر زجاج، وأبيات شعر، وزائرون .. وهناك ما زال العطار مقيما في ركنه والناس يمرون به، العطار الذي ذهب بعيدا ولم يبعد.. العطار الذي حنا على البشر والطير وأنبهما.. العطار الذي أغلى نفسه وأرخصها، العطار أين أجده؟ وهو ليس ذاك المقيم بقبر، وتلك الأجنحة التي بقعها الدم أين هي؟.. وأين الذي تراءى لنا، أنا وأنت، أيها العطار، في الطريق؟. أيها الشقيق..! تراك أنكرت أرضك فأحببتها؟ وحببت السماء فأنكرتها؟ وأنت السيد والعبد.. ما أفقرك! وما أغناك! ما أوحشك! وما أبهجك في الوحشة والأنس معا! لماذا حين دخلت عزلتك انتابتني رغبة أن أراك من بعيد وأن تلوح قبة لا الشاهدة آنستني ولا قبرك آنسني وقبتك سألمحها من بعيد لأراها ثانية في الحلم.. الحلم الذي استغرق كل حياتي، مثلما استغرق كل حياتك.. أيها الشاعر الذي يمثل أمامي الآن وحيدا في طريقه .. إلى أين؟.