"انني لست مجبراً على مراعاة ميثاق لم اوقعه". كانت هذه العبارة التي تفوه بها مصطفى كمال يوم 29 ايلول سبتمبر 1922، اشبه ببرنامج عمل يرصد التقدم الذي كان ذلك القائد التركي، يحققه طوال شهور ذلك العام على اليونانيين الذين كانوا توغلوا داخل الاراضي التركية بعد هزيمة الامبراطورية وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الاولى. في ذلك الحين كانت تركيا التي خرجت من الحرب ضعيفة موهنة تنظر الى المستقبل بكثير من القلق بعد ان تحولت من امبراطورية شاسعة تضم الشرقين الاوسط والادنى واجزاء من البلقان واواسط آسيا. وفي خضم ذلك الوضع اليائس، برز مصطفى كمال - الذي سيقلب الخلافة والسلطنة في ما بعد، ويؤسس مكانهما جمهورية علمانية لا تتجاوز حدودها حدود الاراضي التركية - برز كمنقذ للبلد من هزيمته، وكقيادي قادر على التصدي للحلفاء الذين بدا لوهلة انهم يسيطرون تماماً على الوضع. ترى هل تصرف مصطفى كمال من تلقائه وحوّل الهزيمة نصراً، ام ان الحلفاء ساندوه خفية، على ان ينسف الامبراطورية ويحل الجمهورية الضيقة الارجاء ومحلها؟ سؤال ظل يشغل بال المؤرخين طويلاً. إذ ان هؤلاء لم يفتهم ان يلاحظوا سرعة التفاف مصطفى كمال وجماعته على الوضع، وحجم الهزائم التي راح يلحقها بانصار الحلفاء اليونانيين خصوصاً في الوقت نفسه الذي كان يفكك فيه اوصال الامبراطورية. غير ان المهم في ذلك الحين لم يكن الوصول الى جواب قاطع على سؤال شائك. المهم كان مراقبة ما يجرى ميدانياً. وما كان يجرى ميدانياً كان، في الواقع غريباً: إذ انهض مصطفى كمال الشعب وجيشه من هزيمتهما، وبدأ يحارب لاسترجاع اراض كان الحلفاء سلبوها وسلموا بعضها الى اليونانيين. وهؤلاء خيل اليهم لوهلة ان انتصارهم كامل، وانهم ثأروا اخيراً من اعدائهم التاريخيين، الاتراك. لكن هذا كله عاد وانقلب رأساً على عقب خلال الايام العشرة الاخيرة من شهر ايلول من ذلك العام 1922. وكان الاساس الانعكافي في ذلك تحرير مصطفى كمال لمدينة إزمير، التي دخلها الاتراك ثم تابعوا طريقهم وهم يقتلون اليونانيين ويطردونهم امامهم، صاعدين حتى وصلوا الى بحر مرمرة. وهكذا خلال تلك الايام نفسها اخلى مصطفى كمال مناطق الاناضول كلها من اي وجود لاي جندي عدو. وهذا ما جعل شيئاً من القلق يظهر في تصرفات الحلفاء الانكليز والفرنسيين خصوصاً من الذين راحوا يتساءلوا عما اذا لم يكن مصطفى كمال يخطط لمواصلة هجومه حتى تحرير المناطق المحايدة الفاصلة بين آسيا واوروبا. تساءل الحلفاء: هل يواصل مصطفى كمال هجومه حتى يستعيد اسطنبول وتراقيا؟ وهذا التساؤل قادهم الى الاجتماع ضد مواصلة مصطفى كمال هجومه صعوداً. وكان فحوى الاحتجاج ان هناك اتفاقاً كان وُقّع مع السلطان ينص على ابقاء اسطنبول والمناطق المحيطة بها منطقة محايدة، ما يتنافى معه مواصلة القوات الوطنية تقدمها. وهنا امام هذا الاحتجاج قال مصطفى كمال العبارة التي افتتحنا بها هذا الكلام. وهي عبارة فهمت بأبعد مما يتيح معناها المباشر: فهمت باعتبارها اشارة الى ان مصطفى كمال مصرٌّ على وضع نفسه موضع الند تجاه السلطان، معتبراً نفسه وما يمثله، الشرعية الوحيدة التي يحق لها ان تتخذ القرارات المناسبة لمصلحتها الوطنية. امام ذلك الموقف راحت الدول الحليفة تطلق الانذار تلو الآخر، لكن جنود مصطفى كمال لم يأبهوا لاي من تلك الانذارات، بل نراهم وفي ذلك اليوم بالذات يعبرون المضيق ليجدوا انفسهم في مواجهة القوات البريطانية تماماً. وهنا لم يفت مصطفى كمال ان يصرح أنه لا ينوي محاربة الانكليز، بل انه حارب وسوف يحارب اليونانيين وحدهم، مؤكداً ان رجاله الذين لم يعد في وسعه السيطرة عليهم، قرروا مواصلة مطاردة اليونانيين حتى داخل اوروبا. في البداية "فكرت" بريطانيا بخوض الحرب ضد مصطفى كمال، لكنها بعد ذلك تراجعت، اذ "عجزت" عن الحصول على دعم فرنسي او ايطالي لتحركها. وكنتيجة لذلك الوضع المربك كله اقترح الانكليز عقد مؤتمر لبحث الامر في مودانيا، ووافق مصطفى كمال، وقد ادرك ان مجرد موافقته تعني انه قد امسك الامور بيديه وان السلطان صار وجماعته، كمّاً لا يحسب له اي حساب الصورة: منطقة الدردنيل المحايدة يوم اجتازتها قوات مصطفى كمال.