لا أحد يعرف أين قتل ودفن الشاب العشريني اليافع إسماعيل خليل الحروب الذي تم تجنيده في الجيش التركي في سنوات الحرب العالمية الأولى، مع العشرات غيره من شباب قرى جنوب غربي بيت لحم. بحسب روايات كبار السن في قرية وادي فوكين كان إسماعيل «زينة شباب البلد»، أشدهم عوداً، وأمتنهم بنية، وأكثرهم طولاً، ولهذا سرعان ما وقعت عليه أعين الضباط الأتراك. غادر ولم يعد، وعادت بدلاً منه برقية حرب إلى الإدارة التركية في مدينة الخليل تدرجه في قوائم القتلى. ترك إسماعيل جرحاً غائراً في قلوب أهل «الواد» وبخاصة شقيقه الوحيد خليل الذي بقي يذكره بالفخر والدمع حتى مات هو الآخر على مشارف المئة عام في مدينة عمان بعد الحروب المتلاحقة واللجوء المتكرر. جدّي خليل قص علينا ونحن صغار ونحن كبار أيضاً قصصاً لا تُحصى عن بطولة أخيه إسماعيل في حرب تركيا. ونحن صغار كنا ننصت بإكبار وخشوع وفخر لا يوصف لقصص عظمة أخيه جدنا الآخر الذي «حمى تركيا» ببطولته. ونحن كبار صرنا نحضن جدنا المكلوم الذي يضيف على القصة شيئاً جديداً كل مرة بما يضاعف من بطولة البطل - أخيه. لكن الجزء الذي لم يتزحزح في قصة غياب إسماعيل وقتاله مع الأتراك ثم استشهاده ضد الإنكليز كان دوره في معركة مضيق الدردنيل! منذ سنوات المدرسة الابتدائية وأنا أذكر هذا الاسم المدندن والموسيقي «الدردنيل» لكثرة ما ردده جدّي في سياق سرد بطولات شقيقه. لم أكن ولا كل أقراني يعرف ما هو «الدردنيل» وإن كان اسماً لشخص أو بلد أو حتى نوع فواكه. لكنا بالتدريج عرفنا أنه مكان في غاية الأهمية في تركيا كانت قوات الحلفاء تحاول احتلاله وفشلت لأن جدنا إسماعيل دافع عنه وكان يمتطي يومها، وبحسب رواية جدي خليل، مدفع «متر اللوز» – المخيف - الذي فجر جيش الحلفاء رتلاً وراء آخر، مما أبقى الدردنيل صامداً وبالتالي حمى تركيا من السقوط. في المرحلة الثانوية صار أصدقائي الساخرون الذين سمعوا القصة من جدي أكثر من مرة يطلقون عليه لقب «حامي تركيا». قرأت في ما بعد نتفاً عابرة عن حصار ومعركة مضيق الدردنيل التي وضعت قائدها مصطفى كمال أتاتورك، الضابط الصغير آنذاك، على مراتب سلم المجد العسكري وكانت بداية صعوده المبُهر. تُشتهر المعركة باسم آخر هو «غاليبولي» وأصبحت مما يُدرس في الكليات العسكرية بسبب حنكة وإصرار مصطفى كمال وشجاعته طوال أشهر، التي قوضت خطط تشرتشل يومها لإحكام الحصار على تركيا من جهة الغرب. مضيق الدردنيل هو الخاصرة الرخوة التي إن تمت السيطرة عليها فإن جيوش الكومنولث يومها (الإنكليز والأستراليون والكنديون، إضافة إلى الفرنسيين واليونان) سوف تطبق على بحر مرمرة وتصبح إسطنبول بعد ذلك قيد السقوط شبه المحتم. مؤخراً قرأت بتوسع عن تلك المعركة المفصلية في كتاب حديث بعنوان «أتاتورك: دروس في القيادة من أعظم جنرال في الامبراطورية العثمانية»، للأميركي أوستن بي (Ataturk: Lessons in Leadership from the Greatest General of the Ottoman Empire). مع تصفح هذا الكتاب الممتع عادت إلي قصة شقيق جدي الذي حمى تركيا ب «مدفع متر اللوز» وأنا أقرأ أن مجموعة كاملة من الجنود العرب قاتلت ببسالة مع مصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً) خلال الأسابيع المريرة الطويلة فوق هضاب «غاليبولي»، وأن كثيراً منهم قتلوا يومها. شقيق جدي، إذاً، وممثل العائلة في الدفاع عن تركيا قاتل وقضى هناك، وفي شكل شبه موثق الآن! مصطفى كمال كان يومها في أوائل الثلاثينات لكنه كان قد لفت انتباه رؤسائه بانضباطه وذكائه اللماح، وبتفوقه في المدارس والكليات العسكرية التي انضم إليها. في «غاليبولي» كان عليه أن يواجه أسطولاً كبيراً من سفن الحلفاء التي أحاطت بالجزيرة الصغيرة وأرادت اكتساحها ودكّتها بالمدفعية لفترات طويلة متواصلة. وفي لحظة فاصلة في تلك الأسابيع والعاصفة والمتوترة شن الحلفاء هجوماً واسعاً أدى إلى هرب الجنود الأتراك من منطقة الشاطئ باحثين عن مناطق أكثر أمناً، وبدا أن تلك المعركة هي الفاصلة وإثرها سوف تسقط الجزيرة والمضيق بيد الحلفاء. يومها وقف أتاتورك بقامته الطويلة ووجهه الصارم في وجه الجنود الراكضين وأوقفهم، وصرخ في وجوههم صرخته التي دخلت التاريخ وأدخلته إليه قائلاً لهم: «لا أتوقع منكم أن تهاجموا، لكني آمركم بأن تموتوا! وفي الوقت الذي يمضي حتى نموت جميعاً، سوف تأتي قوات إضافية وقادة آخرون ليأخذوا مكاننا». تلك الصرخة وأثرها الرهيب في قلوب الجنود الأتراك الخائفين آنذاك ربما يفسران جزءاً من الحكاية أو الأسطورة التي ظل جدي يرددها عن شقيقه «المدافع عن مضيق الدردنيل، وحامي تركيا». يقول ذلك الجزء الذي تواتر من أكثر من مصدر أن جدنا الكبير «حامي تركيا» أصيب خلال المعارك وتم نقله إلى الخطوط الخلفية للعلاج. وقد خُيّر بعد الإصابة بين أن يعود للمعارك أو تتم إعادته إلى بلده، فاختار الأولى وأصر على العودة إلى نفس الخندق الذي أصيب فيه. وليس من المُستبعد أن يكون ذلك قد وقع حقاً بسبب الروح القتالية العالية التي بثها أتاتورك في صفوف جنوده. وتذكر الوثائق أن مصطفى كمال أصيب خلال معارك الدردنيل بشظية في صدره لكنه أخفى إصابته طويلاً عن الجنود حتى لا تتأثر معنوياتهم. والشيء المُلفت في التدريب العسكري الأولي لأتاتورك ولجيل واسع من أقرانه هو التأهيل الرفيع والحديث مقارنة بالترهل الذي عشش في بقية قطاعات الامبراطورية المريضة. في العقود الأخيرة من عمر السلطنة حاولت إسطنبول وقف الانحدار والتدهور الذي آلت إليه الدولة عبر إدخال التحديث السريع في ما عرف ب «التنظيمات»، وهي محاولة فشلت. لكن نجاحها النسبي شبه الوحيد كان في القطاع العسكري وتحديداً عبر إقامة المدارس العسكرية على النمط الأوروبي والتي انتجت جيلاً عسكرياً متدرباً على القواعد الأوروبية (من المرحلة الابتدائية إلى ما بعد الثانوية ووصولاً إلى الكليات العسكرية)، وهو الجيل الذي انتمى إليه أتاتورك. حداثة أتاتورك العسكرية والتعليمية هي التي انتجت منه قائداً فريداً قاتل ببسالة ضد قوات الحلفاء من جهة وضد أطماع الروس من جهة ثانية وضد اليونانيين الذين حاصروا أنقرة من جهة ثالثة. لكنه في نفس الوقت أدرك أن حربه هي ضد أطماع الغرب وليس ضد حداثة الغرب وعلومه التي يجب تبنيها لأنها هي التي تحقق القوة والاستقلال الحقيقيين. خلال حروبه التي تنقل فيها على حدود الامبراطورية المُنهارة كان السلاطين الضعفاء في إسطنبول يوقعون المعاهدة تلو الأخرى مع القوى الكبرى ويقدمون التنازلات التي قطعت أرجاء الامبراطورية ورهنتها للخارج، من برنامج ميرتزيغ الإصلاحي عام 1903 والذي وافق عليه السلطان عبد الحميد الثاني وبموجبه تخضع قوات البوليس التركي في مقدونيا لمراقبين دوليين، ووصولاً إلى معاهدة «سيفر» عام 1920 التي مزقت بقايا الامبراطورية ووافق عليها سلطان إسطنبول ووزيره الأعظم ورفضها أتاتورك والحركة الوطنية التركية. النقطة ذات الصلة هنا هي أن التعليم العميق الذي انخرط فيه أتاتورك من أيام دراسته الثانوية في الكلية العسكرية في مونستير حيث قرأ الفلسفة والسياسة وفكر روسو وفولتير وكامو وتعلم الفرنسية هو الذي أنتج وعياً عالمياً لديه مكنه في ما بعد من تصور شكل تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. لولا أتاتورك ووعيه السابق للنخبة التقليدية الحاكمة في إسطنبول وسلطنتها التي كانت تهتم بالإبقاء على كرسيها مهما كان الثمن حتى لو كان تقسيم تركيا، لما كان هناك شيء اسمه تركيا كما نعرفه الآن. في المقابل كان جدي خليل وأقرانه في القرية وبقية أرجاء فلسطين غارقين في ثقافة تقليدية موحلة في ركودها وسذاجتها. كانوا يعتقدون أن أشقاءهم صاروا جنوداً في خدمة السلطان ودفاعاً عن الامبراطورية والخلافة الإسلامية، في وقت كان السلطان المعظم يتحالف مع الإنكليز والقوى الأوروبية ضد أتاتورك الذي قاد حرب الاستقلال في الغرب وفي قلب الأناضول وقاد معركة الدفاع عن أنقرة حينما زحف عليها اليونانيون. المثال الحداثي في معركة فلسطين تمثل في اليهود المهاجرين الذين قدموا من أوروبا معززين بالمعرفة والعلم والاندفاع والاطلاع العميق على الوضع العالمي. خلاصة الحداثة الأوروبية آنذاك جاءت إلى فلسطين لتقود حرباً ضد رتابة التقليد والبساطة حتى لا نقول السذاجة المطلقة. توفي أتاتورك وعمره لا يتجاوز 57 سنة، واستطاع في ذلك العمر القصير أن ينجز استقلال تركيا ويحافظ عليها من معاول التقطيع والتجزئة التي لو نجحت في ما أرادت أن تفعله لانسلخ الأناضول برمته عن تركيا، وأجزاء واسعة من غربها (بما في ذلك إزمير) إضافة إلى المناطق المجاورة لأرمينيا وغيرها. العزاء الوحيد لجدّي الذي خسر فلسطين هو وجيله أن شقيقه إسماعيل ساهم في حماية تركيا وخدم تحت قيادة أتاتورك في الحفاظ على مضيق الدردنيل في معركة غاليبولي الشهيرة. لكن الشيء المُحبط في ذات الوقت أن درس أتاتورك العميق لم يتم استيعابه، بل اختُصر القائد الكبير في مقولات الإسلاميين التسطيحية بأنه كان خلف إسقاط الخلافة العثمانية التي كانت ساقطة أصلاً ولا تحتاج جهد أتاتورك لإسقاطها. لو لم يكن هناك أتاتورك لحماية ما تبقى من تركيا وبقي الأمر في يد السلطان الضعيف لسقطت إسطنبول وتم تقسيمها، ولصارت أنقرة وإزمير أجزاءً من اليونان – مقابل أن يبقى السلطان مكرساً ومُبجلاً! * محاضر وأكاديمي - جامعة كامبردج، بريطانيا [email protected]