هل كانت الدول الغربية الخارجة منتصرة من الحرب العالمية الأولى، والمطلقة على نفسها اسم "دول التفاهم" جادة حقاً في الغضب الذي ابدته في ذلك الحين، ازاء مصطفى كمال، القائد التركي الذي كان يتصرف كما لو انه يعمل لحسابه، ويسجل انتصاراً اثر انتصار في وقت خروج امته التركية مهزومة مشتتة من تلك الحرب؟ هذا السؤال، المعقد والطويل، لم يتوقف المؤرخون عن طرحه على انفسهم، منذ ذلك الحين. ومن الواضح ان ثمة، في خلفية هذا الطرح، ضروب استغراب، ليس فقط ازاء ضخامة الانتصارات التي تمكن مصطفى كمال من تحقيقها، وسرعة تلك الانتصارات، بل كذلك ازاء النتائج التي تمخض عنها نشاط مصطفى كمال، والطريقة التي بها فرض نفسه، هو الذي لم تكن له، صفة رسمية في الجيش السلطاني في ذلك الحين. الصورة كلها تبدو اليوم سريالية: دولة مهزومة فقدت امبراطوريتها، وغرب مسيطر يحتل اجزاء كبيرة، ليس من الامبراطورية التي انتهى امرها فقط، بل من الأراضي التركية نفسها. وسلطان يريد ان يهادن وهو "مدرك لحدود قدرة بلاده على التحرك". وأخيراً قائد عسكري يتصرف ويتحرك، وينتصر، ويثير حماس شعبه وجيوش وطنه. وغرب منتصر، يترك حلفاءه ومحبّيه اليونانيين والبلغار يتراجعون بعدما كانوا حققوا اختراقات للأراضي التركية تهدد باستعادة بيزنطة القديمة! من قال يا ترى ان السياسة هي ام الحروب. وان ثمة حروباً، تتحقق فيها الانتصارات والهزائم، في المكاتب وغرف الاجتماعات الموحدة، لا في ميدان القتال؟ اذا كان احد قد قال هذا ذات يوم، لا شك ان ما كان يحدث في تركيا في ذلك الحين، من شأنه ان يعطي كلامه هذا صدقيته. ونعود الى الحكاية الأساسية: في الثلاثين من ايلول سبتمبر 1922، ابلغت "دول التفاهم" من يعنيهم الأمر، احتجاجها على تقدم القوات العسكرية التركية، بزعامة مصطفى كمال، نحو منطقة الدردنيل. قبل ذلك كان مصطفى كمال، و"بشكل غير رسمي" تمكن من حماية العاصمة السياسية الموقتة، في ذلك الحين، انقرة، ورد اليونانيين ومن معهم على اعقابهم. لكنه الآن لم يعد يكتفي بالدفاع، ورد الهجوم، بل تحول هو نفسه الى الهجوم. كيف؟ لا احد يدري. المهم ان مصطفى كمال من بعد تحرير إزمير، واصل اندفاعته طارداً اليونانيين حتى بحر مرمرة. وهكذا ما ان حلت اواسط شهر ايلول سبتمبر من العام 1922، حتى خلت منطقة الأناضول كلها من اي وجود لقوات معادية. يومها تساءلت صحافة الدول الغربية "بشيء من القلق"، عن المدى الذي سوف يوصل مصطفى كمال اليه هجومه. وكانت خطابات مصطفى كمال تعلن بوضوح انه عازم على تنفيذ ما جاء في "الميثاق الوطني" بخصوص استعادة اسطنبول وتراقيا الشرقية. من هنا، حين احتجت "دول التفاهم" على ابداء الزعيم التركي لتلك الرغبة، وبالتحديد ضد اندفاع القوات التركية حتى مناطق الدردنيل "التي تشكل، تبعاً للمعاهدات التي تلت الحرب، حدود المنطقة المحايدة" التي اقامتها تلك الدول من حول اسطنبول، بموافقة السلطان، كان رد مصطفى كمال عجيباً: قال انه ليس مجبراً على النظر بعين الاعتبار الى اتفاق لم يوقعه هو شخصياً! ماذا فعلت الدول الغربية؟ اكتفت بأن توجه اليه، اعتباراً من ذلك اليوم، انذاراً تلو الآخر. ولكن، رغم تلك الانذارات، ورغم القوات الغربية الضخمة المرابطة، والتي يمكن الاتيان بها، راحت قوات الأتراك تتقدم وتتقدم حتى وجّدت نفسها في مواجهة القوات البريطانية. يومها سئل مصطفى كمال عما اذا كان في نيته ان يهاجم القوات البريطانية فأجاب انه ليس في حالة حرب مع بريطانيا. انه في حالة حرب مع اليونانيين فقط. وان رجاله، الذين لا يمكنه ان يردعهم الآن، اتخذوا قرارهم بأن يلحقوا به حتى اوروبا. يومها قيل ان الحكومة البريطانية فكرت حقاً في ان تخوض الحرب ضد الأتراك موقنة من انها سيمكنها ان تنتصر عليهم بكل سهولة. لكنها "وبعد تفكير عميق، تناول النتائج التي يمكن ان تكون لمثل ذلك التصرف من قبلها، قررت ان تتخلى عن فكرة المجابهة" خاصة وانها "لم تتمكن من ضمان وقوف فرنسا وإيطاليا معها". وذلك كله استبدل يومها بمؤتمر سلام جديد عقد في مودانايا، وهي مدينة ساحلية تقع على بحر مرمرة. وكانت النتيجة، ان انتصر مصطفى كمال، ديبلوماسيا.. وهلل الأتراك، في اسطنبول كما في الصورة، للانتصار الذي اعاد اليهم تركيا ولو... من دون الامبراطورية!