في العاشر من تشرين الثاني نوفمبر 1918، بدت الأمور كلها متشابكة وسيئة، بل كارثية، بالنسبة الى القيادة التركية. ففي ذلك اليوم بالذات انهارت، نهائياً، كل مقاومة عثمانية في الأراضي السورية. اذ، قبل ذلك، وعلى رغم الاستسلام التركي المهين تبعاً لاتفاقية الهدنة التي وقعت في مودروس، وعلى رغم ان الامبراطورية العثمانية، حين وقعت على تلك الاتفاقية انما وقعت على صك دفنها، كانت لا تزال هناك بقايا لجيوب تقاوم في المناطق الشمالية من سورية، في أمل أن "يكتشف العرب حجم الخديعة الانكليزية التي وقعوا في شراكها ما جعلهم يغدرون بالمسلمين العثمانيين لصالح الغرب المحتل" - بحسب رأي كاتب تركي في ذلك الحين -، وينقضوا على القوات الانكليزية الزاحفة شمالاً. لكن ذلك لم يحصل. والأدهى من هذا أن الألمان أنفسهم، في شخص الجنرال ليمان فون ساندرز تخلوا بدورهم عن الاتراك، ما جعل هؤلاء وحيدين في صدامهم يفكرون بالحد من الخسائر لا بوقفها. في تلك الآونة، كان مصطفى كمال في انقرة يحاول التفكير في ما يجب عمله. وفي يوم 10/11، وصلته برقية من أحمد عزت باشا، تبلغه بأنه قد أقيل من منصبه العسكري وان عليه الآن أن يعود الى العاصمة بأسرع ما يمكن. وأدرك مصطفى كمال ان البرقية تعني أكثر مما تقول بكثير، لذلك سارع الى ركوب القطار في مساء ذلك اليوم نفسه لكي يتوجه الى اسطنبول. وخلال ذلك اليوم نفسه كان قد تم الغاء جهاز الاركان العامة للجيش السابع وكذلك قيادة قوات "الزوبعة" العسكرية، بفعل فرحان سلطاني. ونص الفرمان أيضاً على وضع مصطفى كمال في تصرف وزارة الدفاع. وكان ذلك كله يعني شيئاً واحداً: خسرت الامبراطورية العثمانية الحرب وبدأت تعيش حالة تدبير الأمور في مناخ الهزيمة. وكان هذا، على أية حال، ما أدركه الثلاثي الانقلابي المؤلف من أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، قبل أسبوع، حيث اجتمع الثلاثة في آخر مؤتمر استثنائي لحزب الاتحاد والترقي في اسطنبول وقرروا حل الحزب قبل ان يتوجه ثمانية من قادته، وبينهم الثلاثة الكبار، الى طراد الماني هرب بهم الى خارج البلاد. في المقابل بقي في اسطنبول أحمد عزب باشا الذي كان عُيّن صدراً أعظم يوم 14 تشرين الأول اكتوبر الماضي. واحمد عزت باشا كان هو، اذاً، الذي وجه الى مصطفى كمال برقية يطلب اليه فيها ان يتوجه الى العاصمة، ونذكر للمناسبة ان مصطفى كمال كان، قبل ذلك بنحو ثلاثة أسابيع، وإثر تعيين عزت باشا، صدراً أعظم، كان طلب اليه بإلحاح ان يعنيه وزيراً للدفاع، غير ان الصدر الأعظم لم يستجب لطلب مصطفى كمال ما جعل هذا يحس بخيبة شديدة سيقول لاحقاً انها أثرت عليه وعلى معنوياته وجعلته يتقاعس، نفسياً، عن المقاومة، وكان ذلك، بحسب بعض كاتبي سيرته، من اسباب الهزيمة النكراء التي أصابت تركيا في ذلك الحين. لكنه كان - أيضاً -، ودائماً بحسب هؤلاء، الدافع الأساسي الذي جعل مصطفى كمال يقرر مواصلة المعركة على رغم كل شيء، وقد هزته مشاهد الجنود العثمانيين الراجعين من الحرب مهزومين بفعل "تواطؤ الخارج، وهشاشة الداخل". المهم ان مصطفى كمال، وهو يتوجه الى العاصمة آتياً من أضنه، حيث كان يشرف على آخر العمليات العسكرية التركية شمالي سورية، كان يفكر بكم ان السلطات مدينة له، اذ من المعروف انه حل محل الجنرال ليمان، ما مكنه من أن يمنع الانكليز من إحداث أي خرق في معاهدة مودروس، هم الذين حاولوا ذلك في خضم احساسهم بالنشوة بفعل انتصاراتهم الأخيرة في سورية. في أضنة كان مصطفى كمال قد اعد ما تبقى لديه من وحدات مقاتلة لم تنهر معنوياتها بعد، لكي تكون مستعدة لنضال طويل الأمد من اجل منع الحلفاء، هذه المرة، ليس من ابتلاع مناطق الامبراطورية العثمانية، بل خاصة أراضي تركية نفسها. وهو ما سيحدث احمد عزت به في اسطنبول اعتباراً من صباح اليوم الثاني، اليوم الذي رأي فيه مصطفى كمال، ميدانياً، ان ثمة في الحكم الآن، فراغاً يجدر به هو أن يملأه الآن. الصورة: قوات عسكرية تركية راجعة مهزومة من سورية.