مأساة اللاجئين غير الشرعيين تمتد اليوم على اتساع خريطة العالم، فلم تشهد الساحة الدولية تدفقاً بشرياً على قدر كبير من القنوط والعشوائية مثلما هي الحال، متفاقمة، مند حقبة ونيّف. الأسباب كثيرة والمصير واحد. فالحروب الباطشة التي لا تضع في حساباتها الشرط الإنساني تركت وراءها ظروفاً اقتصادية ومعيشية مستحيلة طاولت الملايين، كذلك العولمة المستجدة أسهمت في اظهار الفوارق المجتمعية بين ما يسمى بالعالم الثالث ومستوى الدخل في العالم الصناعي، ما دفع بكثيرين الى تفضيل العيش الصلف في المدن الأوروبية على الحياة الصعبة في بلادهم خصوصاً الصين فهؤلاء يتمكنون من جمع ثروة خلال وقت قصير، إذ يعملون سرّاً في مصانع ومعامل يملكها أبناء جلدتهم، ويعودون بالمال الى مدنهم وبلداتهم قافزين درجات السلّم الاجتماعي بأسرع مما يتسنى لهم في وضعهم الاقتصادي الراهن. عصابات تهريب اللاجئين غير الشرعيين تعمل على طراز المافيا، حلقات منفصلة يسيطر عليها "عرّابون" يديرونها من بعيد، قلّما يسقطون في قبضة القانون خصوصاً أولئك الذين اتخذوا قواعد لهم في المدن الشرق آسيوية حيث تجري رشوة الشرطة المحلية كشربة الماء. وفي الآونة الأخيرة اتخذت قضية اللاجئين العراقيين الى استراليا محوراً دولياً بعدما انتفض هؤلاء في مجمّعاتهم مطالبين بمعاملة أفضل وظروف معيشية أكثر لياقة. والواقع ان الحكومة الاسترالية أصيبت بحرج واضح عندما أصدرت اللجنة الدولية لحقوق الإنسان المنعقدة في حزيران يونيو الفائت بياناً دانت فيه اعتقال اللاجئين والظروف المعيشية المحيطة بإقامتهم وطرق التعامل معهم على اختلافها. وزير الهجرة الاسترالي فيليب رادوك ردّ بقوله ان القوانين المرعية في بلاده تسمح بالاعتقال الوقائي لما فيه مصلحة المجتمع، وبرّر الاعتقال بأن التحقيقات الاستقصائية تستغرق وقتاً طويلاً، خصوصاً ان معظم اللاجئين يصلون من دون أوراق ثبوتية. وقال ان تلك التحقيقات تكلف مبالغ باهظة، وتسبب أعباء ادارية كبيرة. وان أي دولة لا تقبل بإدخال أشخاص الى مجتمعها من دون التحقق من هوياتهم وأسباب لجوئهم اليها. منظمة العفو الدولية عبّرت عن قلقها حول النقص في رعاية اللاجئين بعد اطلاق سراحهم، خصوصاً على اثر محنتهم الطويلة قبيل وصولهم الى استراليا وما يليها من قلق وأسر وانتظار، فكيف ينتهي ذلك كله بإعطائهم اجازات موقتة لثلاثين شهراً، ينظر في أمرهم من جديد بعد مرورها. وذلك خلافاً لمعاملة اللاجئين الذين يصلون عبر القنوات الدولية، إذ يمنح هؤلاء حق الإقامة الدائمة والافادة من كل التسهيلات المتاحة للمواطن الاسترالي، من تعليم وتطبيب واعانات عائلية. وتذكر منظمة العفو الدولية في تقريرها ان التفريق بين اللاجئين بناء على أسلوب بلوغهم البلد الذي اختاروا اللجوء اليه، لا يتطابق مع القوانين الدولية، إذ لا يجوز عقابهم بسبب طريقة وصولهم الى استراليا، وبالتالي تحويلهم لاجئين من الدرجة الدنيا. بين أوائل كانون الأول ديسمبر 1999 ومنتصف آذار مارس من العام الجاري اعترضت البحرية الاسترالية 22 مركباً في مياهها الاقليمية كانت تحمل 1505 لاجئين معظمهم من العراق وأفغانستان. في هذه الأثناء كان ما لا يقل عن ثلاثة آلاف لاجئ عراقي ينتظرون البت بأمرهم في المعتقلات. وجرى لاحقاً اطلاق سراح 1700 منهم خلال الشهرين المنصرمين. وتولّت بلديات المناطق الآهلة بالمهاجرين العرب تنظيم اقامات الوافدين الجدد بالتنسيق مع الجمعيات الدينية، مسيحية واسلامية، تآزرت في ما بينها، كما فتح كثيرون بيوتهم لاستيعاب الأعداد الفائضة. وتفيد مصادر وزارة الهجرة الاسترالية ان تهريب المهاجرين أصبح من العمليات الديناميكية ذات التبدل السريع في الطرق والوسائل بهدف التمويه ومقاومة تصدّي السلطات. ومعظم تلك العمليات مصدره الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما في الشرق الأقصى فبانكوك تتصدّر عمليات تزوير الجوازات تليها كوالالمبور. وجاءت الأفواج الأخيرة من موانئ كوبانغ، لومبوك، سومباوا وفلوريس في الجزر الأندونيسية. السلطات الاسترالية اتخذت تدابير جديدة صارمة لضبط عمليات التهريب تضمنت تطوير خفر السواحل والقدرات البحرية ذات الطاقة الموسعة على اعتراض المراكب مهما صغر حجمها. وبلغت تكاليف ذلك حوالى 124 مليون دولار. ولجأت الشرطة الاسترالية الى القانون فتمكنت من رفع عقوبات السجن بحق المهرّبين الى عشرين سنة وتكبيدهم عقوبات مالية تصل الى 220 ألف دولار اضافة الى مصادرة مراكبهم وبيعها أو تدميرها. وأطلق وزير الهجرة الاسترالي فيليب رادوك حملة اعلامية على مستوى عالمي عنوانها "كن مهرّباً للبشر وستدفع الثمن". وذلك بهدف وقف التهريب، وسافر رادوك الى الشرقين الأقصى والأوسط بحثاً عن تعاون مع سلطات البلدان المعنية. وكان قبل زيارته أعلن عن تدابير أكثر قسوة تجاه المهاجرين غير الشرعيين بينها: عدم منحهم الاقامة الدائمة أو السماح لهم بجلب عائلاتهم. توسيع وسائل التحقيق معهم لتشمل العينية الجينية والفحوصات المخبرية الدقيقة والبصمات وما اليها للتحقق من هوياتهم ومرجعياتهم وما إذا كان لديهم أي مكان آخر للاقامة أو إذا كانوا مرفوضين من بلاد أخرى. وذكرت وزارة الهجرة في أحد تقاريرها ان مداخيل تهريب البشر تبلغ سنوياً عشرة بلايين دولار أميركي. والدولة الاسترالية تتكلف ما لا يقل عن 50 ألف دولار لكل مهاجر غير شرعي، أي أن مصاريف المعتقلات بلغت عشرة ملايين دولار بين أوائل تموز يوليو وأواخر تشرين الأول أوكتوبر عام 1999. وأرسلت وزارة الهجرة الاسترالية موفدين الى مطارات بكين وبيروت وهونغ كونغ ومانيلا وبانكوك وجاكارتا وغوانغزو يتعاونون مع السلطات المحلية للتدقيق في هويات المهاجرين أو حاملي الجوازات المشبوهة. لدى وصولهم الى استراليا تجري مقابلة اللاجئين غير الشرعيين افرادياً لمعرفة أسباب اختيارهم استراليا والسبب الذي دفعهم الى اللجوء. وتكون المقابلات وجاهية بين ممثل عن مكتب الهجرة ومترجم واللاجئ، وذلك بحسب بروتوكولات الأممالمتحدة الموقعة عامي 1951 و1967. وفي هذه المرحلة يملأ اللاجئ طلب تأشيرة حماية عليه أن يذكر فيها حقائق موثقة أو منطقية تتعلق بوضعه الاجتماعي، موقفه السياسي، الظلم اللاحق به، ويستثنى من القبول فوراً مجرمو الحرب والمجرمون المدنيون ذوو السجلات المعروفة، بعدئذ يجري فحص اللاجئ صحياً، وذلك يتضمن التصوير بالأشعة وفحوص الدم والبول. في مطلع آب أغسطس الفائت أثار فيليب رادوك، وزير الهجرة الاسترالي، عاصفة استنكار واسعة النطاق حين صرّح أن المهاجرين غير الشرعيين يخادعون الدولة المضيفة لهم، إذ يحصلون على أموال من اعانات المنظمات الخيرية ويرسلونها الى ذويهم في الخارج. وأضاف "لكنني لا أملك دليلاً قاطعاً على ذلك". وأفاد عدد من العاملين الاجتماعيين العرب في سيدني وملبورن ممن اجتمعوا بالوزير انه شديد الغضب والاستياء، ينطلق من موقف عدائي مسبق ويكيل الاتهامات يميناً وشمالاً، حتى انه طالب المتبرّعين بالمساعدة الا يفعلوا امعاناً في جعل تجربة المهاجرين أكثر صعوبة، وكي تكون درساً لمن تسوّل له نفسه القيام بالرحلة الخطرة الى استراليا! وجاءت احداث الاسبوع المنصرم لتؤكد فشل سياسة رادوك فشلاً ذريعاً، إذ قام اللاجئون في معتقل ووميرا بحرق غرف المنامة واندفعوا عبر الاسلاك الشائكة والاوتاد متظاهرين مطالبين بمعاملتهم كبشر ذوي حقوق تضمنها الاعراف الدولية، ما وضع الحكومة الاسترالية في موقف حرج خصوصاً ان استراليا على قاب قوسين او ادنى من بدء الالعاب الاولمبية وستكون معرّضة اكثر من اي وقت مضى لتحقيقات الاعلام العالمي.