اختار ألبرتو مانويل ان يكون عيناً للكاتب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس 1899 - 1986. ومانويل هذا هو كاتب أرجنتيني أيضاً، وصاحب كتاب "تاريخ القراءة" الصادر عام 1996، فضلاً عن عدد من الكتب الأخرى. كان في السادسة عشرة، عام 1964، حين التقى بورخيس للمرة الأولى وأصبح عينه أو قارئه. بيد أنه كان قبل ذلك التهم مقداراً من الكتب. فهو أراد منذ نعومة أظفاره "أن يحيا بين الكتب" كما يقول. ولم يكتشف ان الكتب قد تقصّر في بعض الأحيان عن الواقع إلا حين تقرّى جسد حبيبته للمرة الأولى. ومع ان والد مانويل كان ديبلوماسياً ميسوراً ولديه مكتبة ضخمة في منزله، إلا أن الصبي وجد عملاً بعد المدرسة في احدى مكتبات بيونس آيرس في عام 1964. وفي احد الأيام دخل بورخيس المكتبة ترافقه أمه التي بلغت الثامنة والثمانين. وكان بورخيس قد أصبح ضريراً لكنه يرفض حمل العصا. وراح بورخيس يمرر يده فوق رفوف الكتب كما لو أن اصابعه قادرة على أن ترى العناوين. ومن ثم اشترى كتباً وأوصى على أخرى. وبينما كان على وشك المغادرة سأل مانويل ان كان لديه ما يشغله في المساءات لأنه بحاجة الى أحد يقرأ له، اذ ان أمه كانت الآن سرعان ما تتعب من القراءة. ووافق ألبرتو مانويل. وخلال السنتين التاليتين كان مانويل يقرأ لبورخيس حتى صار عيناً له، في الأماسي أو في الصباحات حين يسمح له الدوام المدرسي. وكان ثمة طقس يتكرر على الدوام، حيث يمضي مانويل الى شقة بورخيس فيصعد الدرج دون ان ينتظر المصعد وهذا الدرج، كما يقول مانويل، يشبه ذاك الدرج من الذي راح بورخيس ذات مرة يقفزه قفزاً وهو فرح بنسخة جديدة من "ألف ليلة وليلة" حتى انه لم يلاحظ نافذة الدرج المفتوحة التي اصطدم بها وجرحته جرحاً بليغاً لم يلبث ان التهب وأحدث لديه ما أحدثه من هذيان وهلوسة حتى اعتقد انه قد جُنَّ. وكان مانويل يقرع الجرس فتفتح له الخادمة التي تقوده عبر مدخل عليه ستارة الى غرفة جلوس صغيرة حيث يأتي بورخيس ليقابله. ومن دون مقدمات كان بورخيس يجلس على الأريكة مترقباً بينما يأخذ مانويل مكانه على كرسي بجانبه، ثم يشير بورخيس بصوت مبحوح قليلاً الى ما سيقرآنه: "هل نختار كيبلنغ هذه الليلة، ما رأيك؟" وبالطبع لم يكن ينتظر جواباً من مانويل. يقول ألبرتو مانويل: "في غرفة الجلوس تلك، وتحت لوحة محفورة لبيرانيزي تمثل آثاراً رومانية دائرية الشكل، قرأت كيبلنغ، ستيفنسون، هنري جيمس، وبعض المداخل في انسيكلوبيديا بروكهاوس الألمانية، وأشعاراً لمارينو، وهاينه وكان بورخيس يحفظ أشعار هذا الأخير عن ظهر قلب، ولذا ما كنت أبدأ بقراءتها حتى يأخذ صوته المتردد بالتقاط المطلع والتلاوة من الذاكرة من دون خطأ. لم أكن قد قرأت الكثير لهؤلاء الكتّاب قبل ذلك، لذا كان الأمر مثيراً للفضول. كنت اكتشف النص الذي أقرأه إذ أقرأه بصوت جهوري، اما بورخيس فكان يستخدم أذنيه كما يستخدم الآخرون أعينهم، فيمسح الصفحة بحثاً عن كلمة، أو جملة، أو فقرة تتمسك بها الذاكرة. وحين كنت أقرأ كان يقاطعني في بعض الأحيان ليعلق على النص. وكان ذلك باعتقادي لكي يرسخ في ذهنه ملاحظة معينة...". وفي مرة، كان مانويل يقرأ "الليالي العربية الجديدة" لستيفنسون حين أوقفه بورخيس بعد جملة وجدها بالغة الطرافة تقول: "كانت قد لبست وتزينت مثل شخص يعمل في الاعلام ولكنه فقير". وسأل بورخيس: "كيف يمكن ان يكون لباس هذا الشخص؟ هه؟ ما الذي كان في ذهن ستيفنسون برأيك؟ انّه بالغ الدقّة؟ هه؟" ثم راح يحلل التقنية الأسلوبية التي تُتَّبع في التعريف بشخص أو شيء عن طريق صورة أو مقولة تجبر القارئ على أن يقيم تعريفاً شخصياً في الوقت الذي تبدو فيه تلك الصورة أو المقولة دقيقة في الظاهر. ولقد عزف بورخيس وصديقه أدولفوكا سيراس على هذه الفكرة في قصة قصيرة مؤلفة من احدى عشرة كلمة: "صعد الغريب الدرج في الظلام: تيك توك، تيك توك، تيك توك". وفي مرة كان مانويل يقرأ قصة لكيبلنغ عنوانها "المنبوذ"، فأوقفه بورخيس بعد مشهد ترسل فيه أرملة هندوسية الى عشيقها رسالة مؤلفة من أشياء مختلفة جمعتها معاً في صرّة. وقد علق بورخيس على ما في ذلك من ملاءمة للشعر. وتساءل ما اذا كان كيبلنغ قد ابتدع هذه اللغة الملموسة والرمزية في الوقت ذاته. ومن ثم، وكما لو أنه ينقب في مكتبة عقله، راح يقارن هذه اللغة باللغة الفلسفية لدى جون ويلكنز حيث كل كلمة هي بمثابة تعريف لذاتها. وفي مرة ثالثة راح بورخيس يجمع جملاً لدى كتّاب مشهورين. وكان من بينها بيت كيتس الذي يقول فيه: "البومة، على رغم كل ريشها، كانت بردانة". وكان من بينها قول شكسبير على لسان هاملت: "يا لنفسي التي تنبأت! أعمّي!" فقد وجد بورخيس أنّ كلمة "عمّي" ليست شعرية ولا ملائمة على لسان هاملت، وكان يفضّل لو قال "أشقيق أبي!" أو "أقريب أمي!". ومن بينها أيضاً قول وبستر في "دوقة مالفي": "لسنا سوى كرات تنس بين يدي النجوم". وكذلك الأبيات الأخيرة من "الفردوس المستعاد" لميلتون، التي رأي انها تجعل المسيح أشبه بجنتلمان انكليزي يرتدي قبعة بولر ويعود الى بيت أمه كي يشرب الشاي. ويقول ألبرتو مانويل إنّ بورخيس كان يفيد في كتابته من قراءاته. وغالباً ما كان يطلب منه ان يكتب شيئاً في الصفحات الأخيرة البيضاء من الكتاب الذي يقرأه، كإشارة الى فصل محدّد أو فكرة معينة. ولم يكن مانويل يعلم كيف سيفيد بورخيس من ذلك، إلا أن هذه العادة صارت عادة مانويل أيضاً. يقول مانويل: "لم أشعر أبداً انني مجرد شخص يؤدي واجباً حين كنت أقرأ لبورخيس" بل أحسست بتلك التجربة كما لو أنها نوع من الأسر اللذيذ. وما خلب لبّي لم يكن تلك النصوص التي جعلني أكتشفها والتي صار كثير منها أثيراً لديّ، وانما تعليقاته التي كان تنم عن معرفة هائلة... وشعرت أنني المالك الوحيد لطبعة محققة بعناية من كتاب كُتِبَ من أجلي وحدي...". ومما حكاه بورخيس لألبرتو مانويل في تلك الفترة أنه خلال تظاهرة شعبية نظمتها حكومة بيرون عام 1950 ضد المثقفين المعارضين، راح المتظاهرون يهتفون: "نعم للأحذية، لا للكتب". وحين ردّ المثقفون: "نعم للأحذية، ونعم للكتب" لم يجدوا أذناً مصغية عند الجماهير. ويتذكّر مانويل أن أمه كانت تقول له حين تراه مستغرقاً في القراءة: "اذهب وعش!" ليأتي بعد ذلك الى رؤية قوى تشجع على الانقسام المصطنع بين الحياة والقراءة. فثمة من يطالبك بأن تنسى، ولذا فإنه يرى في الكتب كماليات تافهة. وثمة من يطالبك بألا تفكّر، ويعاقبك ويهددك ويراقبك اذا ما فعلت. وفي كلا الحالين، فإن ثمة من يطالبك بأن تكون غبياً ومذعناً وخنوعاً، ويشجعك لذلك على استهلاك طعام معلب، وفي مثل هذه الظروف لا يمكن للقراء الحقيقيين إلاّ ان يبدوا وكأنهم مخربون. * كاتب سوري.