اكتشف فرناندو بسِّوا 1888 - 1935 في يوم من شتاء 1914 انه ليس شخصاً واحداً فقط. في رسالة شهيرة في تاريخ الأدب البرتغالي كتب بسّوا لاحقاً أن الأمر حدث من دون أي خطة أو إنذار: ذات يوم وقف الى طاولة عالية، ومتناولاً مجموعة من الأوراق البيضاء، أخذ يخطّ، واقفاً، كما يفعل أحياناً، بعض القصائد. ومن دون أن يفهم كيف، وجد نفسه يكتب ثلاثين قصيدة دفعة واحدة. "بدأتُ بعنوان هو "راعي القطعان"، وللتو ظهر من أعماقي شخص منحته منذ تلك اللحظة اسم البرتو كايرو". بعد ألبرتو كايرو اكتشف بسّوا في أعماقه شعراء وفلاسفة آخرين، شعراء مثل ريكاردو رييس عن هذا الشاعر وقرينه بسِّوا كتب ساراماغو حامل نوبل 1998 رواية "سنة موت ريكاردو رييس" الصادرة بالبرتغالية في 1984 والمترجمة الى الانكليزية في 1992، وألفارو دي كامبوس التجريبي العنيف، وبرناردو سواريس صاحب "كتاب اللادعة" حيث دوَّن بسّوا بين عامي 1913 و1934 يومياته البديعة: يوميات تأمل في النفس البشرية، في معنى الهوية هل لها معنى، في أكاذيب الوقت، وفي علاقة المرء بالآخرين وبالعالم، كما بذاته الغامضة. قارئ "كتاب اللادعة" ينتابه الإحساس أنه أمام ذكاء خارق، أمام قدرة غير معقولة على كتابة الأحاسيس في لحظة تحولها، وأمام تحقق أكيد لحلم من أحلام فرانز كافكا 1883 - 1924، ذلك الحلم الذي تحدث عنه في يوميات 1913 متسائلاً هل يستطيع ذات يوم أن يكتب الأحاسيس المتضادة التي يعرفها الواحد في كل لحظة من الاضطراب. ما يكتبه كافكا عن التناقض في الانسان، وما يحاول بسّوا تحليله عقب ذلك الاكتشاف المذهل اكتشاف البرتو كايرو وتلامذته الذي تمّ له - مصادفة - سنة اندلاع الحرب العالمية الأولى، يشير الى تيمة قديمة في تاريخ الأدب. نقدر أن نتكلم على قايين وهابيل، أو على عيسو ويعقوب، توائم "العهد القديم"، لكن الصورة الأجمل للانسان المنقسم الى نصفين، أو للانسان المكون من اثنين، لا نجدها في "العهد القديم" بل في رواية انكليزية صدرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كتب روبرت لويس ستيفنسون 1850 - 1894 رواية "دكتور جاكل ومستر هايد"، في مسودة أولى، خلال ثلاثة أيام، من أواخر عام 1885. بعد ثلاث سنوات، في 1888، سنة ميلاد بسّوا، كتب ستيفنسون مقالة عن روايته التي باتت شهيرة على جانبي الأطلسي خلال عامي 1886 - 1887، زاعماً انه لم يؤلف الرواية بنفسه. كتب أنه هو من خطها، وأما تأليفها فتولاه أقزام Elves تسللوا الى رأسه. مفردها Elf وهو القزم أو الجني الطيب. قال ان تلك الكائنات الخيالية أتت اليه في المنام وأخبرته حكاية الدكتور هنري جاكل المسكين الذي يُركِّب عقاراً وحين يشربه يتحول الى المستر ادوارد هايد، الجانب الشرير والمظلم والخفي في الدكتور جاكل. صعق ستيفنسون، لندن، بروايته. الدكتور جاكل من جهته دفع ثمن اكتشافه لذلك العقار غالياً. أفلت المستر هايد من عقاله فباتت هوية الدكتور جاكل مهددة، بات المستر هايد أقوى من مكتشفه، وأدرك الدكتور جاكل أن عليه تدمير نفسه وتدمير المستر هايد بالسم. لكنه، قبل تنفيذ قراره، كتب وصية ورسالة الى صديقه. وفي تلك الوصية تحدث الدكتور جاكل عن نظريته في النفس الانسانية، وقال انه اكتشف شخصاً داخله، وتنبأ أن يتوصل غيره في المستقبل الى اكتشاف اكثر من شخص واحد داخل شخصه! تلك النبوءة، المنشورة في كتاب صدر في لندن مطلع 1886 باع خلال ليلة واحدة عشرة آلاف نسخة بفضل مقالة نقدية في "التايمز"، تحققت بشكل بديع بعد أقل من ثلاثين سنة، في لشبونة في البرتغال، على يد بسِّوا، الذي قضى سنوات الدراسة في جنوب افريقيا يقرأ الأدب الانكليزي ويكتب السونيتات! فكرة القرين، التوأم، الظل، الآخر، هذه الفكرة موجودة في معظم الحضارات. خورخيه لويس بورخيس الموسوعي تعقّبها مرة من سكوتلندا الى المانيا الى الشرق الأقصى الى مصر. في "كتاب المخلوقات الخيالية" انظر طبعة بنغوين، 1969 أورد المفردة الانكليزية كان يتعاون مع مترجمه دي جيوفاني Double، وقارنها بالمفردة الألمانية: Doppelganger. خوليو كورتاثار، وهو قارئ ممتاز لبورخيس، يعود الى هذه المفردة الألمانية في أشهر رواياته: "لعبة الحجلة" 1963. ولد كورتاثار سنة اكتشاف بسّوا لألبرتو كايرو في أعماقه 1914. وبعد أن قضى فترة الشباب في الارجنتين حيث نشر له بورخيس قصصه الأولى غادر الى الجانب الآخر، الى باريس. في "لعبة الحجلة" يكتب كورتاثار عن رجلين، أو رجل وقرينه. رجل يُدعى أوليفييرا يتجول في باريس، يشرب ويدخن ويسمع الجاز ويقرأ الروايات، بين رفاقه وصاحبته لاماغا. يعيش أوليفييرا باحثاً عن مركز للأشياء. ما هو هذا المركز؟ لا يدري. وحين يموت ابن لاماغا، روكامادور الذي يذكره ماركيز في تحية جميلة في الفصول الختامية من "مئة عام من العزلة"، تختفي لاماغا، ويفكر أوليفييرا ان الأوان قد آن كي يعود. الى أين؟ الى الجانب الآخر، حيث صديق طفولته ترافيلر وترافيلر تعني "المسافر" وان كان صاحب الاسم لم يسافر خارج بلاده قط إلا أثناء قراءته البريتانيكا، الى بيونس أيرس، الوطن. يملك الرجلان، أوليفييرا وترافيلر، حلماً واحداً. تاليتا صاحبة ترافيلر ستجد نفسها مهددة بالجنون بين الصديقين. ثمة لحظة سريالية تتعلق فيها تاليتا من جسر خشب بين نافذة ترافيلر ونافذة اوليفييرا، حاملة صرة من المتّة أعشاب يابسة تُنقع وتُشرب ساخنة ومُرّة باستخدام قرعة وبومبيجة. وفي لحظة أخرى، في مستشفى مجانين يديره صاحب سيرك، ينزل اوليفييرا الى تحت الأرض ويفكر في حياته، وفي حياة قرينه، ويتساءل عن معنى علاقته بتاليتا. نقع على وضع روائي مشابه في رواية ماركيز الصادرة بعد ذلك بأربع سنوات. تعج "مئة عام من العزلة" بتوائم تتشابك علاقاتهم الجنسية حيث تضيع الهويات في الظلام. أوريليانو، وجوزيه أركاديو، يذهبان في الليل الى امرأة واحدة، وهي لا تدري هذا من ذاك. هذا شكل واحد من فكرة القرين والشبيه والظل. هناك أشكال أخرى لهذه الفكرة في رواية ماركيز: ترث الأجيال صفات من سبقها. كتب ستيفنسون في مقالة بديعة ان الدم الجاري في شرايينه هو الدم نفسه الذي جرى قبل مئات السنين في شرايين أسلافه. وترث أيضاً ذاكرة الأجداد. صورة ملكيادس في اطار النافذة مثلاً تكرر حيوات الأبطال في رواية ماركيز نفسها، لا لتروي السمة الحلزونية للتاريخ فقط تلك العجلة التي لا تكف عن الدوران ولكن لتروي جوهر الطبيعة البشرية أيضاً. اننا نتشابه من دون توقف، في نهر الوقت الذي يجري ولا يجري في آن معاً. يدرك الكولونيل بوينيديا هذا كما يدركه حفيده الذي سيفكّ سرّ الرقاق السنسكريتي. وفي لحظة الادراك المشترك - وعلى رغم الفارق الزمني- يتوحد الاثنان الأمر ذاته يحدث في مرة اخرى، ذات يوم ماطر، بين الكولونيل والعقيد ماركيز. لكن لنركز على فكرة القرين في شكلها المباشر والأوضح: الرجل وظلّه. في "بلاد العجائب ونهاية العالم" 1985، يتحفنا الياباني هاروكي موراكامي بالقصة المدهشة للرجل الذي انفصل عن ظله. وقف تحت الشمس ولما ظهر ظلّه ملتصقاً بالأرض تقدم رجل ضخم وفصل ظلّه عنه مستخدماً سكيناً. كتب موراكامي هذه القصة خلال أربعة أشهر، في 1984، سنة رحيل كورتاتار حاملاً الجنسية الفرنسية عن عالمنا. انها رواية غريبة تذكر بالعوالم المتوازية لفيليب ك. ديك الأميركي، لكنها تتفوق عليها بالوصف البديع وبالسؤال الانساني العميق الذي تطرحه. يكتب موراكامي عن رجل يعيش مغامرات مستقبلية في طوكيو على امتداد الفصول المفردة الرقم في الكتاب، بينما نتابع رجلاً آخر على امتداد الفصول المزدوجة الرقم يعيش حياته الغريبة داخل بلدة عجيبة محاطة بسور دائري هل يشبه عظم الجمجمة؟، كأنها ذلك "السهل المفقود" في رواية آرثر كونان دويل. هنا، في البلدة العجيبة، حيث الناس لا يملكون ظلالاً، يكتشف الراوي انه بفقدان ظله لن يفقد عقله فقط، بل قلبه أيضاً. في الترجمة الانكليزية تتكرر كلمة عقلMind . وفي الترجمة الفرنسية كلمة قلب Cدur. ما قصة هذه البلدة بغاباتها، وناسها، والنهر الذي يقطعها، ووحيد القرن الخرافي الذي يرعى في حقولها؟ هذه البلدة ليست حقيقية. انها موجودة داخل رأس الرجل الذي يعيش في طوكيو! ليست هذه رواية موراكامي الوحيدة حول تيمة "القرين". منذ روايته الأولى "اسمع الريح تغني" 1979، عبوراً بروايته الثانية الصادرة سنة 1980، وحتى روايته الثالثة التي اطلقت شهرته عام 1982 "مطاردة الخروف البرية"، وموراكامي يصرّ على معالجة الفكرة ذاتها: رجل وصديق له يدعى أو يُلقب بالجرذ Rat. هذه الثلاثية ستتحول الى رباعية في 1988 بصدور "ارقصْ ارقصْ ارقصْ". في "مطاردة الخروف البرية" يبحث الراوي عن صديقه الذي اختفى، وعن خروف غريب بنجمة على صوفه قد يدله الى مكان هذا الصديق. رواية مغامرات بوليسية، وضحك، وتأملات في الذاكرة، وفي طبيعة الضجر تذكرنا بيوميات بسّوا، خصوصاً لدى الحديث عن الضجر في القطار تنتهي في بيت وسط ثلوج هوكايدو التي يحبّها كاواباتا، حيث يكتشف الراوي ان صديقه قد انتحر بعد أن استوطن جسمه خروف نيتشوي يسعى الى السيطرة على اليابان! ليس هذا أدب خيال علمي وإن بدا هكذا للوهلة الأولى. لا بد من قراءة الكتاب. والمذهل أن صديق الراوي يصف سيطرة الخوف عليه تماماً كما وصف الدكتور جاكل سيطرة المستر هايد عليه قبل مئة سنة تقريباً! قبل مغادرة اليابان يجوز ذكر رواية كينزابوري أوي حامل نوبل 1994: "الصرخة الصامتة"، حيث نجد أخوين متصلين بعلاقات غامضة هل نقول مخيفة؟ الى قريتهما الضائعة وسط الغابات، والى أسلافهما المحكومين بالجنون والمتحدين بأشجار الغابة، والى اختهما. جو سفاح القربى المخيم على العمل كما في نهايات "مئة عام من العزلة" لا يمحو تلك المشاهد البديعة حين ينظر أحد الأخوين الى الآخر، يدور تحته في الباحة أهي مغطاة بالثلج؟ وهو يعوي كالذئب وسط الليل. لكن العلاقة الأجمل بين أخوين لا نجدها في رواية يابانية وانما في رواية مجرية لكاتبة تقيم في سويسرا منذ أواسط القرن العشرين وتكتب باللغة الفرنسية: أغوتا كريستوف التي تركت أخاً توأماً في هنغاريا حين فرَّت الى "الغرب". خلال فترة فرارها كان الأيطالي ايتالو كالفينو ينفصل عن الحزب الشيوعي، بسبب من الأحداث في هنغاريا، وكالفينو صاحب رواية عن "القرين" تشبه "دكتور جاكل ومستر هايد"، هي رواية "الفيسكونت المشطور". تكتب كريستوف في "الدفتر" 1986 عن أخوين توأمين يعيشان في أوروبا الوسطى خلال الحرب العالمية الثانية، الرواية تُروى بصيغة الجمع أو المثنى. الأخوان الصغيران يحكيان لنا قصة حياتهما من لحظة وصولهما الى بيت الجدّة في الريف، عبوراً بمغامراتهما الممتعة التي تمزج "حكايات الأخوين غريم الخرافية" 1850 بالدهشة التي أصابت "أليس في بلاد العجائب" 1865، وحتى تلك اللحظة الختامية المذهلة التي تكسر قلب القارئ وترميه في دوامة لا نهاية لتأثيرها حيث ينفصل الأخوان أحدهما عن الآخر، فيتقدم واحد عبر الألغام والحدود ويبقى الآخر في البلدة! لن نفهم سبب الانفصال قبل مرور عامين، موعد صدور الرواية التالية: "البرهان" 1988. ولكي نفهم تماماً لا بد من أن نقرأ أيضاً الرواية الثالثة: "الكذبة الثالثة" 1992. في هذه "الثلاثية" تكتب أغوتا كريستوف بحثها الخاص حول اسلوب الانسان - الفائق الحساسية والذكاء - في التعامل مع شبيهه، ومع الآخرين. الألم الذي يعرفه لوكاس أو كلاوس، خلال الوحدة الفظيعة في "البرهان"، يتكرر أيضاً في "الكذبة الثالثة"، حيث يضيع الاسم بين الشخصين مَنْ لوكاس ومن كلاوس؟ تماماً كما حدث في رواية ماركيز. مَنْ جوزيه أركاديو ومن أوريليانو؟. يخاف بطل أغوتا كريستوف أن يتعلق بقرينه لأنه يخاف أن يفقده. لكن هذا بالذات ما يحدث له حين يُنكره. هذا تحليل ممكن للرواية. وإذا كانت أغوتا كريستوف تُركز على الألم في علاقته بالحب وبالبحث عن التواصل، فإن بول أوستر الأميركي يُنجز شيئاً مشابهاً، ولكن بأسلوب بوليسي، في ثلاثيته: "مدينة الزجاج"، "الأشباح"، و"الغرفة الموصدة" الصادرة أواسط ثمانينات القرن العشرين. في "الغرفة الموصدة"، على نحو خاص، يأخذ أوستر فكرة القرين حتى تخومها. الكاتب الذي يختفي، وصديقه الذي يحل في بيته، ويتزوج امرأته، يبدأ بتحرير مخطوطاته ونشرها، معتقداً أن الكاتب قد مات، فقط كي يكتشف في ما بعد اللعبة/ الفخ. هذا الكاتب الذي يُذكر بالكاتب المسكين في "الأشباح"، هو أيضاً ذلك الرجل الذي انتحر عن جسر في الجزء الأول من "الثلاثية". ما الذي يدفع رجلاً الى ترك بيته وعائلته والاختفاء؟ وما الذي يدفع بقرينه الى القدوم ومتابعة حياة الآخر من حيث توقفت؟ روايات أوستر تستعيد قصة من القرن التاسع عشر لهوثورن هوثورن زعم أنها قصة حقيقية قرأها في صحيفة عن رجل ترك زوجته وعاش متخفياً يراقبها من بيت قريب، لكنها تستعيد أيضاً رواية ملفيل الشهيرة "موبي ديك" 1850. القبطان الذي يركب البحر باحثاً عن الحوت الأبيض الرهيب، هل يبحث عن موته فعلاً كما زعم بورخيس في قصة "التحدي" 1952؟ وفي هذه الحال ماذا يكون الحوت غير الظل المظلم للقبطان؟ يكتب ملفيل في صفحات بديعة عن الشبه النفسي؟ بين الحوت والقبطان. في "محيط المحيط" 1870 كتب بطرس البستاني أن القرين "هو الشيطان المقرون بالانسان لا يفارقه". هذا يُذكر بموبي ديك. ولكن أيضاً بفانشو في رواية أوستر. كما بالخروف في رواية موراكامي التي جاء عنوانها من عنوان فصلين متتاليين في رواية ملفيل، كما بذلك الرجل صاحب الحدبة الذي يعيش في أعماق الدكتور جاكل. في "الفيسكونت المشطور" 1952 تصيب قذيفة تركية الفيسكونت الأوروبي وتشطره نصفين. الحكاية المذهلة الكاملة لا يمكن سردها في هذه العجالة. لكن فكرة القرين، والنصف الخيّر والنصف الشرير، هي محور الحكاية. حكاية ذات نهاية سعيدة. ففي حين عجز الدكتور جاكل عن إعادة تحضير المُركب الكيماوي الضروري لإنقاذه، تمكن الفيسكونت بعده بعقود معدودة من البقاء على قيد الحياة، ومن دون استعمال أي مادة أو دواء: فقط بالإبرة والخيط تمّت حياكة النصف الأيمن منه الى النصف الأيسر! في مقابل هذه النهاية السعيدة نقع على نهاية حزينة في "الكتاب الأسود" 1990 للتركي أورهان باموك. يختفي جلال، صحافي شهير، ويبدأ قريبه غالب بالبحث عنه. جلال اختفى مع زوجة غالب: ريا أو رؤيا. وغالب يبحث عن الاثنين معاً، وعن نفسه أيضاً. الرحلة لن تأخذه في جغرافيا اسطنبول فقط، وإنما في تاريخها أيضاً. وخلال الرحلة يتحول غالب الى جلال: يعيش في مسكنه، يكتب مقالاته في الصحيفة، ويبدأ تأليف قصص تشبه قصصه. أما جلال فيموت بالرصاص. باموك كتب في "القلعة البيضاء" 1985 رواية اخرى عن "القرين" بشكل مباشر تماماً. ايطالي يقع في الأسر خلال حرب من حروب الامبراطورية العثمانية مع اوروبا المشهد الأول في الضباب، وتلك السفن بالرايات الملونة، ونزول الايطالي الى كتبه في جوف السفينة، يجد صداه في مشاهد الكتاب الختامية، وفي ذلك المعسكر المضروب تحت حيطان القلعة. في الأسر يتعرف الايطالي الى تركي يشبهه الى حد التطابق، تركي سيأخذه الى بيته ويجبره على اخباره كل شيء عن نفسه وعن ايطاليا والحياة هناك. بالمقابل يتعلم الايطالي تدريجياً كل ما يخص التركي والسلطان والحياة في هذا الجانب من العالم. وماذا يحدث في النهاية؟ يتبادلان الهويات. يذهب التركي الى ايطاليا ويتزوج خطيبة الأسير الايطالي. ويبقى الايطالي في تركيا ويتحول الى تركي يكتب قصصاً! تدور قصة بورخيس "حياة تيديو ايزيدرو كروز" 1944 حول محور مشابه. وكذلك نصه الفاتن "بورخيس وأنا" 1956. انه الرجل الذي يحوي شخصيتين، أو أكثر. هرمان هسه اكتشف ذلك في النصف الأول من القرن العشرين، مقيماً في سويسرا ومحاطاً بكتب عن الشرق الأقصى. وحين نال هسه نوبل عام 1949، كان كالفينو يفكر في "الفسكونت المشطور" وبورخيس يكتب "ابن حاقان البخاري"، قصة أخرى عن القرين والرجل الذي يتنكر بهوية الرجل الذي سوف يقتله ثم يأخذ مكانه في الحياة! انها فكرة واحدة تدور في رؤوس عدة. وهذا يجعلنا نفكر في حكاية ستيفنسون عن هؤلاء الأقزام الخياليين مرة أخرى: هل تكون قصة حقيقية؟ * كاتب لبناني.