عندما لاح أمامي أحد الكتب المترجمة بالعربية للكاتب العالمي البرتو مانغويل، وكان بعنوان تاريخ القراءة، وكذلك كتاب المكتبة في الليل، إلى جانب كتب أخرى متنوعة للكاتب تصل إلى 44 عملا أدبيا منحته العديد من الجوائز العالمية، منها أعلى وسام أدبي في فرنسي، إلى جانب حصده أكثر من 18 جائزة عالمية قدمت من العديد من الدول؛ كالأرجنتين حيث مولده في عام 1948 بالعاصمة بيونس أيرس، ثم انتقاله لكندا، ثم فرنسا حيث يعيش هناك. وكان أكثر الحوافز لي في الوصول إليه لمحاورته في عمق تلك الكتب التي تحدث فيها عن بهجة القراءة ومتعتها، هي تلك التقنيات والمهمات التي قدمها لنا كقراء عندما نشرع في قراءة أي كتاب، ومنها سرعة التخلص من نوايا الكاتب والبقاء في دواخل النص لنكتشف رؤية تحدد عالمنا الخاص وتمنحنا القدرة على التفكير وإبداء الرأي دون القيد بمنهجيات أو رؤى تحاصرنا أو تجعلنا أكثر تبعية لغيرنا. في حوار «عكاظ» للكاتب العالمي ألبرتو مانغويل كشف عن مدى تأثره بقصائد محمود درويش وقصص ألف ليلة وليلة وكيف منحته حبا عميقا وشعورا آسرا عبر عن مضامينه بالكثير من الأطروحات، إلى جانب بواطن معرفة الحقيقة في متون الكتب ودواخلها فكان نص الحوار التالي: في مؤلفات ألبرتو مانغويل عن القراءة نجد عناوين متعددة مرة الشغف وأخرى تأملات وتارة البهجة، فماذا تعني القراءة إذا عندك بعد هذه المسميات؟ حين ندعو القراءة متعة، فهو بلا شك وصف بخس في حقها، إذ أنها بالنسبة لي مصدر كل المتع، فهي التي تلون كل التجارب، وتجعل الحياة تطاق والأشياء مقنعة، وأقولها حقيقة بأن كلمة يقرأ بالإنجليزية (to read) تشترك في أصولها مع الفعل يبرر، وبمجرد ما يحدث شيء لي تجدني أفزع إلى ذاكراتي إن كنت قد قرأت شيئا يشابهه لذلك تقصيري أنني لم أصل بعد للصفحة التي تشابه عالمي، أو ربما لأن ذاكرتي لم تحتفظ بتلك الصفحة. بما أنك أبدعت في مجال تقنيات القراءة وأنماطها هناك من يقرأ كثيرا لكنه في النهاية لا يخرج بحصيلة تشبع نهمه فما السبب؟ لعل القارئ الفطن هو من يجد في كل صفحة من كل كتاب جوابا أو شرحا لسؤال ما، أو ربما لأن في أعماق كل نص، مهما ظننا أن بائسا ما يختزل سرا من أسرار الكون، لذلك لا يمكن لأي شخص أن يقرأ كل شيء حتى لو رغب في ذلك، كما أعلم أن جنون العظمة الطاغي في زماننا يخيل لنا أننا مطالبون باحتواء المعارف، لكن فردانيتنا تتحدى هذه السلطوية بخصوصية الفرد وغرابته، فثمة في المكتبة الكونية الكبرى كتاب واحد على الأقل لكل قارئ، ولكن ليس كل كتاب صالحا لكل قارئ. إذا أنت شخصيا لمن تقرأ؟ وهل بإمكانك التعرف على شخص ما وثقافته عبر مكتبته وانتقاءاته؟ قراءاتي محدودة، أركز على تلك الكتب التي تهبني إشارات لافتة مثل قصص بورخيس، وقصائد محمود درويش، وأليس في بلاد العجائب، ودون كيخوته، فهذه كتب لا أستطيع تخيل مكابدة الحياة والعيش الهانئ من دونها، فطالما وجدت أمثال هذه القائمة من القراءات مفيدة لأنها تخبرنا من هم أصدقاؤنا، فعلى سبيل المثال القارئ الذي يعترف لي بانه جن حبا في مونتين سيكون قريبا مني، وعلى النقيض من ذلك حتما لن أذهب إلى المقهى بصحبة شخص يرى أن رواية (ستيفنسن) ود. جيكل وهايد مخيبة للآمال؛ لذلك تجدني مشدودا بانشداه إلى فلوبير مفضلا إياه على ستاندال، وأفضل الخوان جريم على أندرسن، وأفلاطون على أرسطو. أما ما يخص الشق الآخر من السؤال، نعم بإمكاننا التعرف على شخص ما بمجرد الاطلاع على قائمة قراءاته وانتقاءاته، وماذا يحب من مفضلات كتبه فكل مكتبة بمثابة سيرة ذاتية. من هو القارئ الحقيقي، وهل للقارئ مغامرة فعلية؟ في السابق كان بمقدور العالم معرفة كل كتاب صدر في زمانه، بل ربما كان مطالبا بقراءة كل ما أنتجته المعارف الآن لا يمكن أن نتصور بطلا أسطوريا يفكر مجرد التفكير بالالتزام بمثل هذا الهدف، ففي طوفان الكتب الإلكترونية والعناوين المليونية المتناثرة في المتاجر الكبرى التي تغطي مساحات مهولة من المجمعات التجارية ثمة كتب لا تحصى، وهي بلا شك مفيدة لقارئ واحد يبحث عن كتاب محدد سلفا، ولكن القارئ الذي يبدو حائرا هو الذي يفضل التيه في الصفحات قبل أن يطرح رأيه حول كتاب، وقد لا يجد في تلك المخازن الكبرى ما يقضي وطره؛ لأنها لا تعبر عن روح القارئ المغامر في داخله فتلك المساحات مرتبة أكثر مما يجب، ومباشرة اكثر مما يجب لكن القارئ الحقيقي نجده أقل طموحا من إرادته لحتمية الإجابات، وهو باحث عن ممالك أصغر من تلك المساحات الشاسعة ليتجول فيها بحميمية إنه حقا ظامئ للكلمات التي ستصنع الفارق في معرفته المهزوزة بالعالم. دعنا، إذا، ندخل لعالمك المعرفي الخاص ونطوف بمكتبتك لنعرف القارئ عن ما هي هوية هذه المكتبة وماذا عن رؤيتها في عالم المعارف اليوم؟ المكتبة قبل أن يقرر القارئ اختياراته تشبه الحساء البدائي من الذرات الذي منه تنشأ الحياة، فالخيارات التي أتركها في مكتبتي، والكتب التي انتقيها لها لا تشكل رؤيتي للحياة أو هويتي فقط لطالما شعرت أن تجاربي اليومية، وكذلك فهمي لهذه التجارب هي حصيلة قراءاتي؛ لذلك لدي ثقة مطلقة في قدرة القراءة على رسم خريطة عالمي الخاص، وأنا أعلم كذلك أنه في إحدى الصفحات في رف ما يحدق في تساؤل يقول أنت تكافح منذ زمن لوضع الكلمات لشخص آخر لا يعرف كيفية وجودك لتأتي الإجابة بأنه القارئ الآخر، فمكتبتي تمنحني المتعة بالرغم من أنها ليست بالكبيرة كما يتخيل البعض، لكنها قطعة من القلب، وأعتقد أن من بينها ربما ثلاثين، أو لنقل خمسين كتابا أشعر من دونها بأنني خاوٍ جسديا وروحيا، لذلك ستستمر الكتب التي أحببتها دوما، ولربما تكون على رف قراء آخرين، لكنها لن تكون ذات الكتب التي قرأتها يوما بعد ظهر صيف قائض، وفي غرفة بعيدة، وفي ظل ظروف دعتني لتذكر صفحة معينة تجلب كل الذكريات معها، لكل قارئ قراءته الخاصة به. الحقيقة التي يرغب القارئ كشفها في كتاب يقرأه هل تكمن وراء نوايا الكاتب الذي أخرج الكتاب، أم يجب أن يتخلص القارئ من هذا الهاجس مثلا؟ الحقيقة في النص تكمن في قراءة النص، ولا تكمن أو تختبئ خلف نوايا الكاتب، فعلى سبيل المثال، الروائي الفاشي الرائع لويس فرديناند سيلين قادر على أخراج نص يقرأ على أنه ضد الفاشية والإنسانية، وهو ليس بذلك، فهذه الحقيقة الفاعلة من القراءة، وعلى القارئ أن لا يتخلى عن حريته في استكشاف النصوص وإعادة قراءتها وتخيلها وبعثها من جديد بروح جديدة، بل على القارئ أن يطالب بالمزيد من حرية استكشاف وقراءة والاطلاع على النصوص. إذا، ما هي المهمات الواجب اتباعها من أجل ألا يعبث بالنصوص أو يخلق حولها هالة من القوانين والدساتير التي تمنع أو تحاصر القارئ؟ حقا، هناك قراء يقومون بوضع كلاسيكيات ودستور لما يجوز وما لا يجوز مطالعته، وذلك بالطبع من أجل أهداف محددة مما ينتج عنه ردة فعل من قراء آخرين يقومون بوضع قائمة كلاسيكيات ودساتير جديدة وفي رأيي الشخصي لا شيء مفيدا ينتج عن ذلك؛ لهذا من الممكن أن بطبيعة الحال أن يمضي الأدب بكل نصوصه نحو العبثية، ومهمة القارئ هو في عدم السماح لذلك بأن يحدث وإنقاذ ذاكرة الأدب من الانقراض والمهمة الثالثة الشعور الحقيقي بهذه الذاكرة والمهمة الرابعة للقارئ أن يعتمد على مدى رغبته في إضفاء قيمة على النص. أخيرا، في كتبك لامست شيئا من مفهوم الحب بقراءاتك المتعددة، فما الكتب التي منحتك هذا الاحساس؟ حين كنت طفلا تعلمت الحب من خلال قراءات لكتب ألف ليلة وليلة، وعن الموت بقراءة الكتب البوليسية، وعرفت البحر من ستيفنسن، والغابة من كيبلنغ والمغامرات الاستثنائية من جول فيرن، كما أن لدي ثقة مطلقة في قدرة القراءة على رسم خريطة عالمي الخاص، وكنت تقريبا بعد ظهر كل يوم من خروجي من المدرسة أتوقف عند إحدى المكتبات أفتش في الرفوف المتربة والمليئة بالغبار، ولحسن الحظ كنت أجد كنزا كل مرة وفي يوم كنت محظوظا بشكل خاص؛ لأنني وجدت قصائد الفارسي فريد الدين مسعود العطار، والتي بقيت معي طيلة حياتي؛ لذلك العلاقة بين القارئ والكتاب من شأنها أن تزيل حواجز المكان والزمان والسماح بما سماه فرانشيسكودي كيفيدو في القرن السادس عشر المحادثات مع الموتى، حيث علمتني هذه المحادثات وإعادة تشكيل ذهني وتفكيري الخاص.