كانت مفاجأة كبيرة أن يتغلب موشيه كاتساف القادم من ليكود في انتخابات الرئاسة الإسرائيلية على شمعون بيريز. وللوهلة الأولى بدا أن هذا ال"كاتساف" أقوى من استراتيجية الردع الإسرائيلية، ومن مفاعل ديمونا النووي، ومن الصناعات الجوية الإسرائيلية، وهي جميعاً مشاريع ارتبط تأسيسها بإسم بيريز. ولم يفاجىء هذا الفوز حزب العمل وأنصار بيريز أو الصحافة الإسرائيلية فقط، بل فاجأ كاتساف وزوجته وأمه أيضاً. صحيح أن موشيه كاتساف، وبشكل إيماني شرقي، ترك لدى صحافي قبل أكثر من أسبوع رسالة كتب فيها أنه "وعلى نقيض توقعاتكم، فإنني سأفوز على بيريز بغالبية واضحة". لكن ذلك لا يجزم البتة بأن الفوز كان في جيبه. على أن الحقيقة الإسرائيلية الداخلية تحتفظ لنفسها بمعايير خاصة. ومنصب الرئاسة في اسرائيل منصب تمثيلي ورمزي. وهو بالنسبة لغير السياسيين مصدر شهرة، لكنه لدى السياسيين إما وسيلة كريمة لإنهاء الحياة السياسية بطريقة مشرفة، أو سبيل لتفريغ احباط حزبي. وقد خدم هذا المنصب القوة السياسية الفاعلة مراراً في تخفيف حدة الاحباطات الشخصية، وهذا ما حدث فعلاً مع حاييم وايزمان، وبن تسفي، بل عيزر وايزمان. وهو ما كان سيحدث مع شمعون بيريز، وقد حدث فعلاً مع موشيه كاتساف. والواقع ان المنافسة بين كاتساف وبيريز لم تكن أبداً منافسة بين الرجلين على المنصب الاعتباري. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك أي فرصة لكاتساف بالفوز. فالفارق بين الاثنين هائل لدرجة اضطرت كاتساف وليكود الى ابراز عوامل الضعف كنقطة القوة الوحيدة في مواجهة بيريز. وبحسب روبي ريفلين، رئيس كتلة ليكود في الكنيست، فإن كاتساف، بخلاف بيريز، "اسرائيلي من طراز جديد" لأنه "سيكون رئيساً من الشعب يتحدث الى الشعب، رئيساً أبسط وأكثر شعبية، وأقل نخبوية. رئيساً أصلياً". وانتهج ليكود تكتيكاً يعترف بالفارق ويقول: ان بيريز شخصية سياسية عظيمة، لكنه "موضع اختلاف" في اسرائيل. وكان ذلك يعني في الجوهر محاولة تمرير كاتساف كشخصية غير سياسية ليست موضع اختلاف. ومع ذلك كان ترشيح كاتساف في البداية تكتيكاً احتجاجياً من جانب ليكود. إذ لا يعقل أن يظهر ليكود قبوله برئيس مثل بيريز، "صاحب المبادرات السياسية" والرجل الذي ارتبط اسمه أكثر من أي شخص آخر باتفاقات أوسلو. وكان اختيار كاتساف محاولة من جانب شارون لتخفيف الاحتقان القيادي، خصوصاً الشرقي، في رأس هرم اليكود. ومعروف ان المنافسة حامية الوطيس في قيادة ليكود بين شارون وعدد من الشرقيين كسيفان خالوم وشطريت وكاتساف نفسه، غير ان ليكود وجد في ترشيح الأخير وسيلة، إما لاجتذاب حركة شاس، أو لإظهار زيف دعواها بأنها تمثل الشرقيين. وهكذا ظهرت مقولة أن كاتساف "يأمل بالفوز على بيريز بأصوات شاس"، لكن شاس وقوى أخرى لم تكن ترى في كاتساف مرشحاً لها. ولذلك، وقبل انسحاب القوى اليمينية من حكومة باراك، تداعت "المفدال" و"اسرائيل بعليا" وحركة "شينوي" الى الاجتماع، وأعلنت أنها غير ملزمة بمرشحي العمل وليكود، وانها تبحث في تأييد مرشح غير سياسي. وحينها أثير اسم القاضي لانداو. وذهبت شاس أبعد عندما بدأ مجلس حكماء التوراة فيها مناقشة أمر ترشيح الزعيم السابق أرييه درعي، المحكوم بالسجن، لمنصب الرئاسة. وبعد وضع هذه الفكرة في الأدراج لم يعد أمام شاس خيار آخر. وبعد أن ردت المحكمة الإسرائيلية العليا استئناف درعي ضد الحكم الصادر بحقه والذي يقضي بسجنه تأكد اضطرار شاس الى تأييد كاتساف، ولو بطريقة غير علنية. ونقلت صحيفة "معاريف" في 13/7 عن أعضاء كنيست من حركة شاس تقديرهم بأن الحاخام عوفاديا يوسف ومجلس حكماء التوراة في شاس قرروا "الانتقام من المؤسسة الاشكنازية - العلمانية التي زجت بدرعي في السجن" عن طريق اختيار كاتساف رئيساً. وعلى رغم المودة القائمة بين الحاخام عوفاديا وشمعون بيريز، فإن شاس كانت على الدوام ترى في بيريز عَظْمة من عظام رقبة المؤسسة الاشكنازية - العلمانية، فيما كاتساف شرقي ملتزم بالتقاليد الدينية. ولعبت الظروف السياسية الدور الأبرز. انهيار الائتلاف الحكومي لباراك فقد حزب العمل آخر مظاهر نفوذه على المفدال واسرائيل بعليا وشاس. ولكن اضافة الى كل ذلك لعبت ظاهرة ذهان مشعاني دوراً لا يقل أهمية. وقد وجد حزب العمل نفسه يعيش مفارقة قاتلة: ان انتُخب بيريز رئيساً، فإنه يفقد عضويته في الكنيست. والعضو الذي دخل يدخل مكانه الى كتلة "اسرائيل واحدة" ليس سوى موتي مشعاني من حزب "غيشر". وهذا يعني منح وزير الخارجية الإسرائيلي دايفيد ليفي وشقيقه مكسيم الفرصة الذهبية لإسقاط حكومة باراك. فاليمين الإسرائيلي بحاجة الى ثلاثة مقاعد لكسر التعادل وتوفير غالبية ال61 عضواً المطلوبة لإسقاط الحكومة. وليفي وشقيقه باتا عملياً في صفوف المعارضة لكنهما لا يقدران وحدهما على اسقاط الحكومة، لذلك كان انضمام مشعاني اليهما يعني "قبلة الموت" وفوز بيريز كان يتضمن بشكل غير مباشر موت حكومة باراك. لذلك حدثت المفاجأة. وفوز كاتساف بثلاثة وستين صوتاً يعني أنه حقق اختراقاً بخمسة أصوات من المؤكد أن بعضها جاء من حزب العمل نتيجة لذهان مشعاني، وبعضها الآخر من حزب الوسط لأغراض شخصية، وربما صوّت أحد أعضاء الكنيست العرب لكاتساف. والأخير ولد في مدينة يزد في ايران عام 1945، وكان في السادسة عندما هاجر مع والديه الى اسرائيل ليقيم في مخيمات أنشئت في كريات ملاخي حيث قضى أغلب سنوات حياته. خدم في الجيش الإسرائيلي، مثل جميع الشبان اليهود في اسرائيل، وأنهى خدمته وهو يحمل رتبة عريف في سلاح الاتصالات. لكنه مثل الكثيرين من الذين كانوا يحلمون بالانتقال من الضواحي الى المدن أدرك أن بوابته هي السياسة. وفي الجامعة العبرية في القدس تولى رئاسة كتلة طلاب حركة "غاحال" اليمينية، ثم ترأس جمعية "شباب بني بريت". ولفترة ما عمل مراسلاً لصحيفة "يديعوت أحرونوت". غير أن حياته السياسية الفعلية بدأت عام 1969 عندما رشحته حركة غاحال في انتخابات بلدية كريات ملاخي. وقد فاز برئاسة البلدية، وفي محاولة لاجتذاب الشباب الشرقي الى اليكود جرى اختياره لعضوية الكنيست. ومنذ "الانقلاب" عام 1977 وحتى انتخابه رئيساً للدولة اليهودية خدم كاتساف في الكنيست وتولى مناصب وزارية أبرزها منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة نتانياهو. ولكنه لم يتول أبداً أي منصب وزاري مهم، اذ تنقل عموماً بين وزارتي المواصلات والسياحة. وقد تولى في حكومة ليكود الأخيرة منصب الإشراف على أوضاع العرب في اسرائيل. يحمل كاتساف شهادة جامعية أولى في الاقتصاد والتاريخ من الجامعة العبرية، لكنه الى جانب ذلك يحمل الدكتوراه الفخرية من جامعة نبراسكا. وعلى رغم أن العنصر المقرر في كل سيرة كاتساف السياسية شرقيته، ربما كان لا يرى في قرارة نفسه في هذه الشرقية إلا وسيلة سياسية. ففي حياته الاجتماعية تزوج من فتاة اشكنازية الأبوين والثقافة، بل من بيت حريدي. وقد ولدت زوجته في تل أبيب، وهي تعمل مديرة قسم في أحد البنوك. وإجمالاً وبعيداً عن كل التفاصيل، وعلى رغم أن كاتساف - والد الأبناء الخمسة - الرئيس الشرقي الأول لإسرائيل، إلا أن انتخابه يعبّر عن حجم الاحتجاج الاجتماعي من جهة وعن دور الانقسامات الطائفية من جهة ثانية. وأهم من ذلك بكثير ذلك الانقسام بين النخب السابقة التي قادت المجتمع الإسرائيلي وبين النخب الجديدة. ويمكن القول ان اسرائيل الثانية تغلبت هذه المرة على اسرائيل الأولى. ففاز كاتساف وخسر بيريز. وبقيت لعنة الخسارة تلاحق الثاني.