تستأصل الانتخابات النيابية في لبنان ما تبقى للبنانيين من معانٍ أتيح لهم تثبيتها في وجداناتهم، خلال المدة القصيرة لازدهار دولتهم ومجتمعهم قبل الحرب. ففي خضم التسفيه اليومي الذي يتعرض له اللبنانيون في موسم الانتخابات هذا، وقع حادث قد تكون له دلالات رمزية، تدور عليها احدى وظائف الانتخابات اللبنانية. وتتمثل بكنس العلاقات القليلة المتبقية من ذلك الزمن. أدى حادث احتكاك أسلاك كهربائية الى احتراق "سينما ومسرح البيكاديللي"، في شارع الحمرا، المسرح الذي كان شاهداً على الصعود والازدهار اللبنانيين في ستينات القرن الفائت، والذي كان أيضاً شاهداً على أفولهما. لكن المخزي في الأمر فعلاً، ان الحادث لم يجد له مكاناً الا في زاوية الأحداث المتفرقة في الصحف اللبنانية، المشغولة هذه الأيام، وحتى الصفحات الثقافية فيها، بحدث الانتخابات النيابية الجلل. يأتي احتراق مسرح البيكاديللي، وان كان قضاءً وقدراً، مع ذلك السكوت وعدم الاكتراث اليه، ليطوي صفحة، يجب طيها اذا أراد اللبنانيون ان يجعلوا من الوقائع التي تحف بانتخاباتهم نموذج عيشهم المستقبلي. فالمسرح افتتح عام 1967، بعرض أوبرالي نمسوي، اعقبته بعد ايام مسرحية "هالة والملك" للأخوين رحباني التي صودف افتتاح عرضها في يوم الهزيمة في 5 حزيران يونيو عام 1967، ثم كرت سبحة الأعمال الرحبانية عليه، الى ان تحول مكان العرض الوحيد في بيروت الذي تطل منه فيروز على جمهورها من اللبنانيين وغيرهم. والمسرح شهد أيضاً احداثاً فنية وثقافية اخرى، في بيروت نهاية الستينات وبداية السبعينات. اذ فيه غنى كل من شارل ازنافور وداليدا، واليوناني تيودوراكس الذي قدم فيه اغانيه أثناء الحرب الأهلية غير مكترث لانقطاع التيار الكهربائي. واحترقت أىضاً صور كانت ملصقة على جدران الأدراج والممرات في المسرح، لمعظم نجوم الستينات الذين كانت بيروت وشارع الحمرا مسرحاً لأعمالهم وسياحاتهم. والمسرح استمر ايضاً خلال سنوات الحرب فعرض فيه زياد الرحباني مسرحيات، يعتبر مسرح قصر البيكاديللي من صلاتها القليلة بأعمال والده عاصي. وبعد الحرب بدأت تظهر علامات الشيخوخة والترهل على المسرح وعلى شارع الحمرا كله. وفي موازاة نشوء شوارع رديفة، وبانتفاء الوظيفة الاجتماعية للشارع كواحد من علامات ازدهار الطبقة المتوسطة، نشأت مسارح جديدة وأذواق جديدة، وراح مسرح البيكاديللي العجوز، يعرض أعمالاً مسرحية لأذواق اخرى غير منسجمة في تصنيفٍ واحدٍ. ولعل الاعلان الأخير الذي ألصق على جداره الخارجي والذي وعد فيه جمهوره الجديد بمفاجأة كبرى، لم يكن الا وعداً بانتحارٍ قريب. اذا كان يوم الخامس من حزيران عام 1967 يوم افتتاح مسرح البيكاديللي، فإن هذا التاريخ هو الموعد الذي بدأت فيه "بشائر" الحرب تمتد الى ضفاف المجتمع اللبناني، بعدما خلفت الهزيمة ما خلفته. ومن الطبيعي والحال هذه أن يتوج موت مسرح قصر البيكاديللي بالانتخابات النيابية اللبنانية.