تتوسّط بيروت الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، وطالما حملت علامات الحضارات المتعدّدة التي توالت فيها على مرّ العصور، بحيث كانت الشاعرة ناديا تويني (1935-1983) تقول إنّها مدينة «تموت وتحيا من جديد ألف مرّة». أدّى التاريخ الطويل وموجات الدمار إلى نشوء أسطورة شعبية مفادها أنّ المدينة تغلّبت على كلّ الصعاب كطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد. وتناقلت الأجيال المتتالية هوية بيروتية تتجذّر قيمها في ماض يعود إلى آلاف السنوات. في بيروت شارع اسمه «بْلِسّ» يمتد من مباني الجامعة الأميركية غرباً ويتجه نحو البحر. جاءت التسمية تكريماً للقسّ دانيال بلس الذي أنشأ الكلية السورية الإنجيلية (التي هي اليوم الجامعة الأميركية في بيروت). أما في الجهة الشمالية من هذا الشارع فتقع أبنية الجامعة وفي الجهة الجنوبية عدد كبير من المحلات التجارية والمقاهي التي كان لها تاريخ مجيد خلال ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ربّما انتهى لأسباب كثيرة منها الحرب التي اندلعت عام 1975 وتوزّع النشاطات التجارية والترفيهية التي كانت محصورة في منطقة الحمراء على مناطق كثيرة من شمال لبنان إلى جنوبه. لكن ما زال لبيروت القديمة أثر كبير في النفوس والعقول. فوقتها، كانت بيروت مزدهرة وتعيش أياماً من العز والثراء في المسرح والسينما وسواهما، وكانت المقاهي تعجّ بالناس وعلى مقاعدها يلتقي المثقفون والفنانون. من هنا، أرادت ثلاث شابات لبنانيات أن يتذكر الأجداد ويتعلم الأحفاد التاريخ الحديث، من خلال حدث «فلاش باك بيروت» الذي يتضمن نشاطات كثيرة. سيقفل شارع «بلس» من العاشرة صباح غد الأحد حتى منتصف الليل، وسيعيد إحياء مسرح «بيكاديللي»، سينما «ريفولي»، مقهى «هورس شو»، وقطارات الترامواي، وموسيقى الستينات والسبعينات. وسيبنى 25 منزلاً صغيراً على الرصيف بالقرميد الأحمر والشبابيك المميزة، وكل بيت سيمثّل معلماً من معالم بيروت القديمة للدلالة على أهمية استعادة التراث والمحافظة على ما تبقى منه لأن المنازل القديمة تتعرض للهدم في أيامنا لتقوم مكانها مبان شاهقة. خلال فترة الستينات والسبعينات، كانت بيروت منارة الشرق الأوسط في الفن والإعلام والاقتصاد، وكانت زاخرة بالحركة الثقافية. لذلك، سيُدعى إلى الحدث شعراء وصحافيون وفنانون من الجيل القديم والجيل الجديد كي يجتمعوا في «بيروت القديمة» ويناقشوا بعض الأفكار والمواضيع التي تتعلّق بماضي المدينة وحاضرها، كما كان المخضرمون يلتقون على مقاعد «هورس شو» ليقرروا في تلك العشيات مصير المنطقة والعالم! وستعود سينما «ريفولي» الشهيرة لتعرض مقاطع من أفلام مهمّة أضاءت شاشتها ومن مسلسلات وبرامج وإعلانات من الزمن الجميل. وسيحضر «مسرح البيكاديللي» بستائره الحمراء ليستضيف على خشبته مغنين وفرقاً موسيقية لتأدية أغنيات طبعت ذاكرة الأجيال، ومنها أغانٍ فيروزية كون تلك الخشبة الأنيقة استضافت مسرحيات رحبانية عدة. وعلى طول الشارع، سيتوزّع عدد من الرسامين لتنفيذ لوحات من وحي المناسبة. ستحيا بيروت الأحد يوماً واحداً يذكّر الناس بأيام العز التي كانت هذه المدينة الصغيرة تفتخر بها، فيفرحون قليلاً... ويحزنون كثيراً عند عقد مقارنة بين الأمس واليوم.