منذ نهاية القرن التاسع عشر ادرك المسلمون ان عالمهم في تراجع... وعالم الغرب الأوروبي آنذاك في تقدم. اكتشاف التخلف كان بداية وعي جديد للتاريخ تضمن طرح السؤال عن اسباب التخلف بغية التوصل الى اتفاق على عوامل التقدم. سؤال التخلف فتح باب النقاش واعاد طرح جملة موضوعات على بساط البحث والسجال. فالسؤال جاء رداً على التحدي الأوروبي ونجاح الغرب في تعديل موازين القوى وكسر النفوذ الاسلامي في جنوب آسيا وشرق أوروبا وعمق افريقيا. الا ان السؤال الواحد لم يقفل نفسه على جواب واحد أو موحد بل كانت هناك ردود متناقضة. وساهم تهافت الأجوبة في تأسيس حالات سياسية متضاربة في منابتها الفكرية ومصادرها الثقافية. وتركزت مشكلة الأجوبة في رؤيتها للتقدم الأوروبي حين رأت انه مجرد منظومات ايديولوجية، وأن تلك الأفكار المنظمة هي أساس التقدم وليست نتاجاً له. وعلى هذا القياس المغلوط اتجه الاصلاحيون المسلمون نحو قراءة معكوسة للتطور، فوجدوا في التخلف مشكلة فكرية وفي حال تم فك تلك العقدة الايديولوجية التنظيمية يمكن الانتقال من حال الى حال ودخول معارج "الحضارة" وما تحمله في باطنها من تقنيات ومفردات وسلوكيات. وبسبب البؤس العام الذي كان يحيط بعالمنا جاءت الأجوبة بائسة ويائسة. فهناك من وجد في الماضي مشكلة حاضرة تمنع التقدم فقام بنقد الماضي بينما كان الواقع يلح على نقد الحاضر. وهناك من وجد في توقف الاجتهاد وتعطله اساس المشكلة فقام بتوليف أقيسة للتخلف والتقدم لا تنسجم مع عالم يتجه نحو التدويل، فاختصر المشكلات بالتركيز على الجوانب الداخلية للتخلف ولم يرَ العوامل الخارجية التي تضبط ايقاع علاقات الدول وتوازن مصالحها ودور موازين القوى في كسر صراع الارادات. وهناك من وجد في التنظيمات جوهر التخلف ورأى ان المشكلة تنحل في حال تم التوصل الى صيغ تنظيمية حديثة ترفع من شأن الدولة السلطنة انذاك والأجهزة الجيش تحديداً وتعيد ادراجهما في سياق التحدي التاريخي. وتعددت الأجوبة واشتملت على آراء وطروحات تراوحت بين التربية والتعليم الى الثكنة والمدفع وصولاً الى الرجل والمرأة. وتضاربت الأجوبة الاقتراحات وتفرعت البرامج وتوزعت على منابت ايديولوجية غير متفقة اصلاً على جوهر السؤال: ما هو سبب التخلف وكيف يمكن ان يتقدم العالم الاسلامي؟ ويمكن قراءة عشرات الأجوبة المنثورة أو المنشورة في اعمال الطهطاوي والافغاني وعبدو ورشيد رضا وشكيب ارسلان وأبو الاعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وصولاً الى مالك بن نبي وغيرهم من الاعلام والادباء. كل هؤلاء اجتهدوا للرد على ذاك السؤال الذي جاء في صيغ لفظية مختلفة لكنه كان يعكس القلق الداخلي والتوتر الدائم في الصلة مع الذات أو في رؤية الآخر من منظار المختلف أو المتخلف. تبعثرت اجوبة السؤال من "ماذا خسر العالم من تخلف المسلمين؟" الى "لماذا تخلف المسلمون وتقدم الغرب؟" وجاءت كلها تقرأ التخلف والتقدم من زاوية فكرية لا تاريخية. وغلبة الفكري على التاريخي انتج هواجس ايديولوجية متنافرة جمعت بين العصاب والعصبية من دون ان تصل الى تأسيس معرفة مستقلة أو تكتشف الطريق الخاص للتقدم. عانت مجموعة الأجوبة من مشكلتين. الأولى: المقارنة بين حالين نمطين، نموذجين، ظاهرتين من دون الانتباه الى اختلاف ظروف المكان والزمان. فاسقاط الخاص من التحليل العام ادى الى اهمال معنى الفوات الذهني واختلاف المواقع فانتهت المحاولات الى تراكم سلسلة من الذهنيات العقليات القاصرة عن رؤية تعقيدات العالم المعاصر ودور التدويل الاقتصادي، السياسي، الثقافي في كسر نمو قوة مستقلة تريد الانفراد بنفسها. الثانية: التقليد الذي يقوم على مبدأ الاستنساخ واستيراد تجربة من دون قراءة خصوصيات تلك التجربة وعواملها الأهلية هويتها في انتاجها التاريخي التراكمي ومن ثم اعادة تقويمها وتطويرها قبل الاقدام على تنظيرها فلسفياً. فالفلسفة الأوروبية وانظمتها لم تنتج التقدم الأوروبي بل الأخير انتج الأول. وبسبب تلك الرؤية المقلوبة تحولت المناهج الأوروبية من خلال العبارات الفكرية للتيار الاصلاحي المسلم الى فوات ذهني اي ايديولوجيات تدرب الذهن على السجال من دون ان يكون لها قيمة تاريخية، اذ في لحظة نقلها ومحاكاتها كانت فقدت وظيفتها التحديثية وباتت في موقع لا تاريخي ولا دور واقعياً لها في انتاج التقدم. استنبط الاصلاحيون الكثير من الأجوبة واستخلصوا العديد من العبر وانتجوا المقالات التي وصفت شوارع باريس ونظافتها وانتظام العلاقات ونقاوتها والتزام القانون واحترامه وتساوي الناس امام الدستور ومواده. وقرأ الاصلاحيون القرآن الكريم واعادوا تفسيره بهدف البحث عن صلة بين الشريعة والعلم وايجاد ذريعة شرعية لحث الناس على دراسة علوم الغرب والاستفادة منها تقنياً وتنظيمياً وتربوياً واعادة تطبيقها في "الشرق" حتى يلتحق بركاب التقدم. واتبع الاصلاحيون خطوات السلف فانقسموا الى تيارين الأول قلد فقهاء الفلسفة الصلة بين الشريعة والحكمة والثاني قلد فلاسفة الفقه كل ما هو عقلي وعلمي ومتفق على صحته هو شرعي بالضرورة. وفشلت تلك المحاولات في اللحاق بالغرب. فالتقدم في العالم الاسلامي كان يشق طريقه خارج تلك المحاولات في وقت كانت الفجوة بين العالم الاسلامي والعالم الأوروبي الأميركي تنمو وتزداد اتساعاً. في مقابل فشل نظرية اللحاق تأسست عملية الالتحاق بالغرب وتحولت الى قوة ضغط تدفع الانتاج الى التراجع وتزيد من الاستهلاك وبالتالي ترفع درجة الاتصال من حاجة موقتة الى ضرورة لا غنى عنها.لا شك في ان افكار تيار الحركة الاصلاحية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لم تتشابه في نواياها. فهناك من اراد التقدم لتفكيك الدولة السلطنة مستقوياً بالنزعة القومية ونموها التاريخي في القارة الأوروبية. وهناك من طلب التقدم بهدف تعزيز وحدة الدولة والاحتفاظ بمظلتها التاريخية لتبرير شرعية الاستقلال والنهوض. الا ان تلك الأفكار المتضاربة في نزوعها "التقدمي" ومراجعها ومصادرها ومنابتها اتفقت على منهجية اتصفت بقلة الابتكار وضعف الادراك التاريخي لأسباب التقدم. فمجموع الأفكار كانت تتحدث عن نتائج التقدم لا أسبابه. فانقلب التحليل الى مقاربة النتائج تقليدها لا معرفة اسبابها والأخذ بها من طريق قراءة عناصرها المركبة من توسع جغرافي خارجي تدويل وتماسك داخلي دولة قوية وصلة قوة الداخل بالسيطرة على الخارج امتداد المصالح والامساك بالثروات. الى المقاربة كانت المحاكاة من طريق المقارنة بين مستويين من العيش والرفاهية والضمانات من دون الأخذ بأهمية القياس وشروطه التي تبدأ من قاعدة بسيطة وهي ان صحة القياس بين مسألتين نموذجين تشترط ان تكونا من صنف واحد جنس واحد. فشرط القياس المقارنة هو وحدة الصنف الجنس والا كانت نتائج القياس المقارنة خاطئة. وقياس الاسلام على أوروبا على سبيل المقارنة والتقليد كان في اساسه غير قابل للتطابق فجاءت النتائج كارثية في منطقها النظري أو في قابليتها للتحقق. ساهم سؤال التخلف في توليد أجوبة لا حصر لها مسكونة بهواجس الخوف من الفوات الزمني فتأسست في ضوئها مفاهيم النخبة - الانقلابية الحزبية التي وجدت في الجيش وسيلة للانقضاض على الدولة وأهلها مدفوعة بتصورات لا تاريخية عن التقدم وأسبابه. ونزوع النخبة الى "التقدم" السريع دفع المجتمع الى التمزق والدولة الى مصادرة القوة وضبط الأهل بقانون الاستبداد احياناً وصناديق الاقتراع احياناً أخرى. سؤال التخلف انتج اجوبة عانت من فوات ذهني يعتمد المقارنة والتقليد ويميل الى العلوم النظرية ويبتعد عن العلوم العملية فانتهت السجالات الى اعادة انتاج مقالاتها وتكرار قراءة الموضوعات من دون ربط الزمني بالعملي والنظري بالواقعي والكلي بالجزئي. فتقليد التقنيات تجربة التصنيع في الجزائر مثلاً انتج الفقر والبطالة والديون ولم يسد حاجة المجتمع الى الصناعات في وقت تدهورت الزراعة وفرغت سلة الغذاء. ومحاكاة العلوم جامعات واختصاصات لا صلة لها بالسوق الداخلية انتجت متعلمين من دون علوم اسفرت عن تبطل النخبة المثقفة وامتناعها عن العمل اليدوي فاتجهت للاعماد على مساعدات الدولة والبحث عن وظائف لا صلة لها بالاختصاص ولا فائدة عملية منها... أو الاتجاه للسفر الغرب بحثاً عن مكان يناسب الشهادة في السوق الدولية.