يبدو، أننا مضطرون أن نأخذ بنصيحة صنع الله ابراهيم في ملاحظته الافتتاحية التقليدية: "بعض الاشخاص والوقائع في الصفحات التالية من صميم الواقع، والبعض الآخر من نسج الخيال، لهذا من الأفضل ان تقرأ على أنها رواية!". وجه الضرورة أن ثمة تناقضاً لا يمكن تجاهله، وهوة لا يمكن عبورها: من أين للراوي تلك الوثائق التي تشغل معظم صفحات روايته، "وردة" دار المستقبل العربي - القاهرة، 2000، وهي مادته الرئيسية، في حين أنه تعرض أكثر من مرة لسرقة أوراقه وتفتيشه تفتيشاً صارماً؟ لا بد، إذاً، من تجاوز هذا التناقض، وإلا أنتفى أي سبيل للفهم والمناقشة! ووجود المادة ذات الطابع التسجيلي أو التوثيقي في أعمال صنع الله ابراهيم الروائية اصبح امراً دالاً عليه، مثل "لازمات" في الكتابة أو بصمات لاصابع: في "نجمة اغسطس" 1974، روايته الثانية بعد "تلك الرائحة" 1966 تضمينات من ذكريات الراوي وحياة مايكل انكلو والتاريخ الفرعوني. وفي "اللجنة"، 1981 اقتباسات من مصادر شتى. وفي أعماله الثلاثة التالية زادت المادة التسجيلية من حيث حجمها وطبيعة استخدامها معاً: "بيروت. بيروت" 1984 يثبت فيها الكاتب "سيناريو" كاملاً لفيلم تسجيلي عن الحرب الاهلية في لبنان منذ نشوبها حتى حصار مخيم "تل الزعتر" وسقوطه في 1976، اضافة الى فصل خاص عن تاريخ المسألة اللبنانية. وفي "ذات"، 1992 يعمد الى اقامة لون من التوازن الشكلي: فصل للمادة الروائية يتلوه فصل تسجيلي يضم أخباراً من الصحف الحكومية والمعارضة، ومقتطفات من الصحف الاجنبية، وتقارير، وتصريحات للمسؤولين، وأقوال لسواهم. لكن المادتين: الروائية والتسجيلية بقيتا متوازيتين، لم تلتحما في بناء عضوي واحد، وبقيت العلاقة بينهما اقرب الى العلاقة بين "النظرية الهندسية" و"التمرين المشهور" الذي يثبت صحتها، بمعنى أنه اذا كانت هذه هي شروط الواقع الموضوعي فلن تصدر عنه سوى تلك الشخوص والأحداث. اما في "شرف" 1997 فقد تجاوز صنع الله ما فعل في أعماله السابقة جميعاً، وبلغ في إثبات المادة التسجيلية حداً غير مسبوق في ما أعرف، بحيث كاد عمله أن ينقسم قسمين منفصلين تمام الانفصال، لا يربط بينهما سوى رباط شكلي واهٍ، فتفجر البناء الروائي بين يديه، وحفل العمل بالمقالات والتقارير والبيانات والمعلومات والاحصاءات والتعبيرات العلمية والمصطلحات، اضافة الى حشد كبير من الشخصيات التي لعبت أدواراً في تاريخ العالم المعاصر. فماذا في روايته الجديدة؟ لنبدأ بتحديد خطوطها العامة: "وردة" هو الاسم الحركي الذي اتخذته الفتاة العمانية "شهد" حين قررت السفر الى ظفار وقد بدأ فيها الكفاح المسلح في 1965. وأوراق وردة هي المادة التسجيلية في العمل. تعرّف الراوي على شهد وأخيها يعرب في القاهرة نهاية الخمسينات، وتعلق بها على نحو رومانسي يليق بما كان آنذاك: في التاسعة عشرة، منتمياً الى أحد التنظيمات الشيوعية. انها أيام الوحدة المصرية - السورية، ثم الصراع بين جمال عبدالناصر وعبدالكريم قاسم، ولنقل بين القوميين والشيوعيين، بما تخلله من شد وجذب وصعود وهبوط، وانتهت تلك الايام باعتقال الراوي، رشدي، في الأيام الاولى من 1959. وسنعرف أن شهد وأخاها رحلا الى بيروت للدراسة في جامعتها الاميركية. في 1992 يرتحل الراوي الى سلطنة عمان، يقيم في ضيافة ابن عم له يعمل خبيراً موسيقياً هناك، ويلتمس أوراق وردة. وبعد مغامرات شتى، تتخللها اتصالات غامضة، ولقاءات بأشخاص لا يعرفهم الراوي لكنهم يعرفونه، وارتحالات هنا وهناك في السلطنة، ومطاردات تبلغ حد محاولة اغتياله، يحصل الراوي على أوراق وردة، وهي يوميات سجلتها في ست كراسات: الاولى في بيروت من 1960 إلى 1965، والثلاث التاليات في جبال ظفار، من 1965 الى 1968، ومن 1968 الى 1970، ومن 1970 الى 1972، بعدها من 1972 الى 1975. الكراسة الاخيرة يومياتها في الربع الخالي حتى تنقطع في أحد أيام حزيران يونيو 1975. تشغل هذه الاوراق اكثر من نصف صفحات الرواية 211 صفحة من اصل 411، وهي قلب الرواية. المادة ذات الطابع التسجيلي التي تنتمي الى الماضي، ماضي صاحبتها وماضي بلادها على السواء. هي - على نحو من الانحاء - تسجيل لمختلف مراحل الثورة في ظفار، تقدمها وتراجعها، ولما واجهت من صعوبات ومشاق، ولما أحرزت من انتصارات، وكيف عملت تلك الحفنة القليلة من المناضلين القوميين واليساريين على زرع بذور الثورة في تلك المنطقة. وعلاقات الثورة بجيرانها، خصوصاً تلك الجمهورية التي كانت اشتراكية وفتية في عدن. ثم ما واجهته من هزائم وانتكاسات بدأت في 1972/1973 وانتهت بتصفيتها تماماً في منتصف السبعينات، أي بعد تولّي السلطان قابوس العرش بخمس سنوات، ورفع شعار التحديث الذي يرى الراوي آثاره في السلطنة حين يزورها في 1992. لا نعرف - على وجه اليقين - حقيقة تلك الاوراق. غير أننا نحدس - حدساً قوياً - أن لها وجوداً حقيقياً، خصوصاً في ما يتعلق بتفاصيل الحياة في جبال ظفار، فلسنا نعتقد ان المراجع الكثيرة التي استعان بها الروائي - والتي يثبتها في نهاية عمله - بقادرة وحدها على أن تقدم له كل تلك التفاصيل، وبعضها موغل في دقته وطابعه المحلي، ثم ان تلك اليوميات تطوف حول الأحداث التي تعني نضالاً ذا طابع قومي ويساري، في العالم العربي وفي العالم كله: من مصر الى لبنان الى العراق الى الجزائر، ومن فيتنام الى كوبا، ومن روسيا الى الصين، طوال فترة حفلت بالأحداث الكبرى. وصاحبة اليوميات لا تفلت حدثاً من دون أن تسجله وتعلق عليه: من الحرب الاهلية في لبنان الى صمود الشعب في العراق، وفي 1967 على الجبهات العربية كلها الى 1970 في مصر والاردن ثم 1973 في مصر وسورية...الخ، ولعل كثيراً من التفاصيل والأحداث التي ترد في اليوميات تحاول الاجابة عن اسئلة تدور في رأس وردة مثل: "كيف يمكن تحويل هؤلاء البدو المتحمسين الى مقاتلين ثوريين؟ كيف يمكن اقناع هؤلاء الذين لم يعرفوا نظاماً في حياتهم بمعنى النظام والدقة والوقت والانضباط؟ .. كيف يمكن النفاذ الى قلوب أهل الجبل... الخ". اضف الى ذلك التسجيل اليومي لانباء المعارك والكمائن والتدريبات اليومية وما يحدث للمقاتلين وفي ما بينهم. وقد خرجت وردة من بلدها مرتين: في الاولى زارت عدن في 1969، وفي الثانية زارت موسكو في 1973. أهم ما في تلك اليوميات، إذاً، وما يمثل الجزء الأساسي فيها، هو تلك العمليات الصغيرة التي تحدث بين جماعة المقاتلين وهم في ظفار، ثم تحولهم، الى "المنطقة الغربية المحررة" واخيراً رحلة وردة مع الشاب "دهميش" وأخيها يعرب - بعد حصار الثورة وقرب هزيمتها - لعبور الربع الخالي. تلك المرحلة التي انقطعت اليوميات خلالها، فما حدث - او بالاحرى ما يمكن استنتاجه - هو أن أخاها قد سلّمها لمصير محتوم. في يوميات 19 حزيران يونيو 1975 تكتب: "عندما أخرجت رأسي من تحت البطاطين في الصباح شعرت ان هناك شيئاً غير عادي، قفزتُ واقفة، ناديتُ على دهميش، قام متثاقلاً، لم نجد أثراً ليعرب والمرافقين ونياقهم، لم تكن هناك سوى ناقتينا. اختفى سلاحانا أيضاً". أتم يعرب مهمته، وجاء هذا الفعل الاخير: أن يسلم أخته وصديقها للموت وسط صحراء الربع الخالي ويتقاضى الثمن. هو الحلقة الاخيرة في سلسلة خيانات متتالية أفلح دائماً في تمويهها والتغطية عليها. بعد هذا اليوم بأيام عدة تنتهي يوميات وردة، وتنتهي وردة نفسها مع صديقها الذي أحبته وحملت منه، وكان مقدراً للراوي ان يقابل ابنتهما في صلالة في 1992. المفاجأة الاخيرة التي يحتفظ بها الروائي - على طريقة كتاب القصة القدامى، او اللاعب الذي يبقي الورقة الاخيرة وراء ظهره - هي لقاء الراوي بيعرب. لم يعد اسمه يعرب، بل "الحارث بن عيشة": السياسي المستشار الذي يعمل وراء ستار شخصية خطيرة يلفها الغموض، قطع كل صلة له بماضيه، اليه تنتهي كل الخيوط. هو الذي وضع الراوي تحت المراقبة الدقيقة منذ وصل الى مسقط، وهو الذي رتب سرقة الكراسات من حجرته بالفندق، وفي المقابلة الوحيدة بينهما - وطائرة الراوي على وشك ان تعود به للقاهرة - يتكاشفان. يقول له الراوي: الاحتمال الغالب ان الامر كله كان مدبراً من البداية "أعرف أنك كنت تحبها، ربما أكثر مما يجب، ومع ذلك أو بسبب ذلك تركتها، ولا بد أن إحدى القبائل آوتها هي ودهميش الى أن وضعت ابنتها ... لا أعرف طبعاً ما حدث بعد ذلك، ربما حدث لهما حادث في الصحراء أو توصلت اليهما السلطة. الغالب ان القبيلة نفسها تخلت عنهما واحتفظت بالطفلة، ثم وفوا بوعدهم بعد قليل، سلموها لعمها الذي تكتم على الأمر كله ... المهم أنك قمت بدورك، وكان يمكن ان يمضي كل شيء على ما يرام لولا أن ظهرت اليوميات، عثر عليها أحد، أو أراد ابناء القبيلة استغلالها لكسب ما، كان لا بد ان تعرف ما جاء فيها بشأنك...". يجيب يعرب، او الحارث بن عيشة إن شئت، وهو يلوح بالكراسة الاخيرة التي سُرقت من الراوي قبل ان يمزقها: "الجميع كانوا يسعون خلفها. اصحابك مثلاً، وهم منقسمون كالعادة، يتسابق كل قسم لاستغلالها ضد الآخر. اصحابي أيضاً. ثم هناك الشيوخ المتطوعون، هناك ايضاً جيراننا. وجيران جيراننا". لماذا هذا المسعى المحموم من كل الاطراف وراء هذه الاوراق؟ يرتبط بهذا سؤال آخر: لما ينشر الروائي هذه الصفحة، الآن هنا؟ في كانون الاول ديسمبر 1975 أعلن السلطان قابوس أمام خمسين ألف مواطن دحر الثوار. "وتم اعلان العفو العام فاستسلم حوالى الفين من الثوار، وانتفع الاهالي ب"مكرمات" السلطان من التلفزيون الملون الى "البومبون" الذي القته عليهم طائرات سلاح الجو السلطاني، ولم تمض ثلاثة شهور حتى حدثت المعجزة ووقع السلطان اتفاقية هدنة مع اليمن الجنوبي". انطوت، إذاً، صفحة ثورة ظفار، واصبحت نسياً منسياً. ترى... كيف تبدو في عيون أهل السلطنة الذين حاورهم الراوي في 1992؟ لدينا وجهتا نظر متعارضتان بطبيعة الحال: الاولى يمثلها المستفيدون من النظام القائم، الذين تسقط في ايديهم ثمار "التحديث". يقول واحد منهم إن تلك الثورة لم تكن سوى "مجرد عبث أطفال من علماء الشيوعية" وهو أحد قادة الثورة ذاتها، أخو دهميش صاحب وردة وعم ابنتها وعد: "في صيف 1970 جاء سيدي قابوس الى السلطة وبدأت عملية البناء، نزل شباب كثير من الجبهة الى صلالة، وبعد أن تأكدت الحكومة من حسن نياتهم سلمتهم وظائف، وبدأنا نجني ثمرات التغيير ... وبدأت مطالبنا التي كنا نحاول تحقيقها من خلال الكفاح المسلح تجاب. فماذا بقي أمامنا؟". أما من استمروا في الثورة بعد ذلك فيقول عنهم: "هؤلاء كانوا نفراً قليلاً من الشيوعيين آواهم اليمن الجنوبي، ظلوا يرفعون شعارات العنف الثوري والمجتمع اللاطبقي وحكم البرولتياريا. الناس هنا قوم بسطاء لا يفهمون إلا ما يحسون به ويلمسون.". وهذا واحد من اولئك القوم البسطاء، مواطن عماني من أوساط الناس، موظف صغير في دائرة من الدوائر، يرى أن الثورة تركت أثراً واحداً ايجابياً يحدده على الفور: "الجبهة استولت على الجبال وأرسلوا الاطفال الى اليمن الجنوبي للتعلم، ومنه الى العراق وليبيا والبلدان الاشتراكية، وهؤلاء عادوا الآن أطباء ومدرسين وغيرهم. كانت الفكرة هي تحديث البلاد التي اغلقها السلطان سعيد بيدٍ من حديد خوفاً من الاجانب". وجهة النظر الاخرى يعبر عنها "زيد": شاب من معارضي ما هو قائم، هو الذي بادر للاتصال بالراوي، وهو الذي قدم له الكراسات الاولى من أوراق وردة، وارشده الى مكان بقيتها، لا نعرف عنه شيئاً سوى ذلك، حتى اسمه هذا افترضه الراوي. تلك شذرات مما يقول: "أي تحديث هذا الذي يتم تحت سيطرة الاجنبي؟ هناك ... اسرائيل، علاقات وتطبيع وجواسيس يمرحون في كل مكان ... اسمع، التحديث المزعوم انتهى. النظام قدم كل ما عنده ... رجال الاعمال العمانيون يستثمرون في مشاريع تعيد لهم أموالهم في أسرع وقت خصوصاً في الاسكان ... الجامعة تكلفت بليوناً لهف معظمها ابن مارغريت ثاتشر". ولعل الاختلاف البين في وجهات النظر حول تلك الثورة ان يكون أول دوافع الروائي نحو تحقيق احداثها وأفق طموحاتها وما انتهت اليه، في لون من الحنين لاستعادة الزمن القديم، ليس لثورة ظفار وحدها، بل لقاهرة النصف الثاني من الخمسينات، وبيروت النصف الاول من الستينات كذلك، بعبارة ثانية: في مواجهة الحاضر المتمثل في مسقط وصلالة 1992، ما يراه الراوي ويسمعه، وما يتحدث به عن الواقع في مصر، ثمة أكثر من طبقة من طبقات الماضي: الطبقة الاولى هي ما يستعيده الراوي عن قاهرة نهاية الخمسينات حين تعرف الى شهد واخيها يعرب، تليها طبقة ثانية هي التي تسجلها الكراسة الاولى من اليوميات حين كانت بيروت شرفة فسيحة تطل على العالم العربي كله ما بين 1960 و1965. وأمارات الاصطناع أو "الفبركة" واضحة بوجه خاص في هذه الكراسة الاولى، فثمة اخطاء صغيرة لا تفوت المدقق، خذ أمثله قليلة: في الايام الاولى من يومياتها، عن يوم 30 ايلول سبتمبر 1970 تكتب: "النقطة الجوهرية في فلسفة سارتر مثلاً هي مسؤولية الانسان عن أعماله أمام نفسه وأمام مجتمعه. يعجبني موقفه من المجتمع ومواقفه المبدئية. رفض مثلاً جائزة نوبل لأنها اعطيت له من قبل هيئة محافظة"، قد يكون رأيها هذا صحيحاً، لكن جائزة نوبل التي رفضها سارتر اعطيت له في 1964، اي بعد هذا التاريخ بأربع سنوات. وعن يوم 25 كانون الثاني يناير 1961 تكتب: "تشاجرت انا وشهاب حول اغنية أم كلثوم الجديدة "انت عمري" قلت له انها نموذج لفن الاقطاع والتطريب الرجعي... الخ" وقد يكون رأيها هذا صحيحاً كذلك، لكن المشكلة أن هذه الاغنية لم تظهر إلا بعد هذا التاريخ بأكثر من ثلاث سنوات، أي في آذار مارس 1964، وتعرض مرة ثانية لسارتر، فتلخص بعض افكار كتاب "نقد العقل الجدلي" في يومية 20 تموز يوليو 1961، وهذا الكتاب صدر بالفرنسية في السنة ذاتها، ولا أظنها قرأته في لغته، ولا أن ترجمته العربية كانت متاحة في ذلك التاريخ... الطبقة الثالثة هي السنوات العشر التالية التي لم تتوقف فيها وردة عن كتابة يومياتها، والتي تبدأ بأول آيار مايو 1965، وتنتهي بضياعها وسط صحراء الربع الخالي، ذات يوم قائظ في حزيران يونيو 1975، وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها. هل كان من الضروري أن يثبت الروائي كل هذه التفاصيل؟ والتزاماً بأي شيء؟ وسواء كانت الكراسات حقيقية أو لم تكن، فثمة حاجة ضرورية وبدهية "لتقنينها"، أي صوغها صياغة فنية تتمثل في انتقاء التفاصيل الدالة واستبعاد ما عداها، وهذا ما لم يفعله الروائي، فكثير من التفاصيل غير ضروري، بمعنى انه لا يضيف شيئاً الى ما يعرفه القارىء أو ما سبق قوله. على سبيل المثال، من المعروف أن منطقة ظفار تقع بين سلطنة عمان من ناحية، واليمن الجنوبي من الناحية الاخرى، ومن المعروف كذلك ان الثورة كانت على علاقة عضوية وضرورية ودائمة بنظام الحكم "الاشتراكي" القائم في عدن، والكراسات تمتلىء بتفاصيل هذه العلاقة، وقد سبقت الاشارة الى ان وردة قامت بزيارة عدن في 1969، لكن الروائي لا يكتفي، بل يُصر على ان يستكمل ما حدث لهذا النظام: بعد سهرة قضاها في بيت "الفندي" أحد كبار المسؤولين ذوي السلطة في مسقط، عرض عليه الرجل شريط فيديو لمذبحة "المكتب السياسي" في عدن 1986، ثم اعطاه ثلاثة مجلدات "كي ينعش ذاكرته". قضى الراوي اربعة أيام عاكفاً عليها، ثم لخص لقارئه أهم ما جاء فيها عن الصراعات في عدن من 1975، حين أعلن السلطان دحر الثوار في ظفار، حتى المذبحة التي شهد شريط أحداثها في 1986، مرة ثانية: لم يكتف، بل أضاف: "تذييلاً" أخيراً واصل فيه الاحداث حتى الحرب بين الشمال والجنوب، والتي انتهت بانتصار الشمال وضم الجنوب في 1994. وعندي، فإن تلك المادة كلها، بتجريدها وجفافها وازدحامها واحتشادها بالاسماء والأحداث والشخصيات وعمليات التصفية الدموية العنيفة المتبادلة التي تدير الرأس، انما تمثل "نتوءاً" في العمل كله، لم يكن القارىء بحاجة الىه، لكنها رغبة الراوي في أن "يقفل القوس" الذي فتحه، وان يقول لقارئه كل شيء، وليس هذا غير وجه من وجوه استسلامه لمادته ذات الطابع التسجيلي، وعدم مقدرته، او عدم رغبته في الانتقاء والحذف. أراد صنع الله ابراهيم ان يستصفي من النسيان والصمت والتجاهل ثورة عربية ومضت ثم انطفأت كالشهاب، وقد نجح، على رغم كل شيء في ما أراد، وقدم لنا - اضافة - رؤية للواقع الذي اصبحت عليه هذه الارض بعد سبعة عشر عاماً من انطفاء الثورة، واستطاع ان يقيم بناء روايته على المزاوجة بين وقائع الحاضر من جانب، وطبقات الماضي المتعددة - بالمعنى الذي سبقت الاشارة اليه - من الجانب الآخر. وتبقى وردة ذاتها: شخصية انسانية متكاملة، مناضلة عربية تكونت في سنوات المد والزهو والصعود، عرفنا تكونها الفكري والعاطفي والانساني وخبرات حياتها وهي تطارد حلمها المستحيل على أرض الواقع القاسي المتخلف. الى جانب دلالة أكثر شمولاً وأعمق دلالة: هي وجه من وجوه الثورة العربية التي يتم حصارها ثم اغتيالها. تلقى الخيانة من اقرب الناس اليها. نعم "من يد العدو طعنة، ومن يد القريب طعنتان" وبعد تصفيتها يتم إنكارها، وتلويث ماضيها ونضالها. لكن، ثمة من يذكرها، ويعمل على أن يجلو وجهها الجميل، ويقدمه الينا، في زمن الهزيمة والتردي. وليس هذا - هنا والآن - بالشيء القليل. * كاتب مصري.