منذ روايته الأولى "تلك الرائحة" 1966، اختار الروائي العربي المصري طريقاً جديدة للرواية، لكنه كان في كل رواية تالية مختلفاً، ومنذ "بيروت... بيروت" ومروراً ب"ذات" ثم "شرف"، حتى "وردة" يبدو ان ابراهيم قد اختار شكلاً للمواجهة، عبر الرواية، مع "قوى" كثيرة: سياسية، اقتصادية - مالية، ثقافية، متدينة... أو متسترة بالدين. لم تشهد الرواية العربية، قبل صنع الله، هذا القدر من "التسجيل" المشغول بقدر رفيع من التخييل الفني، وبمستوى عال من ضبط الوعي - السياسي والفكري والاجتماعي - الذي يرسم به الروائي معالم عمله وشخوص هذا العمل... وبهذه الجرأة! ثمة أهمية، بالطبع، لهذا القدر الهائل من الوثائق المجمّعة من مصادر متنوعة، وهذه العملية وحدها تحتاج جهوداً لانتقائها واختيار الأساسي منها... لكن الأهمية الكبرى، في شُغل صنع الله، هي في نسج خيوط روايته من هذه القطع الفسيفسائية، ووضعها في خريطة ذات معالم واشارات شديدة الوضوح والدلالة. في "وردة" تقع في 410 صفحات، دار المستقبل العربي معالجة توثيقية معمقة لمسائل واشكالات وعلاقات معقدة ومترابطة ومتداخلة. والرواية روايتان: واحدة بصوت الراوي المصري الذي يذهب الى عُمان بحثاً عن صديقة عمانية قديمة تدعى شهلا، كان تعرَّف اليها في القاهرة، حين كانت تدرس هي وشقيقها، وكانا في تنظيم سري، عام 1957...، فيقضي بين مسقط وصلالة ثلاثة أشهر من أيلول سبتمبر 1992 حتى كانون الثاني يناير 1993، يقدم فيها مشاهداته ورؤيته لما هي عليه عُمان الآن... ويكتشف "يوميات" وردة/ شهلا. والرواية الثانية نقرأها من "يوميات" وردة - احدى كادرات الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي - في جبال ظفار، منذ انطلاقة الثورة حزيران يونيو 1965 حتى فقدان وردة في صحراء الربع الخالي يوم 24 حزيران 1975، فنتابع أخبار العالم وما هنالك من ثورات وانقلابات، واهتماماً كبيراً بما يجرى في الاتحاد السوفيتي والصين والمنظومة الاشتراكية من جهة، والصراعات في أميركا الجنوبية من جهة ثانية. كما نتابع تغيرات الوضع في اليمن وتدخلات عبدالناصر ودول الخليج. وتسجل وردة نتفاً من أخبار الثورة الفلسطينية وفصائلها في الأردن قبل وبعد مجازر أيلول 1970، ومرحلة خطف الطائرات، وعملية ميونيخ... الخ. المركز في الرواية هو مسألة الثورة والعلاقة مع أنظمة الحكم، وعلاقة هذه الأنظمة بالأجنبي الذي تستنجد به لحماية العروش، فيحميها لتحفظ له "مصالحه". وعلى رغم ان الرواية تركز على "ثورة ظفار"، عبر تركيز الأضواء على "الجبهة"، إلا اننا نتابع، من خلال ال"يوميات" تفاصيل الحياة اليومية والمعاناة الشديدة لفرقة مقاتلين من "الجبهة" تقودها وردة، وخصوصاً معاناة قائدة الفرقة التي تعاني بصورة مضاعفة، مرة لكونها امرأة تواجه "ميراثاً" هائلاً من الذكورة المتحفزة لالتهامها من قبل رفاقها، ومرة حين لا تجد رجلاً - حباً يخفف وطأة الظروف القاسية للنضال الجبلي. وبمثل ما تنتقد الرواية نظام الحكم في عمان وسواها، توجه سهام نقدها الى سلبيات حركات التحرر، خصوصاً علاقتها بالمرجعية السوفيتية والصينية، وبالأخص "تقليد" أنموذج ثوري في كوبا مرة وفي فيتنام مرة، والضياع بينهما. ولعل النقد القاسي الذي توجهه الرواية - عن حق - الى التجربة اليمنية، التي مزقتها صراعات القيادة من جهة، والضغط العربي والأجنبي من جهة ثانية، أن يكون أحد مباضع الجراحين - المبدعين العرب الضرورية في النظر الى أي تجربة يمكن أن نخوض، وأي ثورة ينبغي أن نبني؟ فما فعله "الرفاق" في عدن ببعضهم بعضاً، يضعهم - جميعاً، وبلا استثناء - خارج مفهوم الثورة كما تطرحه الرواية، وكما تتبناه وردة التي تفرض رؤيتها وروايتها. فوردة هنا هي التعبير عن الصدق والقوة والجمال والحرية. التعبير عن رؤية مفاهيم غير مستوردة، وليست معلبة أو جاهزة أو مسبقة الصنع. مفاهيم نابعة من حاجة الناس ورغباتهم وامكاناتهم. ومع ذلك، تسقط وردة في الضياع، تسقط بمؤامرة من شقيقها "يعرب" هل للاسم دلالته؟ أم هو مجرد اسم؟، الذي كان أحد كوادر الجبهة، وخرج معها ومع رفيقهم "دهميش"، وفي وسط الصحراء تركهما وهرب مع الدليلين، ولم يترك لهما من الماء والطعام سوى ما يكفي ليوم أو يومين، لكن اختفاء وردة لم يكن كاملاً، فهي كانت توشك ان تنجب طفلة من دهميش... الذي كان يريد طفلاً. وقد تركت لنا طفلتها "وعد"، كما تركت لنا "يوميات" شديدة الأهمية... اليوميات التي تقول عنها وردة انها "الطريقة الوحيدة للمحافظة على الوقائع ودراستها واستخلاص الدروس منها. سلاحنا ضد الغدر والهزيمة". وتجمع الرواية لحظات الفرح القليلة الناجمة عن "انتصارات" و"أحلام بالانتصار"، الى روح الزمن الكارثي الذي يهيمن على المنطقة - وعلى الرواية. لكن ما صنعته الثورة، في سنوات قليلة، لم يكن قليلاً، قياساً بحجم الامكانات من جهة، وبحجم القوى المعادية من جهة ثانية. فالرواية تنجح في تسليط الضوء على الوجه الإيجابي للثورة، المتمثل في تجربة التعليم، وتحرير المرأة، وتخفيف حدة الهيمنة العشائرية بين "الرفاق"، حين تمكنت من كسب تعاطف المجتمع، وجذبته للثورة، قبل أن ينجح النظام في استعادته الى "حظيرته" عبر تقديم "المنح" والمكافآت. رواية تجمع التسجيل للوقائع، جنباً الى جنب مشاعر الحب الرومانسي الممزوج بالرغبات الحسية لامرأة متحررة، امرأة تمتلك جسدها وروحها، وتمتلك حرية أن تمنح وأن تأخذ، حرية أن تجوع حين لا تجد ما يشفي الغليل. فهل هي امرأة الحلم المهزوم... كما يراها المؤلف؟! امرأة أحلامنا التي هزمتها الأنظمة الحاكمة وأعوانها! لكنها تبقى امرأة من لحم ودم وطموحات وأحلام، صاغها المؤلف بحميمية عالية، وضمن سياقات سردية/ حكائية شديدة السلاسة والجمال والتشويق.