يعود الكاتب المصري الراحل وجيه غالي، صاحب «البيرة في نادي البلياردو»، الى واجهة الأدب العربي المكتوب بالإنكليزية، بعد مرور خمسين عاماً على انتحاره في لندن، من خلال صدور الطبعة الأولى لكتاب له غير منشور هو «يوميات وجيه غالي: كاتب مصري في الستينات المتأرجحة» (الجامعة الأميركية في القاهرة). هذه اليوميات أعدتها الباحثة والكاتبة المصرية مي حوّاس، وهي أستاذة مساعدة للّغة الإنكليزية والأدب المقارَن في الجامعة الأميركية في القاهرة. تقع اليوميات في جزءين، وهي تتّسم بصراحتها المذهلة، بحيث تسرد تفاصيل كثيرة عن الهوس الاكتئابي الذي عانى منه غالي، وعن حياته العاطفيّة المتقلّبة ومغامراته الجنسية العديدة، وعن إدمانه المشروب، وتفاعلاته مع عدد هائل من الأصدقاء والمعارف. وتدور اليوميات أيضاً، حول الشعور بالألم الذي انتابه في المنفى، وذكريات الإسكندرية حيث أبصر النور، وافتخاره بكونه مصريّاً وقبطيّاً. وتتجلى مواهبه الروائية في طريقة صياغته مختلف المشاهد ووصفه الشخصيات، وفي الدقّة التي توخّاها لنقل الحوارات وفي إضفائه المتكرّر عنصر الفكاهة على كتاباته. كشفت حوّاس عن بعض تفاصيل الكتاب قائلةً: «إنّ يوميات غالي لقيت نجاحاً عظيماً، إذ تعاطف القرّاء بطريقة مؤثرة مع المعاناة النفسية التي اختبرها، فدفع بهم الفضول إلى استكشاف مغامراته الجنسية، واجتذبتهم الأحداث التاريخيّة التي أورد ذكرها في سياق ما رواه. وقد حصلنا على تنويه من الهواة القدامى والجدد، ومن الروائيين والباحثين، ولكن أيضاً من منتجي الأفلام والمترجمين، الذين أعربوا عن حماستهم لتناول هذه اليوميات في أعمالهم». وفي المقدّمة التي تسلّط الضوء على المحتوى الذي تمّ نشره، تقول حوّاس إنّ هذه اليوميّات تشكّل مفترق طرق «في أسلوب كتابة اليوميات العربية (أو الإنكليزية - العربية)، مع كلّ ما تحمله من انفتاح على الموضوعات المحظورة، وعلى الصدمات النفسية وإدمان الكحول والانحلال الجنسي». الرغبة في النشر وعند سؤالها حول ما إذا كانت تردّدت في جمع بعض المعلومات الحساسة في اليوميات التي حرّرتها، قالت حوّاس: «تردّدتُ في كل مقطع، لكن ليس لأسباب أخلاقية محدّدة. ونحن محظوظون جداً لأنّ غالي نفسه يوضّح في يومياته أنه يريد لها أن تُنشر. ويكتب ذلك في صورة متكرّرة، ويورد ذكر الموضوع في الرسالة التي تركها قبيل انتحاره. من حظّنا أنّه يسرد الأحداث بطريقة لا يمكن الاعتماد عليها». وأضافت: «بالتالي أنا محرّرة، ولست لجنة تحقيق. والحال أنّني لم أتردد حيال ما يجب إدراجه، بقدر ما تردّدت في شأن ما عليّ استثناؤه. فالنص طويل، وغير روائي، وفيه تكرار في بعض الأحيان، وقدر هائل من الإحباط في أحيان أخرى. بيد أنّ هذا ما تكون عليه اليوميات التي تُنشَر بعد وفاة مؤلفها، وسيعني تغييرها فعلياً أنها تخضع لإعادة صياغة كي تنتمي إلى أسلوب جديد، وبالتالي، ارتأيت أنني لا أملك الصلاحية للقيام بذلك. وقد أشعرني ذلك بالقلق. أما طريقة تمضيته الوقت فلم تُثر قلقي على الإطلاق». كانت كتابة اليوميات مهمة بالنسبة إلى غالي، ويبدو أنّه استخدمها كنوع من العلاج. وفي أوّل فصل منها، المؤرّخ 24 أيار (مايو) 1964، كتب قائلاً: «مع الإصابة بالجنون مثلما يحصل معي، قد يكون من الأفضل أن أكتب يومياتي... ولو للإبقاء على قدر ضئيل من التعقّل». كتب غالي فصول المجلّد الأول من اليوميات المنشورة عندما كان مقيماً في بلدة ريدت، في غرب ألمانيا، حيث كان يعمل في مكاتب الجيش البريطاني في منطقة الراين. وكان أصبح من المنفيين السياسيين في العام 1954. وقبل انتقاله للعيش في ألمانيا، عاش في باريس كطالب طب بين عامي 1953 و1954، ومن ثم في لندن – حيث درس في كلّية تشيلسي المتعددة الفنون (من 1955 إلى 1958) قبل أن ينتقل إلى السويد. وكانت أوّل رواية لغالي بعنوان «بيرة في نادي البلياردو» (1964، دار نشر «أندريه دويتش» في لندن، قبل أن تصدر عن دار نشر «كونبف» في الولاياتالمتحدة)، وقد حصلت عموماً على مراجعات ممتازة بين الإصدارات الرائدة. لكنّ غالي وجد صعوبة في كتابة روايته الثانية بعنوان «أشل». وبينما كان في ألمانيا، كتب بعض المقالات لصحيفة «غارديان»، ومن ثمّ ألّف مسرحيّة. لكنّ متنفسه الأدبي الرئيسي تمثّل في كتابة يومياته. وغالباً ما تحدّث فيها عن الكتب الكثيرة التي قرأها، وعن شعوره بالنقص بالمقارنة مع المؤلفين الذين كان معجباً بهم. من الشخصيات الرئيسة في «بيرة في نادي البلياردو» امرأة يهودية اسمها إدنا، هي عشيقة رام، راوي الأحداث في الكتاب. وعندما كان غالي مقيماً في ألمانيا، تذكّر معاناة اليهود في المحرقة، وندّد بالعنصرية التي كان يواجهها. خلال إقامته في لندن، اشتملت دائرة معارفه على عدد من اليهود والإسرائيليين. وتمثّلت ذروة يومياته في زيارة مثيرة للجدل قام بها كصحافي إلى إسرائيل والقدسالشرقيةالمحتلة والضفة الغربية، ما بين تموز (يوليو) وأيلول (سبتمبر) 1967، في أعقاب حرب حزيران (يونيو). وقد تم تفويضه لكتابة مقالات لصحيفتي «أوبسيرفر» و»تايمز». وزعم أنه أول مصري يزور إسرائيل منذ نحو خمسة عشر عاماً. وفي أيار (مايو) 1968، صرّح مسؤول مصري في لندن علناً أن غالي ليس مصرياً، إنما مُنشق إلى إسرائيل، وهو أمر آلمه كثيراً. أكاذيب إسرائيل أظهرت يوميات غالي أنه خلال زيارته إلى إسرائيل، التقى بأنواع مختلفة من الناس، بما يشمل مسؤولين إسرائيليين، وإسرائيليين من مختلف التوجهات السياسية، وفلسطينيين. وقد خاب أمله أكثر فأكثر بإسرائيل. وكتب من القدس في 7 آب (أغسطس) 1967: «... أشعر بالغضب، وبأن الفلسطينيين الأردنيين والعرب يرزحون تحت الضغوط. وأن الدعاية الإسرائيلية غارقة بالرياء والأكاذيب. وأفضّل ارتداء الكساء العربي والسير في المدينة القديمة بمفردي، على أن أرى إلى جانبي أيّ محتل». وفي بحث بعنوان «مصري في إسرائيل»، كتبته قناة «بي بي سي»، وأعيد نشره في كتاب «خير الكلام: أنطولوجيا من إذاعة بي بي سي» ( 1968)، كتب قائلاً: «بنتيجة هذه الزيارة، تغيّر سلوكي حيال إسرائيل بصورة جذريّة. ولا أزال أؤيد التوصّل إلى تفاهم بين العرب وإسرائيل. ولكن في حين كانت مساعي الفهم التي بذلتها موجّهة نحو العرب، أشعر الآن أن إسرائيل تُلام أكثر بكثير من العرب على حالة الحرب القائمة في الشرق الأوسط». بعد زيارته إلى إسرائيل، كتب غالي في يومياته عن اقترابه من مجموعة إسرائيليين يساريين منشقّين في لندن، ومن بينهم أكيفا أور، «من أكثر الإسرائيليين الشيوعيين ودّاً». وشملت مجموعة الأشخاص الذين عاشرهم الصحافي والفنان والكاتب شيمون تسابار، الذي أطلق بالتعاون مع غالي وآخرين مجلة ساخرة بعنوان «أخبار إسرائيل الإمبريالية». وفي أول عدد من هذه المجلّة، ويمكن قراءته عبر الإنترنت، وَرَدَت مقالات كتبها وجيه غالي بالتعاون مع الكاتب والصحافي العراقي خالد قشتيني. لكنّ شبكة الأصدقاء والمعارف الواسعة لدى غالي، وعلاقة الحب الجديدة التي جمعته بطالبة طب، لم تنقذاه من دوامة الإحباط. وفي 26 كانون الأول (ديسمبر) 1968، ابتلع كميات مفرطة من المنوّمات بنيّة وضع حدّ لحياته. وفي ذلك الحين، كان وحيداً في لندن، في شقّة محرّرته الأدبية وصديقته ومرشدته وعشيقته – لفترة وجيزة – ديانا أتهيل. وهو كان مقيماً في شقتها منذ أن انتقل من ألمانيا إلى لندن في أيار 1966. كتب غالي في الفصل الأخير من يومياته: «سأقتل نفسي الليلة. لقد حان الوقت. وأنا طبعاً ثمل. لكنّي لو كنت بكامل وعيي، لصعب عليّ القيام بذلك إلى حدّ كبير». يُطلعنا الكتاب الذي ألّفته أتهيل عن غالي، بعنوان «بعد الدفن»، والذي صدر سنة 1986، أنه بعد أن ابتلع الحبوب المنومة، اتصل بصديق ونُقل إلى المستشفى في سيارة الإسعاف. وبقي أصدقاؤه ماكثين بجواره بينما كان الأطباء يحاولون إنقاذ حياته، لكنّه فارق الحياة في 5 كانون الثاني (يناير) 1969. ولم يكن قد أنهى العقد الثالث من عمره (ولم تكن سنة ولادته معروفة، لكن مي حوّاس تعتقد أنّه ولد إمّا في 1929 أو في 1930). في الفصل الأخير من يومياته، وضّح غالي أنّه يودّ نشرها. وكتب قائلاً: «ديانا حبيبتي. أترك لك يومياتي، يا حبيبتي – إن حرّرتها جيداً، فستشكل قطعة أدبية جيدة». بعد نصف قرن، كانت مي حواس قد أحسنت تحرير اليوميات المكتوبة أصلاً بخطّ اليد، والممتدّة على ستة دفاتر و700 صفحة. وعمل قسم الأرشيف في جامعة كورنيل على رقمنة نسخة عن «أوراق وجيه غالي غير المنشورة». وقد أعطى خط يده المتمدّد انطباعاً بالعفوية والسرعة، وصعبت قراءته. بيد أنّ حواس فكّكت المضمون الذي كتبه وطبعته، وتقول إنها أبقت في النسخة المنشورة على 85 في المئة من اليوميات الأصلية المكتوبة باليد. وعند سؤال خوّأس حول ما إذا كانت تائقة لرؤية اليوميات منشورة، ولماذا أخذت على عاتقها مشروع تحريرها، أجابت قائلة: «وجيه غالي بمثابة بطل مبجّل بنظر المصريين في العقدين الثاني والثالث من عمرهم (أو ممن هم في العشرينات والثلاثينات في قلوبهم)، كما وأنه من الشخصيات المهمّة التي تمثّل الرواية الإنكليزية العربية. وبالتالي، شعرنا بضرورة أن نعالج يومياته، ليستفيد العموم من محتواها». وأضفت حوّاس على نصّ اليوميات مضموناً قيّماً، جاء في المقدّمة الغنيّة بالمعلومات التي أدرجتها، وفي مقابلتين كانت قد أجرتهما ديبورا ستار، من جامعة كورنيل، مع كلّ من ديانا أتهيل، وسمير سند بسطة، ابن كيتي، خالة غالي. ما كان ردّ فعل أسرة غالي وأصدقائه على مشروع نشر يومياته؟ تقول حوّاس: «إنّ سمير قدّم دعماً نفسيّاً كبيراً، شأنه شأن جميع أفراد أسرة غالي وأصدقائه الذين كلّمناهم أو تفاعلوا معنا». وتشمل المقابلة مع سمير بسطة، الممتدة على 12 صفحة، معلومات كثيرة عن تاريخ غالي الشخصي وعن شخصيته. وقد يعزى بعض من المعاناة النفسية التي اختبرها غالي إلى الرفض الذي لقيه من والدته بعد وفاة والده الطبيب عندما كان صغيراً، ومن ثمّ إلى معاودة زواجها. والحال أنّ كيتي، والدة سمير، هي التي ربّت غالي. ولعله كان يبحث دوماً عن حبّ الأم في النساء الأخريات، ومن ثمّ يتخلّى عنهنّ ما إن يستسلمن له. من «يوميات وجيه غالي» الخميس في 11 آذار (مارس) 1965 (رايدت، ألمانيا الغربية) أكره الألمان. لا مفر من ذلك. فهم مبتذلون وصاخبون وجشعون. وهم معدومو الإحساس والعواطف. على كلٍّ! لكن في المقابل، لم يسبق لي، في حياتي، أن صادفت لطفاً وضيافةً بالقدر الذي رأيتهما هنا. وبنظري، المسألة برمّتها بالغة الصعوبة. فقد منحوني لجوءاً هنا، وساعدوني، وأطعموني، وأنقذوني، ومع ذلك... مع ذلك. لكنّه من الإجحاف أن أمقتهم وأكرههم. وليتني قادر على كره ما يستحق الكراهية، وحبّ ما يستحقّ الحب... لكنّ المرء عاجز عن ذلك، وعليه التوصّل إلى استنتاج عن الدولة برمّتها (...). الأربعاء، في 16 أيلول (سبتمبر) 1965 (رايدت) مساء أمس، قرأت تشيخوف مرّة أخرى، وأنا مستلقٍ في فراشي. «رواية مجهولة الهوية». حتّى أنني أتعاطى مع كتبه بلباقة وحب. فهو أعظم الرجال على الإطلاق. هو تشيخوف. لم أسمع أياً من معاصريه يتحدث عنه بالسوء. لكنّ أكثر ما يلفت هو أن تشيخوف يجعل الحياة تستحق العناء. أحبّه إلى حدّ أنني لو سألت نفسي «لماذا ولدت»، لأجبت قائلاً، لأقرأ تشيخوف طبعاً. كتبت قليلاً في «روايتي» البارحة لكن بعد أن قرأت تشيخوف، عرفت إلى أيّ حدّ كتاباتي مبتذلة. السبت، في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1965 (رايدت) استيقظت في الرابعة صباحاً– تنتابني مشاعر انتحارية، فدخنت سيجارتين، وحاولت العودة إلى النوم– لكنّ كلّ ما حصل هو أنني رأيت كوابيس وتقلّبت في سريري... وأشعر بأنّني فارغ وميّت من الداخل. لن أكون يوماً رجلاً سعيداً. الثلثاء، في 6 حزيران (يونيو) 1967 (لندن) مآسٍ – كوارث. على الصعيد الوطني، والدولي، والشخصي. فالحرب دائرة بين العرب وإسرائيل منذ 48 ساعة. والجيش المصري الذي تمّ تطويره مقابل نفقات باهظة على امتداد عشر سنوات، أزيل من الوجود خلال 24 ساعة. والأمر مأساوي للغاية. ولإنقاذ ماء الوجه، يقول عبد الناصر إن الأميركيين والإنكليز دعموا إسرائيل. لكنّ الأمر ليس صحيحاً. لقد قادنا، نحن وجميع العرب، نحو كارثة معنويّة وفعلية. 31 كانون الثاني (يناير) 1968 (لندن) على امتداد أسبوعين في بداية الشهر، أعيش مغامرات عاطفية متزامنة مع كارمن وسوزان وروث. فتأتي كارمن عند موعد الغداء، ومن ثمّ أمارس الحب مع سوزان في المساء، ثمّ تدعوني روث للعشاء، وأستيقظ صباح اليوم التالي لأذهب مباشرة إلى موعد غرامي مع كارمن. وأعربن لي، الواحدة تلو الأخرى، عن مشاعر الحب تجاهي، وقد استبعدتُ كلاً منهنّ من دون إساءة أو وعي. 26 أيار (مايو) 1968 (لندن) كان من المفترض أن ألقي، شأني شأن أكيفا أور، وبيل هيليير، كلمة عن إسرائيل وفلسطين في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أو بالأحرى في مدرسة الثقافة الشرقية والإسلامية. كانت الصالة مكتظة – بإسرائيليين، وبعض العرب، في حين أن من تبقّى منهم كان من الإنكليز. وما إن أغلقوا الباب ووقف الرئيس للتعريف بنا، وقف شاب في الخلف وقال: «أرجو المعذرة، قبل أن تبدأ، أود ذكر أمر مهم، وهو أنه على اللافتات، تروّج لوجيه غالي على أنّه مصري. أنا ممثل عن الحكومة المصرية، والسيد غالي ليس مصرياً، بل منشق إلى إسرائيل». انتابني غضب عارم – ومع ذلك، كانت اللحظات التالية الوحيدة التي أعربت فيها عن رأيي بفصاحة، وقد مسحت الشاب بالأرض... ونلت حصتي من التصفيق العالي، في حين قام بمغادرة القاعة... وبينما كان أكي يلقي الخطاب الرئيسي، جلست على الكرسي... وغرقت في حزن كان يصعب فهمه. والحال أنّه تبيّن لي فجأة، بعد كلّ هذه السنوات، أنني لم أكن فقط من دون «بيت» منذ سن العاشرة تقريباً، إنما أيضاً من دون وطن. * تنشر بإذن من دار النشر «إي يو سي برس»