مع انهيار الاتحاد السوفياتي/ الاتحاد اليوغسلافي في 1991 - 1992 بدا ان آفاق تحرك تركيا اتسعت شرقاً وغرباً من حدود الصين الى ساحل الادرياتيكي. وعزز الانهيار في البلقان الدور الاقليمي لتركيا بسبب الامتداد التركي من بلغاريا الى كوسوفو او بسبب الحنين الى الماضي العثماني او بسبب الدور الجديد للحلف الاطلسي في اوروبا الجنوبية الشرقية. ويختلف وضع كوسوفو عن البوسنة وكان واضحاً ان اسطنبول تحاول التوفيق بين عدد من المحددات الاساسية الداخلية والخارجية لسياستها الخارجية: 1- وجود عثماني تاريخي في كوسوفو، لأن "قوصوة" العثمانية تعني الكثير للأتراك اذ جرت فيها المعركة الاسطورية في 1389م وسقط هناك السلطان مراد الاول، حيث لا يزال ضريحه يشهد بهيبة المعركة، كما وسقط الكثير من الجنود الاتراك حتى انه يقال ان العلم التركي الحالي استمد لونه الاحمر من الدماء الكثيرة التي سفحت في تلك المعركة. 2- استمرار وجود تركي في كوسوفو مع انه ضئيل ولا يقارن مع البلدان المجاورة بلغاريا ومقدونيا، نتيجة للحكم العثماني الطويل للبلقان الذي دام حوالى 500 سنة، اذ ان هذا الوجود يتضاءل كلما اتجهنا من الشرق بلغاريا الى الغرب البوسنة وألبانيا اذ يصبح رمزياً وفي هذا الاطار كان الوجود الدولي في كوسوفو الاقرب الى الغرب يتضاءل بدوره نتيجة للظروف الجديدة التي وجد فيها الاتراك/ الألبان انفسهم في دولة لا ترحب بهم كثيراً سواء في يوغسلافيا الملكية 1918-1941 او في بدايات يوغسلافيا الجمهورية 1945-1966 ما ادى الى هجرة مئات الألوف من الاتراك والألبان الى تركيا. 3- وجود ألباني مؤثر في تركيا اذ يقدر عدد الالبان او ذوي الاصول الالبانية في تركيا بحوالى المليون، كان بعضهم في تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية وجاء الآخرون على شكل موجات هجرة من كوسوفو ومقدونيا وجنوب صربيا بريشيفو وغيرها خلال 1912-1966. وبرز الكثير منهم في المؤسسات العسكرية - السياسية منهم كنعان ايفرن الذي قاد انقلاب 1980 واصبح رئيساً للجمهورية والاقتصادية والاعلامية، واصبحوا يشكلون معاً مجموعة ضغط لا بأس بها. 4- تزامن تفاقم الوضع في كوسوفو خلال الثمانينات مع تضخم كابوس "الارهاب" في تركيا الذي اصبح يرتبط بالأقلية الكردية المتهمة بالسعي للانفصال وتقويض اساس الدولة التركية، وهو ما كانت بلغراد تتهم به الاقلية الالبانية في يوغسلافيا. 5- تأكيد تركي على حل المشكلات القائمة في البلقان بما في ذلك مشكلة كوسوفو ضمن الحدود القائمة. وفي هذا الاطار كان الموقف التركي من التوجه الالباني للاستقلال عن صربيا - يوغسلافيا يأخذ في الاعتبار وضع الاكراد في تركيا اكثر مما يُعنى بوضع الالبان في يوغسلافيا. 6- تنامي دور جديد للحلف الاطلسي في اوربا الجنوبية الشرقية الذي وجد فرصته المنشودة في كوسوفو ليعبر عن ذلك بميثاق جدي في مناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه. وفي هذا الاطار كانت تركيا تتحرك بحماس ضمن الحلف الاطلسي، الذي وفر للجيش الذي يحمل العلم العثماني فرصة ان يعود الى "قوصوه" بعد حوالى 80 سنة من هزيمته امام الجيش الصربي. وهكذا مع تصاعد العنف في كوسوفو في ربيع 1998 بدأ الموقف التركي يعبر عن نفسه بشكل توفيقي بين هذه المحددات. فبعد ان دان الناطق باسم الخارجية الاميركية روبرت جيلبارد "الاعمال الارهابية" ل"جيش تحرير كوسوفا" لم يتوان الرئىس التركي سليمان ديميريل عن التأكيد في رسالة بعث بها الى الرئىس "سلوبودان ميلوشيفيتش في 19 آذار مارس 1998 ان "تركيا صاحبة موقف قاطع وحاسم في موضوع الارهاب". وفي ما يتعلق بمصير "جمهورية كوسوفا" التي اعلنها الالبان ولم تعترف بها سوى البانيا في عهد صالح بريشا اكد وزير الخارجية التركي اسماعيل جم ضرورة ايجاد حل لمشكلة كوسوفو ضمن حدود الاتحاد اليوغسلافي، وصرح في 8 حزيران يونيو 1998 انه "تجب اعاقة رسم حدود المنطقة من جديد". ولكن بعد تفاقم الوضع في كوسوفو وبدء التدخل الدولي شاركت تركيا كغيرها من دول الحلف الاطلسي في الحرب التي انتهت الى انسحاب القوات الصربية من كوسوفو ودخول قوات الحلف بما فيها قوة تركية الى كوسوفو في حزيران 1999. وخلال اقل من عام كان على تركيا ان تنشغل بمشكلات الاقلية التركية مع الغالبية الالبانية في كوسوفو بدلاً من مشكلات الاقلية الالبانية مع الغالبية الصربية في يوغسلافيا. وفي الواقع عمدت بلغراد بعد إلغاء الحكم الذاتي في كوسوفو في 1989 واقصاء الالبان عن ادارة الاقليم الى سياسة الاعتماد على الاقليات الاخرى وخصوصاً الصرب والاتراك والبوشناق والغجر، التي "تضخمت" بفضل هذه السياسة التي كانت تهدف الى تحجيم الغالبية الالبانية في الاقليم. ولكن، وكما يحدث في مثل هذه الحالات، كان لمثل هذا "التعاون" مع بلغراد من دفع الثمن بعد ان "تحررت" كوسوفو وانفجرت مشاعر الانتقام ضد الذين كانوا "يتعاونون" مع بلغراد في العهد السابق. وعلى رغم ان هذا الموقف الجديد انعكس على الصرب والغجر والبشانقة اكثر مما انعكس على الاتراك، لاعتبارات عدة، الا ان هذا الوضع اخذ يفرض نفسه على العلاقات التركية - الالبانية، وتحديداً على وضعية الاقلية التركية في كوسوفو وموقف تركيا ازاء ذلك. واخذت الاقلية التركية التي تمثل اقل من 1 في المئة من السكان التي انتعشت من جديد برؤية تركيا تعود من جديد الى كوسوفو تطالب بالمزيد من الحقوق والتمثيل في الادارة الجديدة التي اقيمت نتيجة للتدخل الدولي. وفي هذا الاطار كان هناك تشديد على اعتبار التركية "لغة رسمية" في كوسوفو. ويذكر ان الاقلية التركية كانت ولا تزال تتمتع بتعليم تركي لأفرادها بما في ذلك قسم للدراسات التركية في جامعة بريشتينا لتخريج معلمي المدارس، واصدار صحف ومجلات باللغة التركية، واستخدام "رسمي" للغة التركية على المستوى المحلي في المناطق التي تشكل فيها نسبة كبيرة بريزرن وماموشا وغيرها. الا ان الطلب بأن تكون التركية "لغة رسمية" على مستوى كوسوفو له شأن آخر. لذلك لم يأت رفض ذلك من الالبان فقط وانما من مسؤولي الادارة الدولية ايضاً. واعتبر رئيس بعثة منظمة الامن والتعاون في اوروبا دان ايفرتس ان هذا الطلب "مبالغ فيه". واعترف ايفرتس انه تشاور مع المنظمات التي تضع المعايير الدولية حول هذه القضايا كالمجلس الاوروبي ومنظمة الامن والتعاون في اوروبا، التي تعتبر ان لغة اقلية ما تعد رسمية فقط في تلك البلديات التي تشكل فيها تلك الاقلية نسبة كبيرة. واخذت هذه القضية، وغيرها من القضايا تؤدي الى فرز اتجاهين داخل الاقلية التركية: اتجاه متشدد يستقوي بتركيا ويأمل بتدخلها في هذا المجال للضغط على الادارة الدولية، واتجاه معتدل يأمل بتحصيل مزيد من الحقوق بالتعاون مع الالبان في كوسوفو. وتصاعد هذا الموقف خلال شهر تموز يوليو الماضي في شكل واضح. فقد ذهب وفد تركي يمثل الاتجاه المتشدد الى تركيا، واتصل بالمسؤولين ووسائل الاعلام هناك وقدم مذكرة رسمية الى الحكومة تطالبها بالتحرك لحماية الاقلية التركية واتخاذ موقف متشدد من الادارة الدولية. وفعلاً وجه وزير الخارجية اسماعيل جم دعوة رسمية الى رئيس الادارة الدولية برنارد كوشنر لزيارة تركيا في نهاية تموز الاحد 30/7/1000. ويلاحظ هنا ان موقف تركيا عشية وصول كوشنر كان يتسم بالتشدد، اذ طالب اسماعيل جم في 28/7/2000 الادارة الدولية بحماية الاقلية التركية ولمح بتهديد مبطن الى نتيجة تجاهل ذلك بالقول: "ان تجاهل هذه الحقوق سيؤثر على مستقبل كوسوفو" تشيك 29/7/2000. ولكن بعد وصول كوشنر الى انقرة بدا الموقف التركي بحاجة الى توضيحات نقلها كوشنر. وصرح جم إثر اللقاء "ان تركيا مهتمة كثيراً بالحفاظ على السلام في كوسوفو، ولكنها قلقة لوضع الاقلية التركية هناك". وفي غضون ذلك دان الاتجاه المعتدل الذي يتعاون اكثر مع الالبان، متهماً اياه بأنه يعمل على شق الاقلية التركية واتباع سياسة تضر بمستقبل كوسوفو. وانتقد رئيس الحزب الشعبي التركي سيزائير شعيب في لقاء مع اذاعة "اوروبا الحرة" في 31/7/2000 موقف السفير التركي في بلغراد الذي اتهمه باتباع سياسة شق وتأييد الاتجاه المتطرف فيها. والاهم من هذا ان شعيب اتهم السفير ايضاً بأنه يؤيد بقاء كوسوفو ضمن صربيا - يوغسلافيا، وهو ما يثير حساسيات خصوصاً في الوسط الالباني. ويذكر ان الحزب الشعبي التركي تأسس في 1989 وعارض آنذاك السياسة الصربية في كوسوفو، واكد رئيسه في هذا اللقاء انه يدعو الى التعايش والى تأكيد حقوق الاقلية التركية في الحفاظ على لغتها وادبها وثقافتها وتمتعها ببرامج اذاعية وتلفزيونية خاصة بها تشيك 1/8/2000. وفي الواقع كانت زيارة كوشنر الى تركيا مناسبة للتساؤل عن ابعاد وآفاق الموقف التركي من حقوق الاقلية التركية في كوسوفو. فتركيا لم يعد لديها كابوس "الارهاب" بعد تطويع اوجلان، واوروبا الآن تطالب اكثر باحترام الحقوق الثقافية للأقلية الكردية في تركيا التي لا تقارن من حيث الحجم بالأقلية التركية في كوسوفو. وبعبارة اخرى إن تركيا لا يمكنها الآن ضمن سعيها للتوجه الى اوروبا ان تطالب بحقوق "مبالغ فيها" على حد تعبير ايفرتس للأقلية التركية في كوسوفو وتتجاهل الحقوق الاساسية للأقلية الكردية فيها. * مدير معهد بيت الحكمة، جامعة آل البيت، الأردن.