يمثل صدور الكتاب المرجعي لأحمد داود اوغلو «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في السياسة الخارجية» في اللغة العربية (2010) بعد عشر سنوات على صدوره في التركية (2001) مناسبة للتعرّف الى الاطار النظري الجديد الذي أصبح يلهم السياسة الخارجية التركية بعد وصول «حزب العدالة والتنمية» الى الحكم في 2002، وذلك بعد اختيار داود أوغلو مستشاراً لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية ثم وزيراً للخارجية منذ 2008، وعلى ما تحقق وتغير في السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الفاصلة بين صدور الطبعة التركية والترجمة العربية. يكشف داود أوغلو في مراجعة تاريخية ورؤية سياسية واقعية وصراحة غير ديبلوماسية الانقلاب الذي حصل في السياسة الخارجية التركية بالاستناد الى التمييز بين الاهمية الجيوسياسية والاهمية الجيوثقافية للمناطق المحيطة بتركيا، ومنها بلاد البلقان وبلاد الشام، وتأثيرها على دور تركيا الحديثة في المنطقة خلال قرن تقريباً من وجودها، وبالتحديد بين الكمالية التي هيمنت على السياسة الخارجية معظم القرن الفائت وبين الاردوغانية (إذا صحّ التعبير) التي حملت معها مفاهيم مغايرة بالنسبة الى دور الاقليات أو الجماعات المرتبطة تاريخياً بالميراث المشترك (السلجوقي العثماني). صحيح أن الكمالية الصاعدة في السنوات الاخيرة للسلطنة/ الخلافة العثمانية قد بنت لنفسها سمعة جيدة في العالم الاسلامي بمقاومتها الاحتلال الاوروبي (الانكليزي والفرنسي والايطالي واليوناني)، إلا أنها سرعان ما انكفأت عن ذلك بتبني مرجعية جديدة (قومية) تضحي بالميراث التاريخي المشترك مع الاقليات والشعوب المجاورة وتؤسس لعلاقات جديدة مع الدول الاوروبية التي كانت تتصارع معها. وفي كتابه المذكور يجمل داود أوغلو هذه المرجعية الكمالية الجديدة بكونها تقوم على مفهومين رئيسين : 1- أن تكون الدولة التي سيتم تأسيسها بعد الحرب العالمية الاولى، وبعد تراجع حدودها الى منطقة الاناضول، على عكس ما كانت عليه الدولة العثمانية، أي أن تأخذ صفة اكثر تجانساً وتقوم على القومية في شكل أساسي. 2- إن الاعباء التي حملتها الدولة العثمانية على عاتقها لقرون والمتمثلة في مسؤوليتها عن العالم الاسلامي لا تستطيع تركيا بخصائصها أن تتحملها، كما أن تركيا لن تستطيع تحمل الاعباء التي تنتج عن هذا التمثيل. وكان هذا من الدواعي الاساسية التي أدت الى إلغاء الخلافة العثمانية. وفي هذا السياق يمكن فهم الانقلاب الذي حصل مع معاهدة لوزان (1923)، التي تعتبر الاساس الجيوسياسي والقانوني الدولي للدولة التركية الحديثة، وبالتحديد مع اتفاقية تبادل الاقليات التي اعتبرها الفقيه القانوني الصربي إليا برجيتش في كتابه «حماية الاقليات» (بلغراد 1933) سابقة قانونية في العلاقات الدولية و «مجزرة» بحق الاقليات في تركيا واليونان. فقد نصّت تلك الاتفاقية بين تركيا واليونان على تبادل السكان بينهما للتخلص من الميراث العثماني، حيث هاجر أكثر من مليون يوناني من تركيا الى اليونان وحوالى 300 ألف مسلم من اليونان الى تركيا، وذلك لاجل خلق «دولة قومية متجانسة أكثر» هنا وهناك. ومع توجّه مصطفى كمال لتحسين علاقاته مع الدول البلقانية في شكل خاص، والدول الاوروبية في شكل عام ضمن مشروعه للانسلاخ عن الشرق والالتحاق بالغرب، فقد عقدت تركيا عدة اتفاقات مع الدول البلقانية التي توسعت على حساب الدولة العثمانية في حرب 1912 (رومانيا وبلغاريا واليونان وصربيا / يوغسلافيا) لتتخلص تلك الدول من ملايين المسلمين بحجة أنهم من «الاتراك» أو من بقايا الدولة العثمانية. وفي هذا السياق فقد وقّعت بالاحرف الاولى في صيف 1938 اتفاقية بين تركيا ويوغسلافيا، اتاحت ليوغسلافيا التخلص من معظم المسلمين الموجودين في الجنوب (مقدونيا وكوسوفو) بحجة أنهم من «الاتراك» مع أنهم ليسوا كذلك. ومع أن موت مصطفى كمال (1938) واندلاع الحرب العالمية الثانية (1939) جمّد تفعيل هذه الاتفاقية إلا أن تركيا استمرت بلعب هذا الدور السلبي بعد الحرب العالمية الثانية على رغم أن النظام الملكي في يوغسلافيا تغير وأصبحت جمهورية تحت حكم الحزب الشيوعي. فقد تمّ تفعيل بنود اتفاقية 1938 بصمت خلال خمسينات وستينات القرن العشرين، حيث هاجر الى تركيا حوالى 300 الف مسلم من مقدونيا وكوسوفو والبوسنة. ومع أن تركيا عادت للعب دور جديد في البلقان مع انهيار الاتحاد السوفياتي والانظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية إلا أن هذا الدور كان تابعاً بحكم عضوية تركيا في حلف شمال الاطلسي، الذي أخذ يعمل على تعبئة الفراغ في أوروبا الشرقية بعد انهيار حلف وارسو. ومع أن العلم التركي عاد في صيف 1999 الى كوسوفو، حيث تقول الرواية الشعبية أنه استمدّ لونه الاحمر من الدماء العثمانية التي سفحت في معركة كوسوفو 1389، إلا أن داود أوغلو يقول الآن بصراحة أن تلك الحرب التي شاركت فيها تركيا «لم يكن السبب خلفها هو التصفية العرقية التي قام بها الصرب، بل أن الهدف الاساسي للعملية كان إضعاف النظام الدفاعي لصربيا الذي يهدد قوة الردع لحلف شمال الاطلسي» (ص 260). ولكن مع التمييز الجديد لداود أوغلو بين «الاهمية الجيوسياسية» و «الاهمية الجيوثقافية» للبلقان، الذي كان حتى سقوط الدولة العثمانية يعتبر ضمن «الشرق الادنى» مما يؤكد المفهوم الجيوثقافي وليس الجيوسياسي لهذا التعبير، نجد أن السياسة التركية الجديدة في البلقان بعد 2002 تسير بالفعل كما نظّر لها داود أوغلو في كتابه الصادر في 2001. فمع انتقاده الصريح للسياسات التركية السابقة التي نظرت الى الاقليات المسلمة في البلقان «على أنها عبء على السياسة الخارجية وحاولت تهجير هذه العناصر من البلقان الى تركيا» يطرح داود أوغلو التوجه المعاكس الذي يربط السياسة التركية الخارجية بالمسلمين هناك سواء كانوا أقليات أو أغلبيات ويقول إن «الاقليات التركية والمسلمة في بلغاريا واليونان ومقدونيا والسنجق وكوسوفو ورومانيا تعتبر عناصر مهمة في صنع السياسة التركية المتعلقة بالبلقان». ونظراً الى أن بعض المسلمين هناك يشكل غالبية في بعض الدول البلقانية (البوسنة وألبانيا وكوسوفو) فإن داود أوغلو يحدد «هدف السياسة الخارجية التركية على المدى القريب والمتوسط في تحقيق أمرين اثنين»: 1- دعم الاستقرار في البوسنة وألبانيا (على اعتبار أن كوسوفو لم تكن قد استقلت حتى انجاز الكتاب). 2- تشكيل ارضية قانونية توفر للاقليات الاثنية في المنطقة مظلة أمنية. وبالفعل فقد تميّزت سياسة تركيا تجاه الدول البلقانية بعد 2002 بانعطاف واضح خدم الاقليات والاغلبيات المسلمة وعزّز دور تركيا كوسيط بين الدول التي تعاني من مشاكل والتي يمثل المسلمون طرفاً فيها (صربيا والبوسنة وكوسوفو). وفي هذا السياق كان من الملاحظ انتهاج سياسة جديدة تجمع بين الاستثمار الاقتصادي والثقافي في مناطق المسلمين (مقدونيا الغربية والسنجق الخ) والتوسط لتعزيز الاستقرار في بؤر الازمات (بين صربيا والبوسنة وبين صربيا وكوسوفو). وبالمقارنة مع بلاد البلقان فإن بلاد الشام تمثل أيضاً جزءاً من الميراث السلجوقي العثماني، وهي لذلك تتميز أيضاً بالاقليات التي وجدت ضمن الحدود الجديدة بعد انهيار الدولة العثمانية في 1918 (الاتراك والارمن والشركس الخ). وعلى رغم ذلك فإن داود أوغلو لا يتطرق الى موضوع الاقليات ضمن المشاكل التي كانت وراء توتر العلاقات بين تركيا وسورية حتى عام 2000، بل أنه يعيد هذا التوتر الى ميراث الحرب الباردة (عضوية تركيا في حلف الاطلسي وعلاقة سورية الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي) ودور الدول المجاورة في تسخين المشاكل كلما تبرد (أرمينيا مع سورية واسرائيل مع تركيا). ولكن الاقلية الوحيدة التي يهتم بها داود أوغلو لم تكن الاقلية التركية في سورية، التي لا تحظى بما تحظى به الاقلية الارمنية من مؤسسات تعليمية وثقافية، بل الاقلية الكردية التي كانت تعتبر احتياطاً لحزب العمال الكردي الذي يقود العمليات المسلحة ضد تركيا انطلاقاً من قواعد له في سورية وبحكم وجود قائده عبد الله اوجلان هناك. ومع حل هذا الاشكال (اعتقال اوجلان وتصفية قواعد الحزب في سورية) أمكن للعلاقات التركية - السورية أن تنطلق بعد 2002 لتصل الى «التعاون الاستراتيجي» بين الدولتين في السنوات الاخيرة. إلا أن غزو العراق في 2003 وبروز احتمال قيام كيان كردي في شمال العراق خلق تحدياً جديداً لتركيا وحتى توتراً صامتاً في العلاقات التركية - الاميركية الى أن استوعبت القيادة التركية الموقف ودشنت مرحلة جديدة لحل المسألة الكردية على مستوى دول المنطقة وليس على أساس دولة كردية في المنطقة. وقد تبلور هذا في انفتاح تدريجي على الاقلية الكردية في تركيا ومنح الاكراد حقوقهم الثقافية (الحق في تعلم اللغة الكردية وإنشاء محطات اذاعية وتلفزيونية الخ). ولكن الاهم أن تركيا أخذت تضغط أيضاً على سورية في إطار العلاقات المتنامية للانفتاح على الاقلية الكردية لديها لأن حرمان الاكراد في سورية من حقوقهم الثقافية، وحتى من جنسيتهم السورية بالنسبة للبعض، كان يدفع بهم للانضمام الى حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا «منظمة ارهابية»، حيث تشير المصادر التركية الى أن حوالى نصف أعضاء هذا الحزب جاؤوا اليه من سورية. ولذلك لم يأت المرسوم الذي أصدره الرئيس الاسد لمنح الاكراد الجنسية السورية والوعد باعتبار يوم النوروز عيداً وطنياً في مطلع نيسان 2011 تحت ضغط التظاهرات التي لم تكن قد انطلقت بعد في المناطق التي يتمركز فيها الاكراد في شمال شرقي سورية، بقدر ما جاء استجابة ل «التمنيات التركية». وبالمقارنة مع سورية نجد أن تركيا بعد 2002 تدخل بزخم الاقلية التركية في لبنان في أجندة سياستها الخارجية، مع أنها متواضعة مقارنة بما هو موجود في سورية. وهكذا لم تكن صدفة أن يقوم داود أوغلو خلال زيارته الرسمية لبنان في تموز 2009 بجولة في منطقة عكار التي تتمركز فيها الاقلية التركية (حوالي 6 آلاف) والتي بدأت تشهد استثمارات تركية لتحسين الوضع الاجتماعي وتعزيز الوجود الثقافي لها. وقد حرص أردوغان بدوره خلال زيارته لبنان في تشرين الثاني 2010 على الذهاب الى عكار وتفقد أحوال الاقلية التركية هناك، وهو ما يشكّل سابقة لها مدلولها في علاقات تركيا مع بلاد الشام يمكن أن تتطور أكثر في السنوات المقبلة لتعزيز العلاقات أكثر بين الطرفين.