أعدّت مجلة "القافلة" الصادرة عن شركة "أرامكو" في الظهران المملكة العربية السعودية في عددها الجديد 3 ملفاً عن "ورد الطائف" هو عبارة عن بحث علمي مرفق بصور جميلة، علاوة على مواضيع اخرى ومقالات وقصائد ومنها: مراعاة القرآن الكريم لطبيعة النفس البشرية محمد رجاء عبدالمتجلّي، البازلت يعاد اكتشافه من جديد مصطفى يعقوب عبدالنبي، اثر الموسيقى العربية في الموسيقى الاسبانية غازي حاتم... ونظراً الى فرادة موضوع "ورد الطائف" وطرافته ننشر جزءاً منه بغية إلقاء الضوء على "الطبيعة الوردية" التي تتميّز بها مدينة الطائف. والبحث من كتابة الطبيب والباحث ميشيل ر. هيوورد وتصويره. وترجمه الى العربية محمد عبدالقادر الفقي. ينتمي ورد الطائف الى فصيلة "متفردة" ببهائها بين الازهار. فقد اخذ من القرنفل لونه الرقيق، ومن الطيب عطره الانيق! ولهذا، فإن منطقتي "الشفا" و"الهدا" بالطائف تتيهان به، فهو في كل عام يغيّر حالها واحوال القرى المجاورة لها الى رياض غناء تفوح بالروائح الزكية و"العبق الفذ"! ولا يعرف بالتحديد متى بدأت زراعة الازهار في منطقة الطائف، فبينما تشير بعض المراجع الحديثة الى ان هذه الزراعة اخذت طريقها الى المنطقة منذ العصر العثماني، نجد مناحي ضاوي القثامي في كتابه تاريخ الطائف قديماً وحديثاً يشير الى ان ماء الورد كان من بين السلع التي تحمل من الطائف الى الشام في العصر الجاهلي، وهذا يعني ان زراعة الورد تعود الى اكثر من اربعة عشر قرناً، ولكن "ميشيل ر. هيوورد" يقول ان زراعة الورد الدمشقي ذي البتلات الثلاثين قد استمرت منذ ثلاثة قرون، وان عملية تصنيعه الى العطر الثمين وماء الورد كانت تتم خلال تلك الفترة. ولا يعرف احد بالتأكيد كيف وصلت الوردة الدمشقية ذات البتلات الثلاثين اول مرة الى الطائف والدوافع التي حدت بالمزارعين في المنطقة الى غرسها والعناية بها. وربما يكون قرب الطائف من بلد الله الامين سبباً في ذلك، فلعل احد حجاج بيت الله الحرام احضرها معه. وربما يكون الاتراك العثمانيون - الذين خصع الحجاز لحكمهم من القرن السادس عشر الميلادي - هم الذين نقلوا هذه الوردة من البلقان الى الطائف. ويستشهد القائلون بذلك بالتماثل الكبير بين وردة الطائف ووردة كازانلك البلغارية. وهذه الوردة الاخيرة ذات اسم تركي يعني انها "مناسبة لقدور التقطير". واياً كان مصدر وردة الطائف، فإن هذه الزهرة الرقيقة ما كان لها انت تنمو وتزدهر في تلك المنطقة لولا ملاءمة المناخ والتربة لها ولولا عناية المزارعين بها. ومنطقة الطائف - كما هو معروف - تتسم بمناخها المعتدل، وقد وصفها ياقوت الحموي بأنها "طيبة الهواء شمالية، وربما تجمد فيها الماء"، ولهذا لا يعهد الظاعن فيها شدة القيظ كما هو حال المدن القريبة منها، مثل مكةالمكرمةوجدة. وقد جعلها ذلك مصيفاً رائعاً منذ الجاهلية، حتى اننا نجد في المعاهدة التي وقعت بين قبيلتي ثقيف وبني عامر نصاً يسمح لبني عامر بقضاء فترة الصيف في الطائف. وتعد الحقول والبساتين المنتشرة في سفوح الجبال والاودية المحيطة بالطائف احدى "سلال الفواكه" في المملكة العربية السعودية. وفي المنطقة الغربية من المدينة يرتفع سطح الارض الى اكثر من ألفي متر 6400 قدم. ونهاية درجة الحرارة الصغرى صفر مئوي، والنهاية العظمى 37 درجة مئوية. ولا شك في ان انخفاض الحرارة واعتدالها، وتوافر المياه الجوفية، ووجود نظم جيدة للري، مع خصوبة التربة الزراعية، ساهمت في ان تكون الطائف "زهرة الحجاز" على حد تعبير خير الدين الزركلي، وان تكون المنطقة كلها "زهرة" المملكة العربية السعودية. ويكتسب ورد الطائف اهمية من دوره في صناعة العطر. وكميات العطر التي تنتج اليوم في الطائف تعد صغيرة نسبياً اذا ما قورنت بما تنتجه بعض الدول التي لها باع طويل في تصدير العطور مثل تركيا وبلغاريا وروسيا والصين والهند والمغرب وايران. ومن الصعوبة تلبية الطلب المتزايد على عطر الطائف في الاسواق، لأن الحصول عليه ليس بالامر الهين. ولهذا فإن سعره المرتفع ورائحته الطيبة كفيلان بجعله هدية ثمينة تحظى بالاعجاب والتقدير. ومن الطبيعي ان يؤثر التقدم العلمي والصناعي في صناعة العطور، وان يدفع بها الى الامام، غير ان الفكرة الاساس التي تقوم عليها عمليات الاستخلاص بالتقطير لا تزال ثابتة. ومنذ اكثر من قرنين كان المزارعون في المناطق المحيطة بالطائف يقطفون الورد في الربيع من كل عام، ويضعونه في اكياس ضخمة، ثم يحكمون اغلاقها، وينقلونها على ظهور الابل الى مكةالمكرمة التي تبعد عن الطائف مسافة تقدر بنحو 65 كليومتراً. وهناك يتولى الصيادلة الهنود مهمة الحصول على العطر من هذا الورد بتقطيره، معتمدين في ذلك على تقنية لا تختلف كثيراً عما هو متبع اليوم. ومن الجدير بالذكر ان هؤلاء الصيادلة برعوا في انتاج نوع متميز من العطر، كانوا يعدونه عن طريق مزج دهن الورد مع زيت خشب الصندل. ومن الطريف ان هذا المزيج العجيب، الذي يجمع بين نوعين من افضل العطور، اصبح الآن نادراً في الاسواق السعودية، وان كان لا يزال متوافراً في الاسواق الهندية. ومنذ نحو قرنين، انتقلت حرفة تقطير الورد من مكةالمكرمة الى الطائف، فأصبحت صناعة العطر على مرمى حجر من مصادر "الورد الخام". وكان من الطبيعي ان يسهم ذلك في رفع كفاية عملية التقطير. فقرب البساتين - التي يزرع فيها الورد - من معامل التقطير لا يسمح للزيوت العطرية السريعة التطاير بالتبخر. ولهذا، ما ان باشرت هذه المعامل في طرح انتاجها في اسواق الحرمين الشريفين حتى بدأت وفود الحجيج والمعتمرين تقبل عليه لتنقل "دهن الورد" الى شتى بقاع العالم الاسلامي. واصبح من المألوف ان يشتري كل حاج قنينة واحدة على الاقل تحتوي على تولة من هذا العطر والتولة تعادل 6،11 غراماً لتكون تذكاراً من الارض المباركة. وكان الحجاج الذين يمرون بالطائف في طريق عودتهم الى بلادهم يعرجون على اسواقها لا سيما هؤلاء الذين كانوا يأتون من الشرق لشراء دهن الورد. ولا يزال طيب الكعبة المشرفة يجلب اساساً من هذا العطر، حيث يستخدم في تعطير الركن اليماني. ويحتفظ دهن الورد الطائفي بقوة شذاه امداً طويلاً، ما دامت القنينة التي تحتوي عليه محكمة الاغلاق. ومن المفارقات العجيبة ان الورد الذي يصنع منه هذا العطر لا تدوم فترة إزهاره غير شهر واحد في العام هو شهر نيسان ابريل. وما ان ينمو الورد ويتفتح حتى يبادر المزارعون الى قطفه، لأنه يذبل بعد ايام اذا ترك في اشجاره. وتبدأ عملية القطف حين يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر، وتتوقف عندما تصبح الشمس على ارتفاع رمح من سطح الارض، اي قبيل السابعة صباحاً. ومن المألوف في هذا الشهر ان ترى الصغار والكبار يحملون السلال في ايديهم، وهم يندفعون زرافات ووحداناً الى مزارع الورد، ليقطفوه قبل ان تشرق شمس الصباح. وفي هذا الجو "العبيري"، اذا قدر لك ان تقيم في منطقة الهدا او الشفا، وفتحت نافذة في السادسة صباحاً، فسوف تغمر انفك رائحة الورد الشذية التي يحملها نسيم الجبل اليك. وسوف تكون مبادرة طيبة منك لو شاركت اخوانك في قطف الورد. ففي مثل هذا الوقت تكون الحاجة ماسة الى كل جهد. فمزارع الورد كثيرة يربو عددها على الالفين، وتأخير عملية القطف يؤدي الى خسائر كبيرة. فبراعم الزهر النضر لا تتفتح الا عند مطلع الفجر. واذا تركت حتى الظهر حيث يصير كل شيء مثل ظله، فإنها تفقد نصف ما كان فيها من زيت فواح. وتبلغ شجرة الورد الطائفي ذروة انتاجها في الاسبوع الثالث من شهر نيسان ابريل، ويصل طولها، حين يكتمل نموها الى متر ونصف المتر تقريباً. وتبدأ الشجرة اعطاء زهرها بعد عام من غرسها. وفي فترة الذروة - التي اشرنا اليها - يمكن اقتطاف زهاء مئتي وردة منها في كل صباح. وحين يتقدم العمر بالشجرة، وتبلغ عشرين سنة تقريباً لا ينضب عطاؤها، بل تقدم لصاحبها اكثر من 3000 وردة خلال الموسم الواحد، وما عليه - في مقابل هذا العطاء الكريم - الا ان يكون سباقاً الى الخير، فيشذبها بحكمة في شهر كانون الاول ديسمبر، ويتعهدها بالسماد والري. وحينما تمتلئ السلال بالورد الندي، يسارع صاحبها للحاق بموكب الذاهبين الى احد معامل التقطير. وتمتلك عائلة الغشمري واحداً من هذه المعامل في منطقة الهدا. وافراد هذه العائلة مغرمون بالورد وتصنيع عطره. وهم يقومون باجراء عملية التقطير التي تجري على خطوتين منذ قرون عدة. والمنتجان الرئيسان من هذه العملية هما: ماء الورد، وعطر الورد. وتستخدم قدور خاصة للتسخين غلايات مصنوعة من النحاس ومبطنة بالقصدير، تبلغ سعة القدر الواحد منها 120 لتراً 32 غالوناً اميركياً. وفي الماضي، كانت هذه القدور تسخن باحراق الخشب تحتها، وفي بعض الاحيان، كانوا يستخدمون اقراصاً من روث الابل، لا تسبب اي تلوث، لأنها عديمة الرائحة والدخان. واليوم، يستعمل الغاز وقوداً للتسخين. وللتحضير لعملية التقطير، يسكب في كل قدر نحو خمسين لتراً 13 غالوناً من الماء، وتتسع القدر الواحدة لنحو عشرة آلاف وردة. وتسخن القدر برفق لفترة تتجاوز ست ساعات، ويجمع البخار بواسطة انبيق، وهو عبارة عن خوذة معدنية تشبه فطر عيش الغراب تنطبق باحكام على قدر التسخين، ويخرج من اعلاها انبوب معدني ينحني الى اسفل، حيث يمر خلال خزان من الزنك يحتوي على مياه تبريد. وينساب البخار الناتج من التسخين في الانبوب، وفي اثناء مروره عبر خزان الماء البارد يتكثف ويهبط الى اسفل، حيث يجمع ماء الورد المركز في قوارير زجاجية كبيرة تكون مغلفة بغطاء من الخيزران. واذا تركت هذه القوارير فترة من الزمن فإن دهن الورد يبدأ في التجمع في اعلى القارورة، ويظل ماء الورد تحته. ولكن كمية العطر التي يحصل عليها في عملية التقطير الاولى هذه تكون قليلة، وفي الوقت نفسه فإن اغلب الزيت المتطاير يكون منتشراً داخل ماء الورد. وتعبئ كل قدر قارورة تسمى العروس، ويجب اعادة التقطير مرة ثانية باتباع تقنية التقطير التعاقبي. وهناك نوعان من هذه التقنية: الاول: صب محتويات العروس على مجموعة من الازهار المقطوفة حديثاً، بحيث يمكنها ان تستخلص كمية كبيرة نسبياً من الزيوت القابلة للتطاير، تفوق تلك التي يمكن الحصول عليها باستخدام المياه الساخنة. والثاني: اعادة تقطير محتويات العروس بمفردها اي من دون اضافتها الى ازهار، على ان يتم ذلك ببطء شديد. وسواء استعملنا هذه التقنية ام تلك، فإن الناتج من اعادة التقطير يكون غنياً بالزيوت العطرية. وتسمى القطفة التي يحصل عليها في هذه الحال باسم الثني اي القطفة الثانية. وما ان تنتهي عملية التقطير التعاقبي، حتى يبدأ المشرفون عليها في تبريد المنتج. وتعم البهجة والسرور الجميع حينما تلتحم كريات الزيوت العطرية معاً وترتفع لتعلو سطح ماء الورد، حيث يجري سحبها وتجميعها في وعاء آخر. وفي العادة، يمكن الحصول على اكبر قدر مستطاع من تلك الزيوت اذا بذل القائمون على عملية التقطير التعاقبي جهداً كبيراً في مراحل التقطير والاستخلاص. والعطر - الذي يحصل عليه حديثاً من تلك العملية - لا يعبأ مباشرة في قوارير البيع، ولكنه يترك اياماً عدة حتى تترسب الشوائب والمواد الغروية العالقة به، وتهبط المياه المختلطة به اسفل الزيت. وبعد ذلك يستخلص العطر النقي بعناية ويحقن في قوارير صغيرة، بحيث تحتوي كل قارورة على تولة. ويختلف سعر بيع التولة بحسب الموسم وبحسب مدى الاقبال والطلب عليها. وهو يتفاوت بين 2000 و3000 ريال سعودي 530 - 800 دولار اميركي. وعلى رغم ان هذا السعر يبدو عالياً، فإن الذين يقدرون العطر حق قدره لا يرونه كذلك، فهم يعرفون ان انتاج تولة واحدة من عطر الطائف يتطلب نحو 10000 الى 15000 وردة. والتفاوت في كمية الورد المطلوبة لذلك الانتاج يتوقف على عدد من العوامل المرتبطة اساساً بالأحوال المناخية. فالتقلبات الكبيرة في درجات حرارة الجو، ولا سيما الاختلاف بين ادنى حرارة في الليل واقصى حرارة في النهار، والرطوبة النسبية التي تزيد على 50 في المئة، وهدوء الرياح، هي من العوامل التي تؤدي جمعيها الى تكوين الندى في ساعات الصباح الباكر ما يعجل في زيادة معدل تراكم الزيت العطري ذي الجودة العالية في الوردة. ومن نعم الله على مزارعي الطائف ان هذه العوامل الجوية والاحوال المناخية ثابتة تقريباً الى الحد الذي يساعد على تكوين الزيت العطري وبقائه دافئاً لزجاً غنياً بالعبير الفواح الذي ينم عن ان الوردة تنتمي بحق الى الوردة الدمشقية بلونها القرنفلي الذي يأسر الالباب، وفي الوقت نفسه فإن شذا وردة الطائف يكون مختلطاً بروائح البهار، وقلما يكون مضمخاً بالرائحة التي تشير الى عسل النحل. ويقول بعض الناس ان جودة عطر الطائف تماثل، بل تفوق جودة العطور التي تنتج من زهور مماثلة في البلدان الاخرى ذات التاريخ العريق في هذه الصناعة. واستخداماته المتعددة تشفع له وترقى بمنزلته الى مصاف المنتجات الرئىسة المهمة. فهو يباع لاستخدامه في الكثير من الاغراض الطبية، الى جانب استخدامه في صناعة بعض الاطعمة وفي الطهو، فضلاً عن دوره في الاحتفالات والمناسبات والافراح. ولا يكاد يخلو مطبخ في مختلف انحاء الشرق الاوسط من ماء الورد، وان كان النوع الذي ينتج في الطائف نادر الوجود خارج تلك المدينة، اذ من الصعوبة ان تعثر عليه في الرياض او في المنطقة الشرقية من المملكة. ويكتسب ماء ورد الطائف - وبخاصة "العروس" - اهميته العلاجية من قيمته في الطب الشعبي الذي يجعله مفيداً للقلب والمعدة. ويزداد الاقبال على هذا المنتج - بشكل لافت - خلال ايام شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، اذ يدخل في تجهيز وجبة الافطار وفي صناعة الحلوى، حيث يعطي اطباق الحلوى نكهة مميزة. كما انه يكسب الشاي مذاقاً مميزاً، ويدخل في اعداد "القهوة البيضاء" المفيدة للصحة لخلوها من مادة الكافيين. وإضافة الى ما ذكرناه، فإن ماء الورد يستخدم في اعداد مستحضرات التجميل الشعبية كالكحل الاسود كبريتيد الانتيمون الذي يشيع استخدامه في مختلف انحاء شبه الجزيرة العربية، وغالباً ما يضاف ماء الورد الى مسحوق الكحل لتكوين معجون يستخدم مثل ظلال الجفون، وثمة اعتقاد شعبي انه يشفي من علل البصر والتهابات العيون. ويوضع ماء الورد في مرشات خاصة، لها رقاب طويلة، وقواعد بصلية الشكل. ويشيع استخدام هذه المرشات في انحاء مختلفة من دول العالم الاسلامي وبخاصة في المناسبات الاجتماعية واستقبال الضيوف وحفلات الزفاف، حيث يرش ماء الورد على ايدي الضيوف ووجوههم. ويبدع مصنعو هذه المرشات في تشكيلها وتزيينها، وقد يصنعونها من الفضة، تلبية للطلب المتزايد على النماذج الجميلة منها. وتعد هذه المرشات احد المستلزمات الضرورية للترحيب بالضيوف وحسن استقبالهم. كما انها - في الوقت نفسه - ترمز الى مستوى الثراء والمكانة الاجتماعية لصاحبها. وتحفل المتاحف المنتشرة في بلدان الخليج العربي بتحف فنية من هذه المرشات.