كي لا يجري أي التباس، ولا يقفز الخيال الى الاعتقاد بإمكانية العودة الى "الكفاح المسلح" كما دعا البعض، يجب التنبيه الى أن "لاءات" الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في قمة "كامب ديفيد" هي غير "لاءات" رؤساء الدول العربية في قمة الخرطوم بعد هزيمة حزيران يونيو 1967. "لاءات" الخرطوم ذهبت أدراج الرياح منذ كامب ديفيد -1، بل ربما قبل ذلك وبالتحديد عندما اشتبك العرب في مفاوضات "فك الارتباط" التي قادها وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر. "لاءات" ياسر عرفات هي الأهم لسببين: لأنها تتناول لب موضوع الصراع مع الدولة اليهودية لأول مرة منذ انشائها عام 1948، ولأنها انطلقت من داخل قاعات التفاوض مع الطرف الإسرائيلي وبحضور الراعي الأميركي وليس من خارجها. وربما كان هناك سبب ثالث يؤكد، مع انه اجرائي، على أنه لا سبيل هناك غير التفاوض بغية التوصل الى اتفاق نهائي على التسوية. ورغم مقولته التي لا يفتأ عن ترديدها "القدس العربية هي عاصمة الدولة الفلسطينية شاء من شاء وأبى من أبى"، فإن عرفات أول العارفين أن السبيل الى الاقتراب من تحقيق هذا الهدف هو عبر التفاوض وليس المواجهة التي يتمنى البعض - عن قصد أو حسن نية - الى جره اليها. فاستبدال التفاوض بالمواجهة الآن في ظل موازين قوى يعرف القاصي والداني انها لصالح اسرائيل حتى زمن طويل، مغامرة غبية ستنتهي بصعود المتشددين الأصوليين الى الحكم في اسرائيل، وخطفهم زمام المبادرة من يد عرفات في الشارع الفلسطيني. فعندما اعلن الرئيس الفلسطيني "لاءاته" في قمة كامب ديفيد الاخيرة، كان يدرك أن باب التفاوض مع الإسرائيليين سيبقى مفتوحاً، وهذا ما أكد عليه رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك عند عودته من واشنطن، وكذلك فعل وزير الخارجية المصري عمرو موسى في ختام لقاء عرفات مع الرئيس المصري حسني مبارك يوم الأربعاء الماضي. وقد فُهم من تصريحات موسى أن الفترة القصيرة المقبلة بعد قمة كامب ديفيد تستوجب أعصاباً هادئة وأن ما حصل في كامب ديفيد ليس غير تعطل موقت، إذ ليس من المستبعد توجيه الدعوة الى قمة جديدة قبيل الثالث عشر من أيلول سبتمبر الموعد المحدد للتوقيع على معاهدة الاتفاق النهائي بين الطرفين، الذي يصادف الموعد المحدد من قبل الفلسطينيين لإعلان الدولة المستقلة من جانب واحد. كامب ديفيد-2 لم تفشل تماماً بل حققت بعض النتائج المهمة وأجلت الكثير من الغموض الذي كان يحيط بموقفي المتفاوضين، لا سيما التفاهم على أطر حل معظم المسائل الأخرى. فهي في رأي بعض المحللين الإسرائيليين الفصل الأول من دراما لم تنتهِ. فقد كان من الممكن أن يتم التوقيع على اتفاق مرحلي يستثني مسألة القدس المستعصية، إلا أن عرفات ارتأى عن جدارة أن من الأفضل الخروج من كامب ديفيد من دون أي اتفاق، بدلاً من اتفاق منقوص لا يفيد غير كلينتون الذي يتلاشى نفوذه في ادارة تعد أيامها المتبقية تنازلياً، وباراك المرتبك والمهموم بائتلافه الحكومي ومعرفة ما إذا كان سيبقى رئيساً للوزراء أم لا. وبالمقارنة مع الرئيس الأميركي ورئيس وزراء اسرائيل، فإن الرئيس الفلسطيني دخل الى قمة كامب ديفيد وهو الطرف الأضعف، لكنه خرج منها وهو الأقوى، على الأقل في عيون الفلسطينيين والعرب. ولا شك أن موقف عرفات في كامب ديفيد سيعيد الى قيادته شيئاً من مصداقيتها المفقودة من جراء كثرة التهم الموجهة اليها من سوء الإدارة الى الفساد المتفاقم الخ... ولكن في الوقت نفسه يجب توقع زيادة الضغوط على عرفات للتمسك بإعلان الدولة المستقلة في موعدها المحدد، على رغم الطريق المسدود الذي وصلت اليه المفاوضات في كامب ديفيد. فقد هددت اسرائيل قبيل انعقاد القمة بأنها سترد على الاستقلال من طرف واحد، بالإعلان عن ضمها المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة والبالغ عدد سكانها حوالي 180 ألف مستوطن. وإذا ما تم ذلك فعلاً، فالمواجهة بين المدنيين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي تبدو مؤكدة. ولأنها تريد التأكيد على أنها تعني ما تقول، عززت القوات الإسرائيلية مواقعها العسكرية بإرسال عربات مدرعة الى المستعمرات القريبة من غزة وضاعفت دورياتها الاستطلاعية في القدس القديمة، تحسباً لأي احتمال في الأسابيع المقبلة. من ناحيته، يعود باراك الى القدس وهو خالي الوفاض بعد أن فشل في تحقيق مهمته ليصبح "رئيس وزراء السلام" كما يحب معسكر السلام الإسرائيلي تسميته، على رغم نجاحه التام تقريباً في الانسحاب من جنوبلبنان بسرعة في شهر أيار مايو الفائت. ولكن قد يجد نفسه في وضع أفضل مما كان عليه قبيل مغادرته الى كامب ديفيد، لاعادة تشكيل ائتلافه الحكومي بشكل ينسجم مع تطلعات باراك ويتماهى مع سياسته. إلا أن باراك في هذه الأثناء يواجه معارضة يمينية قوية قادرة على التلاعب بمشاعر الرأي العام الإسرائيلي، إذا لم يسارع "معسكر السلام" المؤيد لرئيس وزراء اسرائيل الى ملء الفراغ السياسي بعد فشل قمة كامب ديفيد، واستعادة زمام المبادرة. فعلى رغم عودة باراك منها محصناً بموقف عدم تجاوز "الخطوط الحمر"، وخصوصاً التنازل عن جزء من سيادة القدس، فإن أحد أبرز قادة اليمين الإسرائيلي وهو وزير الدفاع السابق موشي أرينز، وجه اتهامات خطيرة الى باراك في مقال نشره في صحيفة "هاآرتس" بحجة أنه "فرّط بمصالح اسرائيل من خلال تنازلاته العديدة التي باتت سابقة". ولعل كلام آرينز يعكس أهم انجاز حققته قمة كامب ديفيد، وهو مناقشة الإسرائيليين لأول مرة مع الفلسطينيين قضايا كانوا يعتبرونها في السابق "محرمات محظورة". فهذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها اسرائيليون بأن هناك آخرين غير اليهود لهم حصة في القدس، وأن هناك لاجئين كانوا يعيشون في فلسطين قبل قيام الدولية اليهودية يجري البحث في موضوع حقهم في العودة.