مصير العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية الذي يُصنع في قمة كامب ديفيد على الصعيدين الآني والمستقبلي يعتمد على العلاقة بين القادة وصانعي القرارات من جهة، وبين الرأي العام والشعبين الإسرائيلي والفلسطيني - العربي من جهة أخرى. أيهما يدفع أو يُثقل الآخر، القادة أو الشعوب؟ وما هي حقيقة خيارات السياسيين والرأي العام؟ هذه أسئلة تصب في عصب نتائج القمة، إذ تدخل فيها اعتبارات عديدة من الطموحات السياسية الشخصية للأفراد إلى مدى الاستعداد الصادق لدى الإسرائيليين والعرب للتوصل إلى تعايش سلمي. إنها قمة امتحان القادة واختبار الشعوب. والمسؤولية تقع على عاتق الطرفين في المعسكرين الفلسطيني - العربي والإسرائيلي. فهذه فرصة وحادثة نادرة تتشابك فيها إرادة القيادات والشعوب من أجل اتخاذ قرارات مصيرية، وعلى كلاهما استحقاقات. رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك ليس في حاجة لأولئك الأحزاب والأفراد الذين فرّوا عن القرارات الصعبة عشية قمة كامب ديفيد كي يأخذ زمام القيادة التاريخية. إنهم أجزاء في لعبة سياسية تتناثر وتنحسر لو أقدم باراك على اطلاق إسرائيل من أسر نفسها في حال الحصار والاحتلال لشعب في خاصرتها. الخطر الحقيقي ينبع من الرأي العام الإسرائيلي الذي يقع الآن تحت المجهر ليقرر إذا ما كان حقاً يريد السلام مع الفلسطينيين والعرب، أو ان كان يريد الانتظار. وإذا كان معدن باراك مجهولاً في صميمه عند اتخاذ القرارات، ان المعدن الإسرائيلي على النطاق الشعبي أكثر غموضاً وتردداً، مما يطرح السؤال المهم: من يمتلك مفاتيح الانزواء أو الانطلاق؟ أهو الرجل في كامب ديفيد وفريقه، أو الأكثرية الساحقة في إسرائيل؟ يُقال إن هذه الأكثرية جاهزة منذ زمن لسلام مع العرب، السوريين منهم واللبنانيين والفلسطينيين، وراغبة جداً في تطوير السلام مع المصريين والأردنيين، ومتشوقة إلى سلام مع بقية العرب في الخليج والشرق الأوسط وشمال افريقيا. يقال إنها فوضت باراك باتمام السلام الشامل عندما انتخبته وطردت سلفه بنيامين نتانياهو من السلطة. يقال إنها أكثرية صامتة ستنفجر دعماً لباراك لو تجرأ على القيادة وأقدم على السلام حتى وإن تضمن ذلك "تنازلات" و"ثمناً" كبيراً. ويقال إن الأكثرية تدرك ان استمرار الاحتلال سيؤدي إلى هلاك إسرائيل في نهاية المطاف في الصميم وترى ان مصلحتها تقتضي الاختيار بين الدولة اليهودية وبين الديموقراطية بمعناها الطبيعي، وهذا يتطلب أن تتخلص إسرائيل من أعباء احتلالها الأراضي الفلسطينية. هذا ما يقال، لكنه ليس ملموساً بالدرجة التي تتطلبها المناسبة. فالشكوك والكراهية والثقة المفقودة ما زالت تهيمن على المشاعر والاعتبارات. هناك افرازات، ودية أو عدائية، للتداخل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تبدو ظاهرياً أنها وصلت نقطة الحسم لكنها في الصميم ما زالت متناقضة ومترددة. ولربما يشكل هذا التناقض والتردد لدى الإسرائيليين الثقل الأكبر الذي يكبّل ايهود باراك في قمة كامب ديفيد حتى ولو كان هو افتراضاً في جهوزية تامة لاتمام صفقة السلام. ضمن محاولته استنباض الرأي العام الإسرائيلي وتهيئته عشية القمة، قال باراك "نواجه اعظم اللحظات في تاريخ إسرائيل وأكثرها تعقيداً". فيما قال رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض المقرب من باراك إن "هذه لحظة الصدق". والكلام عن البيت والعمق الإسرائيلي. فصنع السلام أو استمرار حال النزاع مع الجيرة العربية له بعد مختلف عن مصير العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية. وإذا كان الإسرائيلي فعلاً في وارد تسديد استحقاقات الطمأنينة، عليه ان يعدل في حق الفلسطيني ويحترم ألمه ويكف عن الطمع والغطرسة في علاقته به. وإذا كان في وارد مجرد الاضطرار للتعاطي مع واقع التداخل الفلسطيني - الإسرائيلي، على الإسرائيلي اتخاذ القرارات الصعبة في أي حال، ليس من أجل الفلسطيني، وإنما تلبية لحاجة إسرائيلية. وفي الحالتين، ان الفرز الواقعي لما وصلت إليه عملية "أوسلو" بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو قيام الدولة الفلسطينية. فقد حدث الاختراق النفسي والسياسي والعملي، وبات قيام الدولة الفلسطينية واقعاً في انتظار الإعلان. أما طبيعة تلك الدولة ونوعية علاقتها بإسرائيل، فهو الأمر الذي يتراقص حوله الإسرائيليون، قيادة ورأياً عاماً. ولأن الإسرائيليين غير واثقين بصحة قرار التعايش السلمي مع الفلسطينيين في هذا المنعطف، أو بجهوزية الطرف الفلسطيني لهذا التعايش، قد تبقى "لحظة الصدق" مؤجلة بغض النظر عما يصدر عن قمة كامب ديفيد. وهذه القمة لن تغيّر الواقع السياسي "لأن هناك قوى، داخل الطرفين، تخشى وتخاف من اتفاقية نهائية" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حسب رئيس "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك، لزلي غلب. فالشعور السائد هو ان المغامرة كبيرة وخطيرة في هذه المرحلة من العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية والسبب، حسب غلب، ان "بعد كل المصافحات والتواقيع، ليس هناك القدر اللازم من الثقة الذي يمكن من الخطوة الأخيرة". في غياب تلك الثقة ستستمر العملية التهادنية عبر اتفاقيات مرحلية تتجنب مواجهة الخلافات والاختلافات الجذرية المستمرة، وأبرزها ان القاعدة الشعبية، الإسرائيلية والفلسطينية - العربية، ليست واضحة في دعمها القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية، بما يعزز قدرة المفاوضين على القيادة بمعناها الحقيقي، من أجل اتخاذ القرارات الحاسمة المعنية بصورة العلاقة النهائية بين الشعبين. الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يقع تحت ضغوط مضاعفة ليس عربياً فقط، وإنما فلسطينياً في الداخل وفي الشتات. قاعدته الشعبية في تشرذم وتخوف وشكوك، جزء منها يرمي عليه التهم، وجزء آخر اللوم والعتب. وإذا كانت هناك أكثرية فلسطينية وعربية تدعم عرفات في مسيرته نحو تحقيق قيام الدولة الفلسطينية والخلاص من الاحتلال، فإنها بمعظمها صامتة تحجب عن المفاوض الفلسطيني زخم الدعم الضروري له في مثل هذه المفاوضات. اختلاف الرأي العربي نحو استراتيجية وتكتيك التفاوض الفلسطيني واضح، ولكل فرد حقه برأيه سيما وأن القضية الفلسطينية لازمت الفكر والعاطفة العربية لخمسين سنة. لكن احترام القرار الفلسطيني، والاختلاف الفلسطيني، والألم الفلسطيني، وصعوبة الخيار الفلسطيني، حق على بقية العرب. فقضية فلسطين لا تخرج فجأة عن "اجماع" عربي أو "تنسيق" عربي أو استراتيجية عربية متماسكة، وبالتالي من حق الفلسطيني، الموافق والمعارض، أن يكون هو المساهم الأول في صنع القرار في شأن القضية الفلسطينية من دون أن يُثقل بالمزايدات أو المناصرات أو حتى المشاعر الطيبة العربية. والمسؤولية العربية تتطلب ان يكون العرب سنداً للفلسطينيين في قراراتهم الصعبة وليس عرقلة أو عبئاً عليها. فإذا كان من الضروري للفلسطينيين، تحت الاحتلال وفي الشتات، احترام آلام بعضهم البعض، ان الضرورة تقتضي ان يحترم العرب الألم الفلسطيني الكامل بعيداً عن التهم والمهاترات وبمعزل عن إلقاء المحاضرات في إضاعة التضحيات. فأية مساهمة عربية، إن لم تكن تنويرية وواقعية، قد تؤذي المفاوض الفلسطيني أمام المفاوض الإسرائيلية. وهذا لا يخدم المصلحة الفلسطينية. وللتأكيد، ليس المطلوب التصديق العربي التلقائي على نوعية وتكتيك المفاوضات الفلسطينية، بشقيها العلني والسري، أو على نتيجة المفاوضات. المطلوب أن تُعطى فرصة الموافقة أو المعارضة للفلسطينيين أولاً، فهم أصحاب الآلام وعليهم عبء الاختيار بين الاتفاق على صيغة نهائية مع إسرائيل إذا وجدوها في صالحهم، وبين انحسار منطق التفاوض ليحل محله منطق المقاومة، بانتفاضة كان، أو بانفجار، بالعودة إلى الكفاح المسلح، أو بالانتظار. قمة كامب ديفيد لن تقدم للفلسطينيين الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية مع حق اللاجئين بالعودة وازالة المستوطنات. فإذا كانت هذه الحصيلة هي مقياس نجاح أو فشل القمة من وجهة النظر العربية، انها لقمة فاشلة. وقمة كامب ديفيد لن تقدم للإسرائيليين القدس الموحدة عاصمة الدولة اليهودية مع إلغاء فلسطينيي الشتات وحقوقهم بالعودة والتعويض. وإذا كانت هذه الحصيلة هي مقياس نجاح أو فشل القمة من وجهة النظر الإسرائيلية، انها لقمة فاشلة. أكبر التحديات التي تواجه المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين في قمة كامب ديفيد تنطلق من مدى استعداد والتزام القادة والقاعدة الشعبية الفلسطينية والإسرائيلية للتوصل إلى نتيجة نهائية واتفاق نهائي. فإذا كانت هذه فعلاً ساعة الحسم، ستنتهي قمة كامب ديفيد بانجازات تاريخية. وإذا حدث اختراق، فإنه سيقوم على حلول وسط وصيغ اخراج ورزمة تنازلات فلسطينية وإسرائيلية. وهذا ليس مستبعداً. وفي حال انتهاء القمة باتفاق، تكون القيادتان الفلسطينية والإسرائيلية اتخذتا قرار القيادة التي تفرض على القاعدتين الشعبيتين حسم التردد ومواجهة الاستحقاقات. وإذا انتهت باتفاقيات مرحلية وانتقالية تكون القيادتان قدرّتا ان القاعدتين الشعبيتين غير مهيئتين لمثل هذه النقلة ولا مجال لتسويق اتفاق نهائي قبل تطوير الدعم السياسي له على الصعيد الشعبي. المستبعد هو ان تنتهي القمة بفشل ذريع وطلاق تام بين طرفي العملية السلمية أيضاً بسبب اعتبارات القاعدتين الشعبيتين، إذ أنهما لا تفيدان بقرار مشترك باستبدال العملية السلمية بالمواجهة. في أي من النتائج، ان مسؤولية القاعدتين الشعبيتين واضحة في هذا المنعطف بالذات لايضاح صدق الخيارات كما لمواجهة استحقاقات تشابك إرادة القيادات والشعوب في اتخاذ قرارات مصيرية.