قمة الدول الصناعية الكبرى في اوكيناوا صارت أول اختبار دولي يجتازه فلاديمير بوتين ومؤشراً على السياسة التي ينوي اتباعها. وبدا الرئيس الجديد مختلفاً تماماً عن سلفه بوريس يلتسن الذي غالباً ما كان يغدو مادة للتندر، ولطالما "بلع" اهانات من أجل أن يحصل على قروض كان يفترض ان تسد شروخاً في الموازنة، لكنها في الواقع كانت تنفق ل"إطعام" المقربين الذين اعتبرهم أولى بمعروف يقدمه الغرب. بوتين برهن أنه "شكل ثانٍ". وكان إلغاء اجتماعه الثنائي مع جاك شيراك تعبيراً عن الاستياء المتراكم من احتجاز سفينة روسية للمطالبة بتسديد ديون على موسكو. بل ان بوتين أهدى شيراك كتاباً عن موسكو، وقال إنه أراد "ان تعرف فرنسا أين يقع الكرملين". وهذا التحذير المبطن من خطر "النسيان" يكتسب دلالة إضافية كونه وجه إلى دولة لها صلات قوية مع موسكو، لكنها تخلفت في الآونة الأخيرة عن جارتها الألمانية في استعراض الود حيال روسيا. واستغلت برلين هذه الثغرة لتوسع الاختراق وأبدى المستشار غيرهارد شرودر استعداده ليكون بديلاً من فرنسا كمدافع أوروبي عن مصالح روسيا، وقرر تأجيل مطالبتها بثمانية بلايين مارك من الديون المستحقة. وبديهي ان هذا الموقف ليس عملاً خيرياً أو ترضية لرجل المخابرات الذي عمل في المانيا أو ضدها؟ واتقن لغتها، بل انه تعبير عن رؤية استراتيجية ل"موقع الكرملين". والمستهينون بدور روسيا يقولون إنها فقدت نصف القدرات التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفياتي وانخفض تعداد القوات المسلحة من أربعة ملايين إلى 2.1 مليون، وتراجع عدد السكان من 300 مليون إلى 147 مليوناً، وتقلصت القدرة الصناعية والاقتصادية عموماً. وحتى إذا سلمنا بأن حجم موسكو، عسكرياً واقتصادياً وديموغرافياً، انخفض إلى النصف، فإن هناك النصف الآخر الذي ما برح يمتلك زهاء ستة آلاف رأس نووي. ولتعزيز مواقعه في أوكيناوا زار بوتين بكين حيث حصل على دعم صيني في مواجهة نيات الولاياتالمتحدة نشر شبكة الدفاع الصاروخي، وبالتالي الاخلال بالتوازن الاستراتيجي الذي كان قائماً منذ ثلاثة عقود. واحتمال انبعاث محور "موسكو - بكين" سيبقى مصدر رعب دائم لواشنطن التي اعترفت على مضض وفي صورة مبطنة، بضرورة ارجاء خططها لابتلاع ما تبقى من هيبة للدول التي تحتفظ بأسلحة نووية. ولكن بوتين لم يطرح نفسه كخصم أو حتى منافس لأميركا، بل عرض أن يكون واحداً من اللاعبين في نادي الثمانية الكبار. وكان انتزاعه موافقة كوريا الشمالية على التخلي عن برامجها الصاروخية ورقة مهمة وضعها على طاولة اوكيناوا. ولا يستبعد أن تعرض موسكو وساطات مماثلة لتخفيف عزلة دول أخرى مثل إيران وكوبا وحتى العراق. ولذا يمكن أن نتوقع مبادرة جديدة "تطبخ" في لقاء بوتين مع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز الذي وصل إلى موسكو عن طريق عمّان، لكن زيارته المقبلة إلى العاصمة الروسية يمكن ان تتم عبر رحلة جوية مباشرة، وإن حصل ذلك، فإنه سيغدو جواباً مفحماً على سؤال: "أين يقع الكرملين"؟