على رغم ارتفاع اسعار النفط وعودة النمو الى دول المنطقة، الا ان اسواق الاسهم الخليجية لا تزال تعاني من ضعف الاداء الذي ساد خلال فترة تراجع اسعار النفط في عام 1998. ويبدو ان العلاقة التاريخية التي كانت سائدة بين اسعار النفط واسواق الاسهم لم تعد قائمة، فالبيانات السابقة تشير الى ان ارتفاع النفط كان ينعكس بصورة ايجابية على اداء اسواق الاسهم ونشاطات القطاع الخاص خلال فترة زمنية لا تتعدى تسعة اشهر. غير انه لا يوجد اليوم اي بوادر لتحسن اسعار الاسهم على رغم مرور اكثر من سنة على ارتفاع اسعار النفط، بل على العكس، لقد تراجعت اسعار الاسهم منذ بداية السنة وبدرجات مختلفة في غالبية البورصات الخليجية. ويبدو ان هناك فرقاً بين دورة ارتفاع اسعار النفط الحالية والدورات السابقة، ففي هذه الدورة لم يؤد الارتفاع الكبير في ايرادات النفط الى زيادة موازية في الانفاق العام، اذ انه بالرغم من ان الايرادات الفعلية تخطت الايرادات المتوقعة في موازنات عام 1999، الا ان معظم دول مجلس التعاون الخليجي التزمت بالاتفاق المستهدف في موازناته. وعلى سبيل المثال قامت عُمان بخفض الانفاق الحكومي الفعلي بنسبة 2 - 3 في المئة عن ارقام الموازنة في عام 1999. في حين زادت السعودية من انفاقها بنسبة 10 في المئة عن الارقام المستهدفة في الموازنة العام الماضي، الامر الذي انعكس ايجاباً على اداء سوق الاسهم السعودية الذي ارتفع بنسبة 40 في المئة عام 1999. واذا ما حافظت اسعار النفط على معدلاتها المرتفعة هذه السنة فان الانفاق الحكومي لدول المنطقة سيزداد تدريجاً، ومع عودة التفاؤل للقطاع الخاص فإن هذا سينعكس ايجاباً على كافة النشاطات الاقتصادية ويتوقع عندها ان يتحسن اداء اسواق الاسهم مع نهاية هذا العام، خصوصاً اسهم شركات الاتصالات التي يتم تداولها بأسعار جذابة. فمتوسط سعر سهم شركة الاتصالات القطرية لا يتعدى سبع مرات ونصف مرة ارباح الشركة المقدّرة لسنة 2000، كما ان نسبة الاباح الموزعة تعتبر مرتفعة عند معدل 7.5 - 8 في المئة. ولقد نمت ارباح الشركة بنسبة 13 في المئة عام 1999 ويتوقع ان ترتفع بنسبة 15 في المئة في السنة الجارية. كذلك يتم تداول اسهم شركة الاتصالات البحرينية بسعر لا يتعدى احدى عشرة مرة من ارباحها المقدرة لهذه السنة. واصبح المستثمر الخليجي كغيره من المستثمرين يفضل شراء اسهم شركات التكنولوجيا والانترنت والمعلومات والاتصالات وغيرها من الشركات ذات معدلات النمو الواعدة والتي اصبحت تشكل اليوم منظومة "الاقتصاد الجديد". وباستثناء شركة او شركتين للاتصالات فانه نادراً ما نجد مثل هذه الاسهم مدرجة في اسواق الاسهم الخليجية. الحاجة للاصلاحات الاقتصادية غالباً ما كانت حكومات دول المنطقة تنظر الى تراجع الايرادات النفطية على انها مشكلة تدفق نقدي عابرة لذلك تعاملت معها في السابق من خلال الغاء او تأجيل تنفيذ بعض مشاريع البنية الاساسية والسحب من الاحتياطات الخارجية او ما تبقى منها، وتأخير تسديد المستحقات للمقاولين والاقتراض من الاسواق الداخلية لتمويل العجز. وأدى ذلك الى ارتفاع العجز في موازنات هذه الدول فبلغ العجز المجمع لموازنات دول مجلس التعاون الست 19.8 بليون دولار في عام 1993، انخفض بعدها الى 3.9 بليون دولار عام 1997 ثم ارتفع ثانية الى 15.9 بليون دولار في عام 1998 و16.9 بليون عام 1999. واعتمد معظم موازنات دول مجلس التعاون الست لسنة 2000 اسعار نفط لا تزيد على 15 دولاراً لبرميل نفط خام برنت ليتراجع اجمالي العجز المتوقع لهذه الدول الى 16.2 بليون دولار. وباستثناء عامي 1996 و1997 فان مجموع عجوزات موازنات الدول الخليجية كنسبة من اجمالي الناتج المحلي لهذه الدول جاء في حدود ستة في المئة سنوياً خلال الفترة 1995 - 2000 . ورافق عجز الموازنة هذا عجز في الحسابات الجارية لمعظم دول المجلس. الا ان اجراءات خفض الانفاق العام خلال الاعوام القليلة الماضية، على رغم اهميتها بالنسبة للحد من تراكم العجز في الموازنات العامة وارتفاع الدين الخارجي والداخلي لبعض دول المنظمة، ركزت بصفة اساسية على خفض الانفاق الرأسمالي على المشاريع بدل تقليص مخصصات التسلح والمصروفات الخارجية التي تشمل الرواتب والاجور وفاتورة خدمة الدين. وانخفضت مخصصات النفقات الرأسمالية كنسبة من اجمالي الناتج المحلي من متوسط قدره 23 في المئة في الفترة 1981 - 1985 الى 15 في المئة خلال الفترة 1986 - 1990 ثم الى ثمانية في المئة للفترة 1991 - 1998. واصبح واضحاً الآن ان التركيز على احداث خفوضات اضافية في النفقات الرأسمالية لتقليص العجز في الموازنات العامة قد يصعب تحقيقه لآجال اطول، كما ان ذلك يعتبر امراً غير مرغوب فيه اذ انه يحد من آفاق النمو الاقتصادي لدول المنطقة مستقبلاً. ان المشاكل التي تواجهها بعض دول المنطقة لا يمكن حلها بمجرد ارتفاع الايرادات النفطية، بل ان معظم هذه التشوهات لها طابع هيكلي سواء من الناحية القانونية او البيروقراطية او المالية او المؤسسية، والسياسات التي اتبعت حتى الآن جاءت تدريجية ورجعية، كما لو ان الحكومات تتعامل مع مشاكل عابرة تقدم لها حلولاً مرحلية مع محاولة الحفاظ على الوضع القائم بأكبر قدر ممكن. ولا يمكن تحقيق الاهداف الاقتصادية المرجوة من دون اشتراك جميع شرائح المجتمع في عملية اتخاذ القرار. فمثل هذه المشاركة تشجع على الالتزام بالسياسة الاقتصادية وتسهل تنفيذها. ولتشجيع القطاع الخاص على اخذ زمام المبادرة والمشاركة بفعالية اكبر في الاقتصاد، لا بد لهذا القطاع ان يشعر بأن صوته مسموع وان تؤخذ مصالحه في الاعتبار في عملية اتخاذ القرار. والشفافية مهمة في المجالات السياسية والقانونية كأهميتها في المجال الاقتصادي، اذ ان رؤوس الاموال المحلية والدولية تذهب دائماً الى الاسواق الاكثر شفافية والتي تتمتع بالاستقرار السياسي والاقتصادي وحكم القانون. ولكي يصبح القطاع الخاص في الخليج المحرّك الرئيسي لعملية التنمية يجب على هذا القطاع ان يكون قادراً على المنافسة في الاسواق الدولية. اذ انه من ضمن شروط العضوية في منظمة التجارة الدولية الغاء او تقليص الحماية المقدمة للقطاع الخاص على شكل مرافق رخيصة، ورسوم جمركية حمائية، وقيود على العمالة الوافدة، واعطاء اولوية للمقاول المحلي …الخ. لذلك لا بد للقطاع الخاص من اخذ المبادرة والعمل على رفع كفاءته وانتاجيته، والتركيز على المزايا التنافسية وبناء علاقات استراتيجية على المستوى المحلي والاقليمي والعالمي لكي يستطيع المنافسة في اسواق التصدير العالمية. واذا ما ارادت دول المنطقة زيادة حصتها من سوق النفط العالمية لتصبح هذه النسبة اقرب الى معدلات الاحتياط النفطي لهذه الدول، فقد تجد انه من الاجدى لها استراتيجياً فتح المجال امام المستثمرين الخليجيين من القطاع الخاص وايضاً امام شركات النفط العالمية للاستثمار في قطاعاتها النفطية، سواء من خلال اتفاقيات المشاركة في الانتاج او اتفاقيات الخدمات التشغيلية. فشركات النفط الاجنبية تمتلك من الموارد المالية والخبرة ما يتيح لها ادارة مشاريع الطاقة الكبرى وتسويق انتاجها. وهذه المساهمة الاجنبية في قطاعات الطاقة لدول المنطقة لا تستقطب فقط التكنولوجيا الحديثة التي من شأنها زيادة كفاءة انتاج النفط وخفض تكاليفه، بل انها تشجع على عودة رأس المال الخليجي المغترب وحثه على البحث عن مشاريع استثمارية مشتركة مع شركات النفط الاجنبية في كافة الميادين المتصلة بقطاع الطاقة. مشاريع مشتركة ومثل هذه الاستراتيجية القائمة على زيادة اعتماد العالم على النفط الخليجي ذات كلفة الانتاج الدنيا تقضي بتحويل دول مجلس التعاون الى مركز لعدد من شركات النفط العالمية النشطة في قطاعات الغاز الطبيعي والمناجم وتكنولوجيات المحافظة على البيئة والتكرير، والبحث والتنمية في مجال الطاقة. كما ان قيام مشاريع مشتركة اضافية في ميدان الهندسة وكافة الخدمات المساندة لهذا القطاع من المتوقع ان ينمو بشكل كبير، لتتحول منطقة الخليج الى مركز ثقل عالمي لكل ما يتعلق بقطاع النفط. وتحتاج المنطقة الى تطوير نظامها التعليمي ليتلاءم مع عصر المعلوماتية الذي نعيش فيه باعطاء اهتمام اكبر للكومبيوتر واللغة الانكليزية منذ المراحل الاولى للتعليم الابتدائي، اذ سيتم مستقبلاً تعريف الأمية قياساً بنسبة السكان الذين ليست لهم معرفة بالكومبيوتر. فالنظام التعليمي الحالي معدّ لتخريج موظفين حكوميين واولئك الذين يستطيعون القيام بمهام تقليدية بدلاً من موظفين ابداعيين يستطيعون الانتقال الى تقنية جديدة وقادرين للعمل في مجالات معظمها ما زال غير معروف حتى الآن. ولتخريج جيل من المبدعين فإن الطلاب بحاجة الى ان يتعلموا كيف يفكرون وان يتم تدريبهم على اكتساب قدرات تحليلية وان يكون التركيز على الابتكار والبحث عن المعلومات والوصول اليها بدلاً من الحفظ. وبغياب الديموقراطية والحرية السياسية تبقى القدرة على الخلق والابداع مقيّدة. وتحتاج المنطقة لتطوير اسواق رأس المال لديها وتشجيع الشركات المبتدئة على اصدار الاسهم في السوق الأولية. فالمشكلة الرئيسية التي تواجه هذه الشركات هي نقص رأس المال المجازف الذي يشكل مصدراً مهماً للتمويل بالنسبة للشركات الحديثة التأسيس التي تعمل في قطاع التكنولوجيا والمعلومات والتي يصعب ادراجها في اسواق الاسهم الرسمية لدول المنطقة. واستناداً لجامعة هارفارد فإن كل دولار يتم استثماره في صناديق رأس المال المجازف ينتج عنه براءات اختراع اكثر بكثير مما لو تم صرف هذا الدولار على مجالات البحث والتطوير. وشركات تكنولوجيا المعلومات وغيرها من الشركات الحديثة التأسيس غالباً ما تفتقر الى السجل التاريخي واللوائح المالية الموثوقة والتي تتطلبها المصارف التجارية لتوفير القروض لها، لذلك نرى هذه الشركات تلجأ بشكل مباشر الى المستثمرين من خلال اصدارات الاسهم الاولية وصناديق رأس المال المجازف لتوفير التمويل المطلوب. ولا يوجد في اسواق اسهم منطقة الخليج سوى عدد قليل من شركات التكنولوجيا والانترنت والاتصالات والمعلومات، في حين ان شركات "الاقتصاد القديم" مثل البنوك وشركات البتروكيماويات والاسمنت وشركات المرافق العامة تستحوذ على معظم القيمة السوقية لهذه الاسواق. واصبح المستثمرون في انحاء العالم وفي الخليج يتجهون نحو اسهم شركات "الاقتصاد الجديد". وبالتالي فإن دول الخليج مدعوة لتخصيص المزيد من الشركات لديها وبيع ما تبقى لها من اسهم في شركات الاتصالات والهاتف المتنقل والمعلوماتية وغيرها من الشركات المرتبطة بالتكنولوجيا وذلك لاضافة اسهم هذه الشركات على البورصات المحلية. ولا بد ايضاً من قيام سوق اقليمية شبيهة بسوق ناسداك في الولاياتالمتحدة وغيرها، لادراج اسهم الشركات الحديثة التأسيس التي تعمل في قطاع التكنولوجيا والمعلومات التي يصعب ادراجها في اسواق الاسهم الرسمية لدول المنطقة. فوجود مثل هذه السوق يوفر امكانية خروج او تسييل الاستثمارات في صناديق رأس المال المجازف مما سيشجع على زيادة تدفق رؤوس الاموال لهذه الصناديق. الاتحاد الجمركي بحثت دول الخليج في ما بينها لانشاء اتحاد جمركي منذ 18 عاماً ولكن من دون تقدم يُذكر. وغالباً ما يُنظر الى التعاون بين دولتين على انه يتم لاسباب سياسية او على حساب دولة ثالثة. وسيؤدي الانفتاح المتزايد في السوق العالمية الى تيسير الجهود المبذولة لتحقيق التكامل بين دول المنطقة،. فسنة 2005 التي حددتها دول المجلس لتطبيق الاتحاد الجمركي لا تزال بعيدة، والعالم لن يكون على ما هو عليه الآن عندما يتم التطبيق في ذلك التاريخ، وعليه فإن اقصر طريقة للتعاون الاقليمي هو من خلال الانفتاح العلمي والذي اصبح واقعاً لكافة دول الخليج. ستبقى اسواق النفط العالمية غير مستقرة وسيكون من الصعب على "اوبك" السيطرة على تقلبات اسعار النفط والتي تتأثر بعوالم اقتصادية وسياسية لا يمكن التنبؤ بها. وبما ان اسعار النفط لم تنخفض نتيجة الزيادة في الانتاج التي اقرّتها "اوبك" في اجتماعها الاخير، فإن الاسعار يتوقع لها ان تبقى فوق مستوى 25 دولاراً لبرميل خام برنت خلال النصف الثاني من السنة الجارية، وهذا سيساعد دول المنطقة على تحقيق عوائد نفطية افضل مما كان متوقعاً في بداية السنة ومعدلات نمو اقتصاية مرتفعة للسنة الثانية على التوالي. ولا يمكن تطبيق كافة الاصلاحات المنشودة خلال فترة زمنية محدودة اذ قد يتطلّب ذلك سنوات عدة. ويتوجب على حكومات الدول الخليجية ان تستمر في اتباع ما انتهجته من خطط واستراتيجيات للتكيّف الهيكلي والاصلاح الاقتصادي بغض النظر عن التطورات التي تطرأ في مجال اسعار النفط. وهناك ادراك عام اليوم بأن المشاكل الهيكلية التي تواجهها دول المنطقة لا يمكن حلّها بمجرد حدوث ارتفاع في ايرادات دول المنطقة النفطية، فمثل هذا الارتفاع سيفسح المجال امام صانعي القرار في المنطقة للمناورة وكسب الوقت. غير ان ارتفاع اسعار النفط يجب ان لا يؤدي الى التراجع عن سياسات الاصلاح المقررة، اذ ان التوقف عن تنفيذ برامج اعادة الهيكلة سيكون من دون شك دليلاً على عدم المصداقية وسيرسل رسالة غير مشجعة للقطاع الخاص. وبما انه لم تكن هناك متابعة حثيثة للاصلاحات التي ادخلت عام 1998 عندما تراجعت اسعار النفط، فقدت المنطقة زخم التغيير الذي اكتسبته وعادت اسعار النفط تتحكم بفرص النمو الاقتصادي لهذه الدول. ان القرار الذي اتخذته المملكة العربية السعودية والكويت والامارات وقطر بالسماح للاجانب والوافدين بالاستثمار في اسواق الاسهم المحلية اما مباشرة او من خلال صناديق استثمارية تديرها بنوك محلية، وقانون الاستثمار الجديد الذي اصدرته المملكة في نيسان ابريل وغيره من القوانين وسياسات الانفتاح التي وضعتها موضع التنفيذ الدول الخليجية، تعتبر كلها اجراءات مهمة في الطريق الصحيح. غير انه لا يزال هناك الكثير الذي لا بد من انجازه للحد من التشوهات الهيكلية وتهيئة دول المنطقة لأن تدخل الالفية الجديدة على ارضية صلبة. * كبير الاقتصاديين وعضو منتدب مجموعة الشرق الاوسط للاستثمار.