تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتخابات الأميركية في ضوء الحوار بين اليهودية والرأسمالية الليبرالية
نشر في الحياة يوم 07 - 11 - 2000

بين العوامل التي أهلت اليهودية للاستمرار في الزمن لتصبح حاضنة للصهيونية في نهايات القرن التاسع عشر يلفتنا الجهد الفكري اليهودي اللاهوتي والفلسفي والسياسي الهادف الى محاولة التأليف بين اليهودية والمدارس الفلسفية والسياسية الكبرى الفاعلة أو السائدة. هذه الجهود، في معظمها، استهدفت تأصيل وتعميق الهوية الثقافية اليهودية. واتخذ الحوار مع الفلسفات والعقائد الأخرى في الغالب، ولا نقول في المطلق، شكلاً دائرياً ينطلق من الذات ويعود اليها.
ولعل الجدل التأليفي بين اليهودية والرأسمالية هو أحد أبرز هذه التجليات، إن لم يكن أبرزها اطلاقاً. وقد أطلق اليهود هذا الجدل استناداً الى فرضية مفادها ان الليبرالية والأخلاق الرأسمالية تتأصلان في التقليد الديني الثقافي اليهودي.
من هنا كان بامكان الباحث التوفيقي اليهودي الاتكاء على آيات من ارميا، وحزقيال خصوصاً، تؤكد مسؤولية الفرد عن اعماله، وتنفي مسؤولية الابن عن خطيئة ابيه مفارقاً بذلك مفهوم المسؤولية الجماعية عن الأخطاء الفردية التي آمنت بها شعوب الشرق القديم وتمثلها العبريون وبقيت مفهوماً ركنياً حتى اليوم عند الأورثوذكسيين منهم.
ان المؤدلج اليهودي العصري الذي ينتقي من حزقيال آيات تبرر التوفيق بين اليهودية والليبرالية في مضامينها السياسية والاجتماعية يغفل، كما أغفل أسلافه عبر التاريخ، آيات أخرى كثيرة توعَّد حزقيال فيها المرابين من عواقب ممارسة الربا، الوظيفة شبه الخصوصية التي ادرجت اليهودي في ظاهرة نشوء الرأسمالية.
ويمكن اعتبار الكتاب الذي وضعه الاقتصادي الألماني فرنر سومبارت بعنوان "اليهود والرأسمالية الحديثة" أحد أهم وأشمل المؤلفات الهادفة إلى إثبات علاقة سببية بين القيم الأخلاقية اليهودية ونشوء الرأسمالية في مدن أوروبا الغربية في عصر النهضة. فسومبارت يكتب نصه في ظل منهجية ماكس فبر التي تضع عربة الأفكار والقيم الدينية أمام حصان البنى الاقتصادية - الاجتماعية. بل إن سومبارت يعترف في كتابه أن كتاب فبر "الأخلاق البروتستانتية ونشوء الرأسمالية" هو الذي حرضه على وضع كتاب مغاير يثبت فيه ان "الشخصية اليهودية" هي الأقرب نسباً والأوثق صلة بالرأسمالية من الأخلاق البروتستانتية.
و"الشخصية اليهودية" كما يحددها سومبارت هي نتاج التربية الدينية التوراتية والتلمودية التي تطابق الثروة بالنعمة والفقر باللعنة، وتشدد على قداسة العمل والنشاط مرفقاً بالتقشف في الإنفاق، مما يؤدي بداهة إلى تراكم رأس المال. وهذه القيم التي تفرضها الشريعة الموسوية والأدبيات العبرية هي القيم ذاتها التي رأى ماكس فبر أنها تختصر الأخلاق البروتستانتية التي أحيت الرأسمالية.
لكن، حتى ولو سلمنا بصحة هذه الفرضية الاخيرة، فإن ذلك لا يجعل من اليهودية، بالمعنى الثقافي، نظاماً اخلاقياً يحيي الرأسمالية ولا يحيا الا في الرأسمالية. والحقيقة هي ان سومبارت يتعامل مع النص الديني العبري بالنهج الانتقائي المألوف عند الذين يؤدلجون الديانات من منظور طبقي.
ان الباحث في التوراة، والتلمود خصوصاً، عن نصوص تجسد الروح الرأسمالية سيجد الكثير منها. الا ان الباحث في التلمود عن نصوص مضادة للرأسمالية يجد أيضاً ضالته، ويقع على الكثير من النصوص التي تقدم قيم العدالة الاجتماعية على الربح والثروة: "إن التلمود كان معارضاً في الاساس للربا على رغم ان قليلين يعرفون ذلك"، كما يلاحظ ليون بولياكوف في كتابه "تاريخ اللاّسامية" 1965.
إن كبير الحاخامين يعلن عشية حملة الفرنجة الاولى "ان الذي يقرض الاجانب مالاً بفائدة يحق عليه الدمار". لكن هذا التحريم يطاله التعديل بعد مضي قرنين، تحت ضغط الضرورات التي ساقت اليهود الى وظيفة الربا. وكما ان سفر التثنية حرّم الربا بوصفه احد اهم اسباب اللاَّمساواة الاجتماعية. وكان الربا مقيداً بقوانين سابقة لظهور سفر التثنية، القرن السابع كما يلاحظ بارون مضيفاً: "حاول التشريع التلمودي احباط الاقراض المالي حتى للاغراب مقراً المبدأ العام القائل ان الاقراض مسموح حين لا يكون للمقرض مصدراً آخر للدخل". يضاف الى ذلك إن الادب العبري الحكمي، وأرقاه مزامير داود، يستقيم من دون تناقض، ليس على تمجيد الثروة، وإنما على تأكيد العدالة الاجتماعية المنحازة للفقراء والبسطاء وانقياء القلب والأرامل والايتام.
الرب في المزامير هو رب الفقراء تحديداً، وهم المختارون في الادب الحكمي كما في التشريع المصري والبابلي، وهم غاية المشرع القانوني في الحضارتين الاكثر قدماً في التاريخ. والمضمون الاجتماعي للمزامير يشكل موضوعة نافية لموضوعة سومبارت القائلة "إن اليهودي التقي لا يجد في الادب العبري مقطعاً يحقر الثروة"، ذلك ان قارئ المزامير لن يجد مقطعاً واحداً يمجد الثروة، او يجعل من الإثراء الفردي قيمة تتقدم وتعلو قيم التكافل الاجتماعي.
اتخذت البورجوازية من حكم سليمان التي تمجد العمل والعامل وتحتقر الكسل شواهد على قدسية القيم الرأسمالية، الا ان حكمة سليمان يعوزها التجانس. فهناك فقرات قليلة تمجد الثروة لذاتها، وهناك غيرها تمجد العمل كغاية في ذاته وليس العمل كوسيلة للاثراء.
واذا كان فبر يفسر الازدهار التجاري والمالي لمدن الغرب الاوروبي بالروح البروتستانتية التي توطنت بلدان الجزء الشمالي من القارة الاوروبية، فإن سومبارت ينسب الفضل للعبريين مفترضاً ان المدن الاوروبية التي سبقت غيرها الى الازدهار، هي المدن التي استوطنتها الجاليات العبرية اللاجئة. وباختصار يفسر سومبارت صعود المدن والبورجوازيات المدينية الغربية وسقوطها بحلول اليهود فيها او هجرتهم منها: "إن اسرائيل تعبر فوق اوروبا كالشمس، وحيثما تصل فإن حياة جديدة تنبثق، وحيثما تغيب يدرك الانحطاط الاشياء جميعها".
وهكذا يستعيد سومبارت منهجية ماكس فبر مضيفاً اليها صفة التميز العرقي، ليثبت خلافاً له، ان الشخصية او "الذهنية اليهودية"، وليس البروتستانتية، هي حاضنة الرأسمالية الاصلية. وبالتالي فان الاخطاء المعرفية عند الاثنين - فبر وسومبارت - تصدر عن خطأ في المقاربة والمنهج يتمثل في اعتبار الوجود الاقتصادي - الاجتماعي نتاجاً للذهنية البروتستانية او اليهودية وليس العكس.
نقد الكثير من كبار الباحثين أمثال هنري بيرن في كتابه "التاريخ الاقتصادي للغرب في العصر الوسيط" وتاوني في كتابه "الدين ونشأة الرأسمالية" وبولياكوف في كتابه "تاريخ اللاّسامية" هذا النهج في المقاربة. ف"اليهود لم يكن لهم ذلك الدور الحاسم الذي ينسبونه لانفسهم او ينسبه لهم بعض المؤرخين الانجيليين في الثورة الاقتصادية التي حدثت في الغرب بين القرنين الخامس والسادس عشر" يقول بولياكوف. ولاحظ اكثر من مؤرخ اقتصادي ان الدور الذي لعبته الجاليات اليهودية في اقتصادات الدول الاوروبية يتفاوت من بلد الى آخر ومن حقبة الى اخرى. اذ تخلل تاريخ دول اوروبا الغربية في عصر النهضة حقبات دامت قروناً كان اليهود فيها مطرودين من تلك الاقطار، وحقبات اخرى كانوا فيها عرضة للاعتداء او خاضعين لاحكام قانونية او مقررات دينية كنسية تقيد نشاطهم التجاري والمالي.
ويؤكد بولياكوف "أن اليهود لم يحتكروا التجارة في بلدان مثل فرنسا والمانيا في اي وقت من الاوقات"، اضف الى ذلك ان اليهود كانوا مطرودين من بريطانيا بين العام 1290 و1655 وهو الزمن الذي انجزت فيه بريطانيا سيطرتها على طرق التجارة الدولية.
ويرى برت هوزليتز ان الروح الصوفية الشرقية قوية الحضور في اليهودية "وإن اليهودي لم يتعلم العقلانية من التلمود، بل ان ما تعلمه من التلمود هو الالتزام بالشريعة والايمان شبه الطفولي بقدسيتها وبأحقية دينه وحكمة الهه".
الى ذلك كله يضاف ما يذكره بارون عن وجود شك تقليدي يظهره التلمود بعلاقة تضاد بين اهل الثروة واهل المعرفة، وعن عداء الاغنياء للعلم. وان سفر التثنية، مثله مثل التلمود، يحرم الربا، لكن الحرم ازيل ليحل محله السماح، وليجعل التعامل بالربا امراً واقعاً في الممارسة، بين اليهود كما بين المسيحيين. ومثل هذا التغاضي عن تطبيق القوانين والشرائع الدينية المانعة يعود الى "تطور تدرجي للعلاقات الاقتصادية جعل من اخذ الفائدة عاملاً لا غنى عنه في تطور الانتاج والتجارة". وسطوة الواقع الاقتصادي على المثال الديني يردنا الى حكمة المشرع الحنفي القائلة "إن الضرورات تبيح المحظورات".
ويخلص هوزليتز الى ان سومبارت، في جعله الرأسمالية نتاجاً لليهودية، يقلب العلاقة بين الاسباب والنتائج: "إن تطور الرأسمالية لا يفسر بعقلانية او بشرائع الديانة اليهودية، ذلك ان تطور فرص الربح الناجم عن العمليات التجارية والمالية، إضافة الى حاجة اليهودي الى التكيف مع عالم غريب معاد... كانت احدى نتائجه تمزق العلاقات الشخصية الدافئة بين القبائل اليهودية هو الذي استحدث تعديلاً في قوانين اليهود وممارستهم الدينية بحيث اصبحت اليهودية حقلاً خصباً لنمو الروح الرأسمالي". ويخلص هوزليتز الى القول "إن الرأسمالية لم يصنعها اليهود كما كانوا، وإنما الرأسمالية هي التي صنعت اليهود كما اصبحوا، وكما هم عليه الآن".
وهذا يردنا الى موضوعة ماركس القائلة "لا يجب ان نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل ان نبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي". واليهودي الواقعي هو الذي تعلم عبادة المال من تاريخه الاجتماعي، وليس من دينه، ذلك ان التلمود انكتب بيد التجربة التاريخية، وأسهم في كتابته الكثير من كبار أثرياء اليهود المتدينين كما يلاحظ سومبارت نفسه.
وحب اليهودي للمال يتصل بغريزة البقاء. فقد "تعلم اليهودي ان المال ليس وسيلة حياة وحسب بل انه الحياة ذاتها. كان عليه ان يشتري امنه من الملوك والامراء والنبلاء بالمال". بادل اليهود الحرية بالحياة حين قبلوا بوضع الارقاء التابعين للامراء في فرنسا والمانيا وانكلترا مقابل الحماية المشتراة. وبالنسبة للنبلاء والحكام، على اختلاف مراتبهم، لم يكن لليهودي الحق في ان يوجد لنفسه وإنما لماله وممتلكاته: "كان على اليهودي ان يشتري حقه في الحياة بين فترة واخرى"، يقول بولياكوف "حتى اصبح المال اكثر اهمية بكثير من خبزه اليومي، بات المال ضرورياً كالهواء الذي يتنفس، وفي ظل ظروف كهذه اكتسب المال في نهاية المطاف قدسية كاذبة".
وكان المال السائل يسهل إخفاؤه عن الناهب، ويسهل على الطريد نقله خلافاً للملكيات العينية الثابتة، مما يضيف الى قيمته قيمة تأتيه من خارجه. وهذه الذهنية التي انتجها تاريخ من الانغلاق والتمييز والقهر هي التي جعلت "ارتباط اليهودي بأمواله اقوى من ارتباطه بأنفاسه". ويوضح بولياكوف في مكان آخر من كتابه "إن حياة اليهودي كانت عرضة لضرائب متزايدة. كان عليه ان يدفع حين يسافر وحين يعود، عندما يبيع وعندما يشتري. وكان عليه ان يدفع من اجل حق الصلاة الجماعية، وان يدفع ليتزوج حين يرزق طفلاً، ولكي ينقل جثة الى المقبرة. من دون المال كان اليهود مقدورين على الانقراض. لذلك اعتبر الحاخامات ان الضغوط المالية عليهم لا تقل سوءاً عن المذابح والطرد الجماعي ورأوا فيها لعنة ربانية وعقوبة الهية مستحقة".
ويلاحظ بولياكوف ان اليهودي الذي كان يثمن المال ويتفانى في جمعه "لم يكن يتردد في التخلي عنه اذا ناداه واجب التضامن مع ابناء دينه". والتلمود يستحث الجماعات اليهودية على مساندة بعضها بعضاً كلما ألمّت بها نائبة.
ويؤكد غولدبرغ في كتابه "القوة اليهودية" 1996 ظاهرة التكافل اليهودي الجمعي لاحظاً ان الجماعات اليهودية الاميركية هي الاكثر إقبالاً على التبرع لجمعيات الرعاية الاجتماعية. ومن الواضح ان هذه الميزة اليهودية كانت ملحوظة من عامة الناس في زمن مارتن لوثر الى درجة استدعت رداً وتفنيداً من قائد الثورة البروتستانتية في القرن السادس عشر.
لكن اليهود لم يتعلموا الربا من التوراة والتلمود، كما يقول لوثر في مقطع آخر، بل طالما خالفوا الاثنين لتحصيل المال الذي كان بالنسبة اليهم معادلاً للحياة والبقاء ووسيلة لتأكيد الذات وسط محيط يحب المال بقدر ما يكره اليهودي المتموِّل. ويدلل الكثير من اليهود الاميركيين على ليبرالية سياسية يزعمون انها متأصلة في تقليدهم الديني - الثقافي بجردة إحصائية تثبت انحيازهم المزمن للحزب الديموقراطي الاميركي - الذي انتهج سياسة الضرائب التصاعدية على الدخل والثروة من اجل الانفاق على الخدمات العامة - ضد الحزب الجمهوري المحافظ الذي انتهج سياسة اقرب ما تكون الى الداروينية الاجتماعية بلغت ذروتها في عهد رونالد ريغان.
الربا المعاصر
وتشير الاحصاءات الى ان اليهود الاميركيين اعطوا جون كنيدي 80 في المئة واعطوا كلينتون 85 في المئة من اصواتهم، وان 20 من مجموع 24 نائباً يهودياً في مجلس النواب الاميركي هم ديموقراطيون، إضافة الى نشاط يهودي بارز في القطاعات النقابية العمالية والطلابية والنسائية وجمعيات الحقوق المدنية. وما يعنينا هو ان الساعين الى التوفيق بين اليهودية والليبرالية يفترضون علاقة سببية بين انشطة اليهود الديموقراطية الاجتماعية وما يصفونه "بالتقليد اليهودي". وهناك ظواهر ثلاث على الاقل تثبت تهافت محاولات تأصيل الليبرالية في التقليد اليهودي الديني الثقافي:
الاولى: هي ان اليهود داخل اسرائيل ليسوا منحازين في غالبيتهم الى حزب العمل الاكثر ليبرالية ضد الليكود اليميني، بل ان هناك توازناً بالغ الدقة بين الحزبين، يمنح احزاب الاقلية الدينية امتياز ترجيح احدى الكفتين. وادى آخر هياج للعصبية الدينية في اوساط الاحزاب الدينية بسبب قبول باراك مبدأ التفاوض على القدس في تموز يوليو الماضي الى خسارة شمعون بيريز، اهم المفكرين الاستراتيجيين الاسرائيليين، انتخابات الرئاسة ونجاح موشي ميتسكاف الليكودي اليميني وهو شبه نكرة في الحياة السياسية والثقافية.
الظاهرة الثانية، هي ان اليهود حيثما وجدوا، ليسوا موحدين في خياراتهم السياسية - الاجتماعية، بل انهم موزعون وخصوصاً منذ قيام حركة التنوير اليهودية، بين فريق إصلاحي تنويري علماني يتمثل في عناصر قيادية في حزب العمل ابرزها بيريز، يقابله فريق تقليدي اورثوذكسي يؤصل الصهيونية كحركة سياسية قومية في اليهودية.
وهذا الفريق الذي يجد في الليكود حليفاً عند كل حدث يستنفر الموروث الديني اليهودي والهواجس، يشكل عقبة حقيقية تعيق، وقد تعطل مسيرة السلام مع العرب، وهو الذي يقاوم مشروع الدستور الليبرالي العلماني الجديد الذي تقدم به باراك لتوحيد الجماعات الدينية - الاثنية داخل اسرائيل على قاعدة المساواة في المواطنية كي لا يتحول المجتمع الاسرائيلي الى "حارات" غيتوية.
واذا كتبت الغلبة لهذا الفريق الرجوعي، فان المجتمع الاسرائيلي الغربي العصري سيرتد مع الزمن الى تركيبة مجتمعية شرقية فسيفسائية تحيي مناخات المجابهة.
الى هؤلاء تضاف جماعات تشدد على ممارسة سلطوية متشددة في المجال الديني، في مقابل الانفتاح على النظام الديموقراطي في الميدان السياسي العام.
اما الظاهرة الثالثة الناقضة لموضوعة تأصل الليبرالية في اليهودية فهي ان تأييد اليهود لحقوق الاقليات والمحرومين في اميركا لم يكن مبدئياً وثابتاً بل استنسابياً وخاضعاً على الدوام لمركب الخصوصية والمصلحة اليهودية. فقد رفضت الجمعيات والجاليات اليهودية الاميركية في الاربعينات من القرن التاسع عشر حق الكاثوليك الايرلنديين والالمان في الهجرة الى اميركا، اعتقاداً منها ان ذلك يعزز من قوة الكنيسة الكاثوليكية التي كانت كارهة لهم ومحرضة عليهم على الارض الاوروبية، كما يذكر غولدبرغ في كتابه "القوة اليهودية".
وقد وقف اليهود، المحافظون منهم والليبراليون، ضد حق العبيد في الانعتاق والتساوي في المواطنية حين اثيرت المسألة على اوسع نطاق في العام 1853، وهو موقف صدم جماعات الغاء العبودية من الاميركيين، وفاقم مشاعر الريبة والعداء بين اليهود والسود.
مثل هذه المواقف تدحض بالملموس الادعاء ان الليبرالية السمحة ومناصرة الفقراء والضعفاء والاقليات المضطهدة هو نهج يهودي مبدئي ثابت يستند الى تقليد ثقافي يهودي ثابت. واخيراً ان تأييد اليهود لمرشحي الحزب الديموقراطي لا يثبت ليبرالية اليهود بقدر ما يثبت انحياز الحزب الديموقراطي التقليدي لاسرائيل، انحيازاً تجلَّى حديثاً في اختيار مرشح الحزب الديموقراطي آل غور نائباً يهودياً له هو يوسف ليبرمان، للمرة الاولى في تاريخ انتخابات الرئاسة الاميركية.
ان الثابت الوحيد في تاريخ اليهود هو انحناء المبدأ تحت ضغط المصلحة، والتكيف مع مختلف المعتقدات والمذاهب والتيارات الفكرية السائدة بهدف تكييفها مع المصالح اليهودية الدنيوية.
ويصعب على المؤدلج الذي يربط ديموقراطية اليهودي السياسية بتقليده الديني الثقافي، تلك العلاقة المشؤومة بين اسرائيل ودولة جنوب افريقيا العنصرية التي كانت محكومة من الاقلية البيضاء قبل ان تدخل تلك الدولة العنصرية في ذمة التاريخ. ويشهد اسرائيل شاحاك على الجهد التكتيكي الذي بذله ويبذله اليهود للتكيف مع العقائد والمؤسسات السياسية بهدف تكييفها واحداث انقلاب فيها من داخلها. ان شاحاك يذكر في كتابه "التاريخ اليهودي، وطأة ثلاثة آلاف سنة"، "إن التدقيق في سجلات الاحزاب الراديكالية والاشتراكية والشيوعية يعطي امثلة كثيرة عن عنصريين وشوفينيين يهود متنكرين انضموا الى هذه الاحزاب لمجرد خدمة المصالح اليهودية، وهم في اسرائيل يؤيدون التمييز ضد غير اليهود".
وما يقوله شاحاك يثبته بنجاح اليهود في اختراق الاحزاب الشيوعية في روسيا واوروبا الشرقية، وهو نجاح يبقى على كل حال مسبوقاً بنجاحهم في التفاعل والتداخل مع الحركات والفرق البروتستانتية الاصولية بدءاً بالقرن السابع عشر.
اما في ميدان اللاهوت الفلسفي والفلسفة اللاهوتية فقد كان جهدهم التوفيقي متهافتاً في مجمله. وما يمكن قوله هو ان اليهود لم يقدموا في مجال الفلسفة واللاهوت كباراً كالذين قدموهم في مجالات العلوم الطبيعية والانسانية الاخرى. وكان لا بد من ان يكون الامر كذلك. ذلك ان التوفيق بين ديانة قبلية تمركزية تتضمن الثيوقراطية وفلسفات العصر هو امر يتعدّى قدرات "الذكاء اليهودي" على رتق التهافت.
* استاذ الدراسات الحضارية والادب المقارن في الجامعة اللبنانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.