بدأ الرؤساء الثلاثة، كلينتون وعرفات وباراك، في كامب ديفيد، امس 11 تموز يوليو الجاري، مفاوضات ماراثونية تستغرق أكثر من اسبوع، بأمل سد الفجوات الكبيرة في مواقف الطرفين في شأن قضايا الحل النهائي، التي عجز "أبو العلاء" وشلومو بن عامي عن سدها. وسيبحث الرؤساء ايضاً، سبل تنفيذ استحقاقات اتفاقات المرحلة الانتقالية التي لم يلتزم باراك تنفيذها. فهل تنجح قمة كامب ديفيد في التوصل الى اتفاق فلسطيني - اسرائيلي شامل ينهي صراعهما المزمن، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعايش في اطار دولتين تحكمها علاقات حسن جوار، أم ان حجم الخلافات وطبيعتها، ومستوى تطور الفكر السياسي الاسرائيلي، وضعف كلينتون في نهاية عهده تعرقل وصول القمة الى مثل هذا الاتفاق التاريخي الذي طال انتظاره؟ بصرف النظر عن النوايا والأسباب التي دفعت بالرئيس كلينتون الى الدعوة للقمة قبل تنفيذ باراك استحقاقات المرحلة الانتقالية، أو بعضها على الأقل، فالدعوة تمت على خلفية اصرار رئيس الوزراء الاسرائيلي على عقدها، وبعد ان أقفل، بتخطيط مسبق، كل الطرق المؤدية الى تحقيق تقدم في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية بمساريها الانتقالي والنهائي، وجعل لا لون لها ولا طعم ولا رائحة لاستمرارها. وأفشل كل الجهود التي بذلتها الادارة الاميركية في التوفيق بين مطالب عرفات ولاءات باراك، ولم يتردد في اعادة اولبرايت الى واشنطن بخفي حنين. وقال للرئيس كلينتون عبر الهاتف: لا لتنفيذ الاتفاقات المرحلية، ولا انسحابات جديدة من الضفة الغربية، ولا اطلاق سراح معتقلين فلسطينيين ولا... الخ. اذا لم تعقد القمة. فنجحت خطته وكان له ما أراد، وأجبر الرئيس الاميركي على توجيه الدعوة وفق أجندة باراك. وعلى رغم ما قيل أو يمكن ان يقال في الدعوة، فهي دعم اميركي مكشوف لتكتيك باراك، وتعبير صارخ عن انحياز ادارة كلينتون لمواقفه العنجهية المتطرفة. وحديث الرئيس الاميركي عن هذه القمة باعتبارها توفر فرصة لحل شامل ونهائي للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي المزمن، والاتفاق حول جميع قضايا الخلاف الجوهرية، يندرج تحت بند أمنيات أميركية تتعارض مع واقع المفاوضات ومجرياتها، وتحقيقها يتطلب معجزة في زمن ولت فيه المعجزات. وكان يمكن لحديث كلينتون ان يكون مفهوماً لو انه اعترف بأن الدعوة مغامرة محاطة بأخطار كبيرة أقدم عليها مجبراً، بعد ان وضعه باراك أمام خيار ثنائي أما القمة أو سفك الدماء، وصارح العالم بأن القمة محاولة أخيرة لمنع عملية السلام من الانهيار وانقاذ ما يمكن انقاذه. أما في شأن آفاق هذه القمة ونتائجها المتوقعة، فالقراءة الموضوعية، لتوقيتها وظروف عقدها وجدول أعمالها تؤكد عدداً من الحقائق أولها: انها تعقد بعد ضغوط قوية مارسها سيد البيت الأبيض على الطرف الفلسطيني الأضعف في المعادلة، ولم يكن بمقدور هذا الطرف تحمل تبعات رفض حضورها. وتوجه أبو عمار، على مضض، الى كامب ديفيد قبل تحقيق مطالبه المحقة، التي أقر كلينتون وأركانه مشروعيتها وعدالتها. الى ذلك تعقد القمة بعد صعود أزمة المفاوضات والعلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية درجة جديدة على سلم الانفجار وبلوغها ذروة خطرة، حيث مضى الطرفان كل الى غايته في طريق خاص واستبدلا لغة الحوار بلغة الاستفزاز والتحدي، وبدأ الواحد يهدد الآخر باتخاذ قرارات سياسية واجراءات عملية حساسة من جانب واحد، لا تأخذ في الاعتبار مواقف الطرف الآخر ومصالحه. وكان أخطرها تهديد باراك بضم الأراضي الفلسطينية الخاضعة لسيطرة الجيش الاسرائيلي الى دولة اسرائيل في حال تنفيذ قرار المجلس المركزي، وإعلان عرفات قيام الدولة على جميع الأراضي التي احتلت في العام 1967، وعاصمتها القدس. وكان رئيس الأركان الاسرائيلي قد سبق باراك بالتهديد باستخدام الأسلحة والأساليب القتالية اللازمة للحفاظ على مصالح اسرائيل، وقمع أي حركة فلسطينية باتجاه بسط السيادة وتغيير الوضع القائم على الأرض. والحقيقة الثانية، هي ان الرؤساء الثلاثة يلتقون قبل استكمال التحضيرات الضرورية لضمان نجاح لقائهم، والفجوة في مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي لا تزال عميقة وواسعة جداً، وقضايا الخلاف المطروحة على جدول الاعمال شائكة وحساسة ولها أبعاد رمزية عند الطرفين، وخصوصاً قضيتي القدس واللاجئين. وقدرة باراك وعرفات على التصرف بهما محدودة، وليس بمقدور أي منهما تقديم تنازلات تقرب الواحد منهما من الحدود الدنيا التي تلبي قناعة الآخر وتحقق له أهدافه الاستراتيجية، وتمكنه من تمرير الاتفاق في اطار مرجعيته الرسمية والشعبية. الى ذلك، فإن الفراغات التي تركها أبو علاء وشلومو بن عامي في مسودة "اتفاق الاطار" الذي صاغاه كثيرة ومركبة، ولا يستطيع باراك وعرفات تعبأتها كلها في ثمانية ايام. وإذا كان باراك يعني ما قاله في لاءاته الخمس ويعتبرها خطاً أحمر، ويراهن على ضغط كلينتون على عرفات لتقديم تنازلات تتعلق بالأرض والقدس واللاجئين، فأظن انه يخطئ اذا اعتقد ان الضغوط الاميركية واختلال ميزان القوى لصالحه، وضعف قدرات السلطة الفلسطينية في مواجهة قوة اسرائيل العسكرية، كفيلة بإرغام عرفات، خلال القمة أو بعدها، على تقديم تنازلات تنتقص مساحة الأرض التي احتلت في العام 1967، وتمس حقوق اللاجئين التي ضمنتها قرارات الشرعية الدولية، ويمكن الجزم بأن أبو عمار لن يتنازل في كل الظروف والاحوال عن السيادة على مدينة القدس وخصوصاً البلدة القديمة، ولن يتراجع عن اعلانها عاصمة للدولة الفلسطينية، ويردد باستمرار لا معنى ولا قيمة للدولة الفلسطينية اذا لم تكن القدس الشريف عاصمتها. واعتقد انه يفضل بقاء الحلول السلمية معلقة الى إشعار آخر، واستمرار الصراع سنوات عدة، على ان يسجل في تاريخه السياسي ما يمكن ان يوصف بالتنازل عن حقوق الفلسطينيين في مدينة القدس. وتؤكد الحقيقة الثالثة، ان ليس في أفق كامب ديفيد غيوم يهطل منها مطر مشروع اميركي خاص، يتمخض عنه اتفاق مفروض على الطرفين. ويخطئ من يعتقد ان من لم يتبن مشروعاً توفيقياً خاصاً إبان عز قوة حكمه، سيكون لديه مثل هذا المشروع أواخر أيام حكمه، أو سيكون بإمكانه فرضه على الطرفين وهو في حالة شبيهة بحالة بطة عرجاء مقعدة. ومطالعات الرئيس كلينتون لمواقف الطرفين وخطوطهما الحمراء، ومعرفته الدقيقة بظروف انعقاد القمة تلزمه خفض سقف طموحه بإنهاء عهده باتفاق فلسطيني - اسرائيلي شامل ينهي ثلثي قرن من الصراع، وقبول ما هو دونه بكثير. وسيضطر كلينتون الى بذل جهود مضنية من أجل عدم انفجار القمة، وإنهاء التوتر القائم بين باراك وعرفات واقناعهما بالتوصل الى اتفاق جزئي، قبل مغادرتهما كامب ديفيد، يمرحل قضايا الحل النهائي، ويلبي الحدود الدنيا من تطلعاتهما المباشرة، ويضمن استمرار عملية السلام من بعده. أما الحقيقة الرابعة، فتشير الى ان لا مصلحة لأي من الأطراف الثلاثة في تفجير القمة، وتؤكد حاجتهم الى الخروج من كامب ديفيد باتفاق ما. ويدرك القادة الثلاثة ان فشل لقائهم يعني اشتعال صراع دموي فلسطيني - اسرائيلي، وانهيار نتائج جهود عشر سنوات ثمينة بذلتها الادارة الاميركية والقوى الدولية الأخرى في معالجة الصراع العربي - الاسرائيلي وحل المسألة الفلسطينية جوهر كل الصراع في المنطقة، وايضاً اندفاع شعوب ودول المنطقة، عاجلاً أو آجلاً، نحو موجة جديدة من العنف والدمار وسفك الدماء. وإذا كان ليس بمقدور الرئيس كلينتون فرض حل ما على الطرفين، ولا أفق امام هذه القمة لتحقيق هدفها الرئيسي المعلن، ولا امكانية لتوصل باراك وعرفات الى اتفاق شامل حول جميع قضايا الخلاف، ولا مصلحة لأي منهما في تدمير عملية السلام وزج شعبيهما في صراعات دموية، فالمخرج الوحيد المناسب لكل الأطراف هو الاتفاق على ما يمكن الاتفاق عليه ومتابعة المفاوضات حول قضايا الخلاف. واذا كانت قمة كامب ديفيد تركت، قبل انعقادها، آثاراً واسعة على النظام السياسي في اسرائيل، وهزت أسس "اسرائيل واحدة"، فالواضح ان باراك لم يعد يتوقع اتفاقاً شاملاً ونهائياً مع الفلسطينيين، وأقصى ما يسعى لتحقيقه هو انجاز اتفاق مرحلي جديد يترك قضايا اللاجئين والقدس الى المستقبل. فمثل هذا الاتفاق يسهل عليه بناء ائتلاف حكومي جديد وتوفير غالبية برلمانية تدعمه. والمؤكد انه سيكون بخيلاً في مسألة الانسحاب من الأرض، فهو صاحب نظرية ربط الانسحاب الثالث الذي يعطي الفلسطينيين قرابة 90 في المئة من الأراضي التي احتلت في العام 1967، بموافقتهم على ترسيم انهاء النزاع، وتنازلهم عن السيادة في القدس وعن حقوق اللاجئين. وسيستثمر باراك انهيار ائتلافه الحكومي في دفع الرئيس الاميركي الى الضغط على الرئيس عرفات لقبول صفقة قوامها دولة فلسطينية، لا تعلن القدس عاصمة لها، تقوم على قرابة 80 في المئة من الأرض، مقابل اعلان انهاء النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وتأجيل حل مشكلتي القدس واللاجئين. الى ذلك، يمكن القول ان جولة مفاوضات واحدة، مدتها اسبوع، قد لا تكفي لتقريب مواقف الطرفين وصياغة مثل هذا الاتفاق، وقد يضطر الرؤساء الثلاثة الى عقد جولة جديدة خلال وقت قصير، بعد اجراء دراسة معمقة ومتأنية لحصيلة الجولة الأولى التي يمكن اعتبارها جولة استطلاع لا غنى عنها قبل اتخاذ القرارات الحاسمة. ومن الآن وحتى ظهور الدخان الأبيض أو الأسود في سماء كامب ديفيد، يجب تقديم كل أشكال الدعم الشعبي والاسناد العربي للمفاوض الفلسطيني. واذا كان لا الجامعة العربية ولا أي من الزعماء العرب بادر الى الدعوة لعقد قمة مصغرة أو موسعة قبل قمة كامب ديفيد، فالمصالح القومية بعيدة المدى تفرض عقدها في أقرب وقت ممكن. واعتقد ان ارتفاع صوت أهل القدس وصوت اللاجئين في كل مكان ضرورة فلسطينية للمحافظة على الحقوق الوطنية، وتعزيز موقف المفاوض الفلسطيني وتصليبه في مواجهة الضغوط الاميركية الشديدة التي يتعرض لها في كامب ديفيد. * كاتب فلسطيني