يرمز معتقل الخيام الى مرحلة نضال مشرقة في حياة تحرير لبنان، ويشكّل في الوقت ذاته وصمة عار للمجتمع الدولي الحديث الذي لم يستطع منع الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان التي قامت بها اسرائيل من خلال سوء سياستها في معاملة المعتقلين، وعلى رغم ذلك سيبقى هذا المكان في كيانه المادي القائم يعبّر عن فترة عاصفة شهدها لبنان وشعبه المكافح الذي تعرّض لشتى اصناف القهر والعدوان، لكن مقاومته الشجاعة والمستمرة مكنته من تحطيم تلك القيود الثقيلة. واسرائيل التي اقامت المعتقل في ظل احتلالها لجزء من جنوبلبنان ما زالت تطالب المجتمع الدولي بالتكفير عن ذنبه عن الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود في المعتقلات النازية اثناء الحرب العالمية الثانية، فهل يعقل مثل هذا المنطق، ام ان قوالب حقوق الانسان متغيرة الى هذا الحدّ، ونحن على يقين بأنها ليست هي تلك الصورة المثالية التي تعكس صفاء الضمير الانساني وحكم العدالة، فهذه المبادئ الطبيعية لا تختلف باختلاف ظروف المكان والزمان وهي واحدة عند الشعوب كافة. انطلاقاً من هذا الواقع ومن حجم معاناة المعتقلين في معتقل الخيام وقد تحرروا الآن، ومعاناتهم المستمرة في السجون الاسرائيلية، ما هي الاوضاع القانونية والانسانية التي ترعى احوالهم وتخفف من آلامهم ومأساتهم وتوفر لهم بعض ما فقدوه في سنوات احتجازهم. يحين بدايةً الاشارة الى ان قوات الاحتلال الاسرائيلية ووفقاً للمعايير الدولية لا يحق لها ان تستبيح ارضاً او اقليماً يخضع لسيادة دولة اخرى، او ان تشرع انظمة قانونية جديدة، او ان تغيّر من معالم ذلك الاقليم على اي مستوى كان وفي اي مجال من المجالات المدنية وغير المدنية، فوضعها كقوات احتلال يرتب عليها الانسحاب من الاقليم المحتل واعادة الوضع الى ما كان عليه في السابق بما في ذلك اصلاح الضرر الناتج عن عملها، فضلاً عن كون الاعتداء يعد جريمة دولية بحسب مضمون بروتوكول جنيف لسنة 1924، واتفاقيات لوكارنو لسنة 1926، وقرار الجمعية العامة لعصبة الاممالمتحدة سنة 1927، وقيام ميثاق الاممالمتحدة سنة 1945 على اساس تحريم استخدام القوة من غير طريق الامن الجماعي وفي غير حالات الدفاع المشروع. واذا انتقلنا من التعميم الى التخصيص وبالذات الى معتقل الخيام والى البحث في اوضاع المعتقلين القانونية والانسانية فإنه يمكن استنتاج وتأكيد الحقائق الآتية: اولاً: وضع معتقل الخيام في كيانه المادي: انه عبارة عن امكنة وغرف مظلمة لا تصلح لأي نوع من انواع الحياة، فهي تفتقد النور والهواء والنظافة وتتسرب اليها المياه القذرة وأمطار الشتاء، فضلاً عن ضيق مساحتها ومظهرها القاتم، واعتقال الانسان داخل جدرانها يشكل اقصى درجات التعذيب المادي والمعنوي بصرف النظر عن اساليب المعاملة غير الانسانية الاخرى التي اتبعت ازاء المعتقلين كالصدم بالتيار الكهربائي والحجز الانفرادي والضرب والتهديد ومنع الطعام عنهم وسائر وسائل الذل والمهانة، وتكفي هذه الصورة لكي تحجب كافة اوجه انعدام الدعاية لحياة الانسان في حدها الادنى. ثانياً: الاحتجاز غير المشروع للمواطنين: ان الاعتداء وما يترتب عليه من احتلال ارض تخضع لسيادة دولة اخرى هو امر غير مشروع وفق احكام القانون الدولي ويضفي بشكل غير مباشر صفة المشروعية على الحركات الشعبية المقاومة للمحتل وتطبيق قواعد القانون الدولي الانساني على افرادها من دون شروط او تمييز، ومثل هذا المبدأ يمكن استنتاجه من اللوائح الملحقة باتفاقيات لاهاي 1899-1907، واتفاقيات جنيف لسنة 1949، خصوصاً في مجال معاملة اسرى الحرب وحماية الاشخاص المدنيين في زمن الحرب، ومن الاتجاه الغالب في الفقه الدولي المعاصر الذي يرى ان لسكان المناطق المحتلة حق الثورة نتيجة لقيام الاحتلال وانطلاقاً من علاقة الولاء القائمة بينهم وبين دولتهم الام، ومن حق تقرير المصير الوارد في ميثاق الاممالمتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان، ومن حق الدفاع المشروع الذي يخوّل لكل شعب الدفاع عن نفسه والحفاظ على امنه واستقلال كيانه السياسي. والتاريخ يشهد مقاومة الشعوب للقوات العدوانية المحتلة وابرزها في هذا العصر مقاومة غالبية شعوب القارة الاوروبية للاحتلال النازي واعتراف الدول الحليفة بهذا الحق، وقد كرست محاكمات مجرمي الحرب في نورمبرغ منح اعضاء المقاومة الشعبية حقوق المحاربين النظاميين وامتيازاتهم. وضمن هذه المنطلقات يعتبر الشعب اللبناني في حال الدفاع المشروع في مواجهة العدوان الذي تعرض له، ومن ثم يقع الاحتجاز لأي مواطن في خانة جرائم الخطف وحجز الحرية من دون مبرر وما يقترن بها من جرائم اخرى اشد خطورة كالقتل والاغتصاب والتعذيب، وهذا ما يقتضي اعتبارها من جرائم الحرب التي ترتب مسؤولية دولية على مرتكبيها ومن ثم محاكمتهم امام المحاكم الدولية التي تختص بالنظر فيها. ثالثاً: احتجاز المعتقلين واستحالة محاكمتهم: السؤال قد يطرح نفسه من جانب استمرار الاحتجاز من دون اجراء محاكمة للمعتقلين وهو اسوأ اصناف التعذيب والظلم، وهذا الواقع يكمن في كون عمل المقاومين للاحتلال لا يشكل جريمة بمقتضى التشريع الوطني او الاعراف والقوانين الدولية، وهذا ما اكدته المادة 11 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان وبذلك يصبح موضوع المحاكمة غير وارد على الاطلاق، اضافة الى ان سلطات الاحتلال لا تستطيع توريط نفسها بمسألة لا تستند الى اي اساس مشروع، على رغم ذلك عمدت هذه السلطات الى ارتكاب عمليات خطف اشخاص في عمق الاراضي اللبنانية ونقلتهم الى داخل السجون في اسرائيل لمحاكمتهم او المساومة لاطلاق سراحهم، وبذلك يتبيّن على هذا الصعيد ان وضع جيش لبنانالجنوبي في الواجهة لا ينفي عنها مسؤولياتها خصوصاً ان التحقيقات الخطيرة كانت تجريها مخابراتها من اجل كشف تنظيم افراد المقاومة الوطنية للقضاء عليها. وفي الجانب التفصيلي فإن احتجاز المعتقلين وان لم يكن في الامكان محاكمتهم للأسباب المشار اليها فإنهم تعرضوا لمختلف انواع الانتهاكات لحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم، ومثل هذه المسالك حرمتها المعاهدات والمواثيق الدولية ومنها اتفاقيات لاهاي الذي تضمنت ان المعتقلين يحتفظون بكامل اهليتهم المدنية ويمارسون الحقوق المترتبة على ذلك بقدر ما تسمح به حال الاعتقال المادة 80 كما تضمن الاعلان العالمي لحقوق الانسان انه لا يجوز اعتقال اي انسان او حجزه او نفيه تعسفاً م-9، كما لا يجوز اخضاع احد للتعذيب والعقوبة القاسية او اللانسانية او المحطة بالكرامة م-5، كما تكرست هذه القواعد في الميثاق الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة بتاريخ 16/12/1966. وبذلك يتبيّن لنا طبيعة المأساة في معتقل الخيام ومدى الآلام التي عانى منها الاحرار الذين احتجزوا وراء قضبانه الحديد السوداء من دون وجه حق لمدد غير محددة ومن دون امكان محاكمتهم خلافاً للقوانين الطبيعية للأنسان، وتعرضوا لشتى اصناف المعاملة المهينة وتوفي الكثير منهم اثناء احتجازهم، وهذه الافعال التي تأباها القيم الانسانية تتحمل مسؤوليتها اسرائىل والميليشيات المتعاملة معها في اطار قواعد القانون الداخلي وقواعد القانون الدولي ايضاً باعتبارها لا تمس فقط امن الوطن وسيادته واستقلاله، بل تتعلق بالعدوان واساءة معاملة الاسرى وانتهاك حقوق الانسان وحرياته الاساسية وهي قضايا تقع على عاتق المجتمع الدولي لأنها تخضع لبنود المعاهدات والمواثيق والاتفاقات التي ابرمتها الدول عبر هيئة الاممالمتحدة بهدف تحقيق الاستقرار والعدالة والسلام في عالمنا المعاصر. رابعاً: تعويض المعتقلين من الوجهتين المادية والمعنوية: ان مبدأ اصلاح الخلل الناتج عن اي فعل غير مشروع يمثل قاعدة عامة تجد جذورها في القوانين الوطنية والدولية ويرتب تبعاً لذلك تحديد المسؤولين عنه ومحاكمتهم، او بتأمين عمل لهم يمكنهم من العيش بكرامة حتى لا يشعروا بأن الوطن تخلى عنهم او كان غير وفي لتضحياتهم التي ساهمت في تحريره، وهذا الحق يشمل من باب اولى اهل الشهداء الاسرى الذين دفعوا حياتهم ثمناً لمواقفهم الوطنية المشرفة، مهما يكن من امر فإن هذا التعويض لن يكون مقابلاً لما قدموه من اجل الوطن بل مجرد موقف وفاء لتضحياتهم الكبيرة. وبالنسبة لهذا الوضع بالذات فإن العبء تتحمله الدولة اللبنانية بصورة مباشرة ومن حقها ان تطالب المجتمع الدولي بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم الدولية التي ارتكبت بحق الوطن والمواطن في لبنان، ومن ثم بتعويضها عن الاضرار الناجمة عن الاحتلال الاسرائىلي، سواء تعلقت بالمعتقلين او سائر المواطنين الذي اصابتهم كوارث الاحتلال. * استاذ في كلية الحقوق - الجامعة اللبنانية.