منذ ايام، وجه خمسة عشر محامياً فرنسياً رسالة مفتوحة الى رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، نشرتها الصحف العربية وبعض الصحف العالمية. كان ذلك تتمة لعدد من الاجراءات التي اتخذتها هيئة المحامين تلك، وأول تحرك علني لهم منذ التقوا قبل بضعة اشهر حول العمل من اجل اغلاق معتقل "الخيام" في جنوبلبنان المحتل، ومن اجل الطعن في وضعية المعتقلين اللبنانيين في السجون الاسرائيلية. قالوا في بيانهم انهم يطلبون زيارة موكليهم - زيارات المحامين وزيارات كل الهيئات الدولية ممنوعة في "الخيام" - وانهم يطلبون من رئيس وزراء اسرائيل وهو وزير دفاعها في الوقت نفسه، ان يطلق سراح موكليهم "كما كافة المعتقلين المحتجزين اعتباطياً في معتقل الخيام". وكانوا بذلك يتجاوزون التكليف القانوني لموكليهم الى المسؤولية عن المعتقل برمته. وكانوا خصوصاً يستبقون ما درجت اسرائيل على قوله، من ان المسؤولية عما يجري في معتقل الخيام تقع على "جيش لبنانالجنوبي". وهذا ميليشيا محلية، تقوم اسرائيل بتدريبها ودفع كل مصاريفها ورواتب جنودها وضباطها، كما اعترف في 7 تشرين الاول اكتوبر الماضي امام محكمة العدل العليا الاسرائيلية، دان هالوتز الضابط المسؤول عن قسم العمليات في الجيش الاسرائيلي، الذي استدعي للنطق بشهادته تحت القسم، واعلن انه يفعل بموافقة وزير الدفاع. وقال بيان المحامين ان اسرائيل مسؤولة عما يجري في جنوبلبنان وفق كل القوانين والاعراف الدولية. المحامون الخمسة عشر متعددو الانتماءات. بعضهم يساري يمتلك اصلاً موقفاً نقدياً من اسرائيل، متفاوت الجذرية بين واحد وآخر. اغلبهم ديموقراطيون مؤمنون بالقانون وبمبادئ حقوق الانسان. بينهم خمس نساء، منهم شبان يبدأون حياتهم المهنية واغلبهم ممن اشتهر بسبب مواقف علنية او براعة مهنية. بينهم الرئيس الحالي للفرع الفرنسي لمنظمة العفو الدولية كما رئيسها السابق، وهما حاضران في الهيئة بصفتهما المهنية الشخصية. بعض المحامين ينتمون الى الديانة اليهودية… بدأوا الاهتمام بما يجري في معتقل الخيام بسبب الحملة العالمية التي اثيرت حوله. ولأنه مكان ملتبس قانونياً، ولأنه مكان ظل مغلقاً باحكام تام، منذ انشائه عام 1985 وطوال عشرة اعوام، على كل اتصال بالعالم الخارجي وعلى زيارات الاهل او رسائلهم، ولأنه يجري اعتقال الناس فيه جماعياً واعتباطاً، ولأنه تحتجز فيه نساء واطفال، ولأن سهى بشارة امضت فيه عشر سنوات واتيحت لها فرصة رواية ذلك في وسائل الاعلام الغربي، ولأنه يشبه او يذكّر بمعتقلات اخرى في العالم يعرفها الاوروبيون جيداً، من دون ان تثير هذه المعرفة الحساسية الخاصة التي تثيرها كل المسائل ذات الصلة باسرائيل، لذلك كله كان معتقل الخيام مداناً تماماً بحسب مقاييسهم القانونية والفكرية والاخلاقية. فتشكلوا حوله. وكانت اولى الخطوات معهم، او بالأحرى اولى خطواتهم، ان تحسم في نفوسهم المسؤولية عن هذا المكان المدان. هل اسرائيل مسؤولة عن المعتقل؟ إنها كذلك بحسب القانون الدوليإنما هل هي كذلك واقعياً؟ هل تدير، هل تتدخل، هل تعرف؟ لم يكن الامر مجرد تدقيق اعتاد عليه، بحكم المهنة، محامون متطلبون للقرائن والاثباتات. كان في ذلك الاحتمال مخالفة لكل ما تعلموه حول "واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط"، وحول ان اسرائيل دولة قانون بالمقاييس الاوروبية. كانت القناعة الاولى تلك - ان اسرائيل مسؤولة قانونياً وواقعياً عن معتقل الخيام - غاية في الازعاج، الا انهم وصلوا اليها بسرعة، ساعدهم على ذلك، علاوة على الوقائع والقرائن، تقارير منظمات دولية عرفت باعتدالها الشديد، "منظمة العفو الدولية" وك"هيئة الرقابة على حقوق الانسان" الاميركية. وساعدهم كثيراً موقف زملائهم المحامين الاسرائيليين العاملين مع المعتقلين العرب، الذين حملوا اليهم مرافعاتهم ومقالات تنشر في بعض الصحف الاسرائيلية وتدين بقسوة بالغة ما يجري في معتقل الخيام، دون ايما التباس حول مسؤولية اسرائيل بصدده. لكن تطلّبهم ذاك اوصلهم بالضرورة الى خارج اسوار معتقل الخيام، الى ممارسات الاحتلال الاسرائيلي في جنوبلبنان، الى وقائع اخرى: لم يبق في الشريط المحتل سوى اقل من ربع السكان. هناك قرى كعيتا الشعب وحولا وشبعا وأرنون، تفرّغها اسرائيل بواسطة الاعتقال الجماعي لسكانها او بواسطة الطرد الصريح. بنت جبيل، كبرى مدن القطاع، تحول عدد سكانها من خمس واربعين الفاً إلى الفين وخمسمئة. لماذا يمكن ان تُعتقل امرأة في السبعين، لماذايمكن ان يُعتقل طفل في الثانية عشرة؟ تعرفوا بذلك على النظام القائم حول نقطة بدايتهم، اي معتقل الخيام. قادهم ذلك الى الاكتشاف الثاني الكبير: الاعتقال الاداري واحتجاز معتقلين كرهائن للمقايضة. تعرفوا على المعتقلين اللبنانيين الثلاثة والاربعين في سجون اسرائيل، في عسقلان والرملة ونفحة ورفح والصرفند… عرفوا ان هناك آلاف المعتقلين الاداريين الفلسطينيين، وان المرء يمكن ان يمضي عشر، عشرين سنة او عمره كله وهو في حالة الاعتقال الاداري. قرأوا المطالعة التبريرية للمحكمة العليا الاسرائيلية، التي استندت الى قانون الاعتقال الاداري لتعلن ان المعتقلين اللبنانيين الواحد والعشرين، الذين انهوا محكومياتهم، منذ مدد تراوح بين بضعة اشهر وعشر سنوات، او الذين لم يحاكموا البتة، هؤلاء تستمر اسرائيل في احتجازهم "ليس لأنهم بذاتهم يمثلون اي تهديد للأمن، ولكن لأنهم وسائل للمقايضة، وهم محتجزون لاتمام هذه الغاية وليسوا مستهدفين بذاتهم". اكتشفوا ان القاضي أهارون باراك رئيس المحكمة العليا الاسرائيلية/ الذي حرر المطالعة، هو نفسه من نال جائزة "العدالة في العالم" التي منحت له العام الفائت، فور تأسيسها، بمناسبة الذكرى الخمسين للاعلان العالمي لحقوق الانسان! اكتشفوا البشر خلف الارقام والوقائع المجردة. هذا غسان الديراني يعاني من مرض عصبي حاد. اعتقلته ميليشيا "القوات اللبنانية" عام 1989 في مرفأ بيروت ثم سلمته الى اسرائيل بعيد الاعلان عن التوصل الى اتفاق الطائف، حين بدا جلياً ان الميليشيات لن تتمكن من الاحتفاظ بمراكز وسجون. امرت محكمة تل ابيب الابتدائية باطلاق سراحه نظراً لحالته الصحية المتردية بشدة، الا ان المحكمة العليا نقضت الحكم. وهذا بلال دكروب، اختطف من تبنين عام 1986 وبعد ايام من الاحتجاز والتعذيب في مركز "ال17" للتحقيق في بنت جبيل، نقل الى اسرائيل وحجز افرادياً في سجن الصرفند لمدة ثلاثة اشهر ثم حوكم امام محكمة اللد العسكرية بتهمة "الانتماء الى تنظيم محظور" وحكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف العام، اذ لم يجدوا ما يمكنهم ادانته عليه، وانتهت مدة محكوميته في آب اغسطس 1989، وهو ما يزال هناك! وفي حزيران يونيو الماضي، حضر الى باريس اربعة شبان امضوا اثني عشر عاماً في سجن عسقلان. وأدلى اصغرهم سناً، نبيه عواضة، بشهادته امام المحامين. وقال انه احتجز لسنتين في ما يشبه سجن الاحداث، لأنه كان في السادسة عشرة من عمره ثم حوكم حين بلغ الثامنة عشرة، هو ورفاقه، بتهم هي "الانتماء الى تنظيم محظور وحمل سلاح بلا ترخيص ومقاومة جيش الدفاع الاسرائيلي"، وكل ذلك على ارض لبنان! كان المحامون وهم يدرسون ويقارنون القوانين ويطلبون آراء الخبراء، ويكتشفون ان اتفاقيات جنيف تحظّر نقل اسير من بلد الى آخر وان المحاكمات برمتها غير قانونية حتى لمن اعتقل والسلاح في يده، وان هناك وضعية لما يسمى اسير حرب، حسب المواثيق الدولية، لا تأخذ بها اسرائيل. كانوا اثناء التمحيص يتعرفون على الاشخاص، على صورهم وعلى رسائلهم لاهاليهم. قرأوا رسائل انور ياسين الى امه، سمعوا من ليا تسيمل، المحامية الاسرائيلية، كيف ان اسماعيل الزين يتقن العبرية "حتماً افضل من ابن رجل دين او لغوي يهودي". قالت انه دافع عن نفسه في المحكمة بمنطق قانوني "جدير بخريجي السوربون". قرأوا رسالة بلال الموجهة الى اهله عام 1990، يقول فيها ان شهر آذار مارس على الابواب وان فيه عيدين، عيد المرأة في الثامن منه، وعيد الأم في اول يوم من الربيع، وانه، بهاتين المناسبتين، يتوجه بالتهنئة الى زوجات اخوته، ويطلب بالمناسبة وضع باقة من الورد الاحمر والابيض على ضريح أمه. اغرورقت عينا اصغر المحاميات سناً. واصاب احمرار وجه محام آخر. ساد صمت لثوانٍ. لعلهم احسوا ان "هؤلاء" مثلهم، لعلهم اكتشفوا ان "هؤلاء" اقرب اليهم من اهارون باراك، القاضي اللامع والمثقف الكبير على الطراز الاوروبي. رويداً، حل مكان تعبيري "زبوني" او "ووكلي" المستخدم في سياق الحديث - علماً ان جميع المحامين لا يتقاضون اي بدل مادي مقابل عملهم هذا - حل مكانهما تعبير غالب: "معتقلي"! رويداً، اصبح احد المحامين، وهو يهودي المذهب اعتاد التردد على اسرائيل لزيارة الاقارب او للاجازة، يضيق ذرعاً بالاجراءات التي تحيط بسواه هناك… وفي الدردشة الجانبية بعد آخر لقاء لهم، قال احدهم، وهو ربما اكبرهم سناً وأكثرهم اعتدالاً، ان اسرائيل تمتلك بنية ديموقراطية لا يستفيد منها فعلياً الا اليهود، وان العرب، الفلسطينيين كما أي عربي تسوقه الظروف للوقوع في قبضة اسرائيل، لن يجد امامه الا استخداماً شكلياً وملتوياً للديموقراطية وانه سيخضع فعلياً لنظام تمييز يذكره بجنوب افريقيا، "مع كل الفوارق في الظروف والمعطيات"، قال مستدركاً. وقال انه "قلق على اسرائيل" لأن هذا تناقض بنيوي لا يسلم منه احد الا بثمن باهظ. سأله محادثه عن الثمن فأجاب: القيم. ليست الغاية ان تتحول هيئة المحامين الخمسة عشر الى مجموعة مناضلين ضد اسرائيل. وهم لو شاؤوا ممارسة العمل الاعلامي بالدرجة الاولى، لامكنهم بسهولة التوسع وضم عشرات المحامين الذين ابدوا استعداداً لذلك. بل الغاية ان يستمروا كهيئة اعداد قانوني ومتابعة قضائية للملفات الخاصة بمعتقل الخيام وبالمعتقلين في سجون اسرائيل، وهو ما بدأوا به فعلاً وما ينوون متابعته على كافة الصعد وصولاً الى جعل قرار الاحتجاز الاداري وقرار اجازة إتخاذ رهائن للمقايضة، قرارات غير قابلة للاستمرار.