منذ ايام وانا انام مع ديوان احمد شوقي "الشوقيات"، فقد تلقيت طبعة جديدة منه، حققها الدكتور علي عبدالمنعم عبدالحميد، ونشرتها الشركة المصرية العالمية للنشر: لونغمان. وقد احيت الطبعة الجديدة اهتمامي بشعر شوقي، فهي انيقة محققة موثقة، وافية الشروح، في حين ان نسختي السابقة من الديوان التي صدرت عن دار الكتاب العربي في مجلدين، كانت ناقصة وبها اخطاء واضحة. احمد شوقي كان تركي الهوى نشأ على باب القصر، وهاجم عرابي وتأخر في رثاء مصطفى كامل وذِكْر حادثة دنشواي. ولعلّ حسّه الوطني لم يشتد الا بعد الاستقبال الشعبي الحافل له لدى عودته من المنفى، مع تسجيلي ان له بعض الشعر الوطني الذي سبق اقامته في اسبانيا. غير انه يبقى شاعراً عظيماً تنصفه الطبعة الجديدة من ديوانه. وفي حين انه شاعر متأخر فهو استطاع ان يقول في الخمر ما عجز ابو نواس عن الاتيان بمثله: حف كأسها الحبب فهي فضة ذهب ومع ذلك فقد كان ثابت الايمان، عميقه، قال "نهج البردة" و"سلوا قلبي" و"الهمزية النبوية"، وله في الاخيرة بيت عبقري جمع ارث الاسلام كله هو: والدين يسر والخلافة بيعة والامر شورى والحقوق قضاء واختار له من "نهج البردة" التي بدأها غزلاً تقليدياً: ريم على القاع بين البان والعلم... آخر بيت فيها: يا ربُّ احسنت بدء المسلمين به فتمم الفضل واجعل حسن مختتم واكتب عن شوقي من وحي الطبعة الجديدة للديوان، واحاول ان اتجنب المعروف من شعره والمشهور، ما امكن. وتوقفت عند قصيدته عن نكبة بيروت بعد ان ضربها الاسطول الايطالي خلال الحرب العالمية الاولى، وقصيدته عن "نكبة دمشق" بعد ان ضربها الفرنسيون بالمدافع سنة 1925، وفي هذه القصيدة الاخيرة بيت الشعر المعروف: جزاكم ذو الجلال بنو دمشقٍ وعزّ الشرق اوله دمشقُ واسأل ماذا كان قال شوقي لو رأى نكبات بيروت اللاحقة حكى لي جدي مرة انه عندما كان الاسطول الايطالي يظهر في البحر يبقى القناصل في دورهم لأن الايطاليين كانوا يصيبون كل شيء ما عدا الهدف. اما اذا جاء الاسطول الالماني فكان القناصل يهربون لأن هذا لا يصيب الا هدفه. ابقى مع شوقي فقد كان شاعر القصر ولم يعتذر، وهو القائل: أأخون اسماعيل في ابنائه ولقد ولدت بباب اسماعيلا وقد كان من الشاعرية انه عندما فاضل بين توت عنخ امون، فرعون العالم المعروف في زمنه، وفؤاد صنيعة الانكليز، استطاع منطقياً ان يفضل الثاني على الاول فقال: زمان الفرد يا فرعون ولى ودالت دولة المتجبرينا... فؤاد اجل بالدستور دنيا واشرف منك بالاسلام دينا شاعر القصر هذا هاجم عرابي فقال: صغار في الذهاب وفي الاياب اهذا كل شأنك يا عرابي وهو عندما انتقد رئيس الوزراء رياض باشا لابتعاده عن القصر، اكثر من تملّقه اللورد كرومر، عاد الى عرابي فقال: افي السبعين والدنيا تولت ولا يرجى سوى حسن الختام تكون وانتَ انتَ رياض مصر عرابي اليوم في نظر الانام ويبدو انه عاد فغير رأيه في رياض باشا فرثاه قائلاً: ابا الوطن الاسيف بكتك مصر كما بكت الاب الكهف البنات ورثاؤه سعد زغلول كان اعظم وقعاً، فقال: شيعوا الشمس فمالوا بضحاها وانحنى الشرق عليها فبكاها غير انه لم يجد ما يقول في رثاء ابيه سوى: يا ابي ما انت في ذا اول كل فرد للمنايا طرف عين وهو من نوع كلام العامة "كلنا لها". وهو رثا بطرس غالي باشا بعد ان اغتاله ابراهيم الورداني سنة 1910، ولكن أهم من رثائه هذا كان قوله، وقد خشي فتنة بين المسلمين والاقباط: بني القبط اخوان الدهور رويدكم هبوه مسيحاً في البرية ثانياً ويضيق المكان فأتوقف عند قصيدة له عن الصحافة اولها: لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف ولو عاش شوقي الى يومنا هذا لقال التلفزيون بدل الصحف، غير ان التلفزيون "يدش" البيت دشاً، لذلك ربما وضعنا محل الصحف "الدشش" وهذه جمع "دش" لا دشداشة. وقال شوقي بيتاً واحداً: قف دون رأيك في الحياة مجاهداً ان الحياة عقيدة وجهاد ليكون شعاراً لجريدة "الجهاد"، الا ان هذه اغلقت واصبح عجز البيت شعار جريدتنا هذه. واختتم بالطبعة الجديدة، كما بدأت، فهي ممتازة، وكنت اتمنى لو أنها لم تقسم على اغراض الشعر من مدح ونسيب ورثاء وغيرها، فهذا اسلوب تقليدي، وكان افضل لو جاءت القصائد حسب تاريخ قولها فتعطي القارئ فكرة افضل عن تطور شاعرية شوقي ومواقفه السياسية والاجتماعية. كذلك بدا الدكتور علي عبدالحميد قادراً لو شاء على اتحافنا بفوائد اعرابية كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي في شرح ديوان المتنبي، الا انه لم يفعل. بل ان شرح الابيات كان اطول في بداية الديوان من نهايته فكأن المحقق تعب. غير انني وقد قضيت ليالي ممتعة من الديوان لا أنتقد الدكتور عبدالحميد، وانما اشكره.