يسجل «رثاء المدن في الأندلس» – كما يقول الدكتور عبدالله محمد الزيات – كفاح أمة، وجهاد شعب، في فترة زمنية تمتد لأكثر من ثمانية قرون، تؤرخ لعبور العرب والمسلمين مضيق جبل طارق ومن ثم خروجهم من آخر مملكة لهم في غرناطة. لهذا، فقد حفلت هذه الدراسة الأكاديمية بمراجعة كل ألوان شعر الرثاء وفنونه في كل الحقب التاريخية، بحيث يتسنى للباحث توصيف المراحل الشعرية التي قطعها فن رثاء المدن، على أيدي الشعراء الذين حذقوه وعاشوا مرارته وذاقوا طعمه فتشكل على أيديهم في قصائد ودواوين، صنفت في خانة بكائيات الديار التي عرفها الشعر العربي على مرّ العصور. وهناك الكثير من الباحثين الذين وقفوا على هذا الفن أثناء دراستهم شعرَ الأندلس مثل د. عبدالعزيز عتيق وإحسان عباس ومصطفى الشكعة وفوزي سعد عيسى وسعد إسماعيل شلبي وعمر الدقاق ومحمد رجب البيومي والطاهر مكي وجودت الركابي وإبراهيم علي أبو الخشب، من دون أن يعرف أحدهم الاختصاص بهذا اللون الأندلسي الفريد، وإن كانوا تناولوا نقاطاً أو أجزاء من شعر رثاء المدن من دون استقصاء. وقد شذّ عنهم جميعاً الدكتور عبدالله محمد الزيات في هذا الكتاب، بحيث وقف بحثه فيه جميعاً على تقصي الأمور الآتية في العمق وفي شكل دقيق ومفصل: 1- تحدث الباحث عن مفهوم شعر رثاء المدن، وعن نشأته وتطوره، وعن ضياع قسم كبير منه، وعن الشعراء الذين اشتهروا به في مبتدأ حياتهم في الأندلس. وقال أن رثاء المدن يشمل على وجه مخصوص تلك التي فقدت بأهلها وعمرانها وحضارتها بسبب غارات القشتاليين عليها وحقدهم على العرب والمسلمين. وينقل عن فؤاد جبور حداد قوله: «كان العرب يرثون المدن التي تسقط في الأندلس رثاءهم بمفقود عزيز، لأنهم كانوا يعرفون أنها لن تعود أبداً، وأن شخصيتها العربية قد انسلخت عنها. 2- ويتحدث الباحث عن المدن التي سقطت في الحروب الداخلية، فبكاها الشعراء، ويخص قرطبة التي بكاها ابن شهيد الأندلسي وابن حزم الأندلسي وأبو عبدالله بن أبي الخصال. كما يذكر مدينة البيرة التي بكاها أبو إسحاق الإلبيري، وآلمرية التي بكاها ابن الحجاج اللرقي، وهذه المدن كما يقول عنها، سقطت أمام المسلمين في حروبهم الداخلية. وقد بكا اللرقي مدينة حمص في الأندلس فقال: عدمت بصيرتي وسداد رأيي / ولوعاً بالحديث المستفاض / وصرت مؤملاً أملاك حمص / ورود الهيم مسفرة الحياض 3- أما المدن التي سقطت أمام القشتاليين ورثاها العرب، فهي طليطلة وسهيل وبلنسية وقرطبة وجيان وإشبيلية وغرناطة وبربشتر. ويقول عن إشبيلية أنها حازت البر والبحر والزرع والضرع وكثرة الثمار، وهي عروس الأندلس وأنها كانت مركزاً من مراكز العلم والحضارة خلال كل العهود بالأندلس. والكتب التي أرخت للعلم والحضارة الإسلامية العربية غنية بالأسماء المنسوبة إلى إشبيلية وهي بالآلاف. 4- ويفرد الباحث فصلاً مهماً للشعراء الذين رثوا الأندلس بصفة عامة، ويلحق ذلك بخريطة تبين المدن التي ذكرها الشعراء. ومن هؤلاء: أبو جعفر الوقشي وإبراهيم بن خلف بن فرقد العامري وحازم القرطاجني وأبو البقاء الرندي ومالك بن المرحل وأبو عامر بن المرابط. وقد كتب هذا الأخير يقول: هل من معيني في الهوى أو منجدي / من متهم في الأرض أو من منجد فردّ عليه مالك بن المرحل: شهد الإله وأنت يا أرض اشهدي / أنا أجبنا صرخة المستنجد ويقول الأمير شكيب إرسلان في هذا المجال: «وأحوج طائفة من أخبار الأندلس إلى التدوين، ما تعلق بدور الجلاء وعصر الخروج من بلاد، كانت مدة الضيافة فيها 800 عام» (خلاصة تاريخ الأندلس ص 7). 5- ويتحدث الباحث عن موضوعات شعر رثاء المدن في الأندلس، فيذكر ما هو في باب الحنين إلى الوطن، وما هو يقع في باب الدعوة إلى الوحدة والتحريض على الجهاد. ويذكر أسباب السقوط ويقدم النماذج الإنسانية في الشعر الباكي. ويتناول الحديث عن الصراع بين القشتاليين والعرب في الأندلس. ونراه يفرد بحثاً خاصاً في مديح المدن والأشخاص. وهو يرى أن الأندلسيين اشتهروا بشعورهم الوطني القوي وتعلقوا بوطنهم تعلقاً عميقاً. وعبروا عن ذلك الحنين في قصائد طويلة، كما فعل ابن خفاجة وهو يحن إلى جزيرته شقر وإلى شرق الأندلس. وكما فعل ابن حمديس حين ناجى وطنه عن بعد، حيث قال عنه مصطفى المصراتي: «صور الحنين لوطنه في كل قصيدة ومناسبة» ويقول مصعب بن محمد في الحنين إلى جيان: أيا نخلتي جيان بالله أسعدا غريباً، / بكى من فقد أهل وجيرانِ / يحن إلى ظليكما، وفؤاده / رهيف بأظعانٍ حللن بجيانِ 6- وفي البناء الفني لقصيدة رثاء المدن، نرى الباحث يتوقف عند الموسيقى في القصيدة، إن من حيث الوزن أو من حيث القافية أو من حيث تصريع الأبيات والضرورات الشعرية المستعملة والموسيقى الداخلية التي تنساب في الأبيات. يقول مثلاً أن قصيدة حازم القرطاجني، كانت مركزة تركيزاً كبيراً في غالبيتها بالموسيقى الداخلية التي تحدث من تكرار حرف بالبيت أو صيغة معينة، يقول: وقد صفا العيش لنا بمنزل / قد سال صفو مائه من الصفا 7- ويتحدث عن لغة القصيدة في رثاء المدن، فيذكّر بالأخطاء النحوية والمصطلحات النحوية، وبالارتفاع إلى مستوى الرثاء وبهبوط مستوى القصيدة وبكثرة روافد شعر الرثاء من القرآن والأمثال والشعر العربي القديم. فابن عميرة يستوحي التراث الشعري السابق حين يذكر الأماكن، ويحن إلى أهله في موطنه بلنسية التي دهمها القشتاليون. ويشبه الأندلس بالجنة التي أخرج منها آدم فيقول: وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم / فصاروا إلى الإخراج من جنة الخلد 8- إلى ذلك نرى الباحث يتوقف عند أسلوب القصيدة في «رثاء المدن» فيعدد من صفات أسلوبها لدى الشعراء: التقديم وحسن الابتداء وترتيب الموضوعات وحسن ختام القصيدة وحسن الانتقال بين موضوعات القصيدة. واستلهام ذكر الناقة والسفينة والأطلال والدعاء بالسقيا للمدينة المرثية ووصف ما يميز المدينة المرثية. من دون أن ينسى ذكر الخطابية والمبالغة وذكر الأعلام والأشخاص والمواضع. وتوقف أيضاً عند التصوير البياني وعند التشخيص وبين بالجملة المفارقات التصويرية في القصيدة الرثائية للأوطان. يقول أن «من المفارقات التصويرية التركيز على المرأة التي كانت محجبة قبل سقوط المدينة فأصبحت مسافرة ومجبرة على السفور بعد السقوط». وقد جعل الباحث في خواتيم دراسته ملحقاً أورد فيه قصائد لشعراء أندلسيين رثوا بها المدن: فهناك قصيدة لابن شهيد يرثي فيها قرطبة، حيث يقول: فلمثل قرطبة يقل بكاء من / يبكي بعين دمعها متفجر ورثاء ابن حزم قرطبة أيضاً ورثاء مسمطة بن أبي الخصال قرطبة والزهراء. وندب الشاعر السميسر الزهراء، حيث يقول: وقفت بالزهراء مستعبرا / معتبراً أندب أشتاتا ورثاء أبي إسحاق الإلبيري مدينة البيرة: أتندب أطلال البلاد، ولا يرى لإلبيرة/ منهم على الأرض نادب كما أورد مرثية لمدينة اللرقى من شعر ابن الحجاج اللرقي. وقصيدة لابن العسال لمدينة بربشتر ولمدينة طليطلة. كما أورد مرثية طويلة لطليطلة قال أنها لشاعر مجهول. وأورد قصيدة ابن خفاجة في رثاء بلنسية. وقصيدة أخرى في رثائها وهي لأبي الوليد الوقشي وقصيدة في رثاء مدينة سهيل للشاعر أبي القاسم السهيلي. ورثاء لبلنسية من شعر أبي المطرف بن عميرة. وهو الذي يقول في رثاء مدينة شقر مسقط رأسه: شقر، وما شقر، وأيك حوله / تسلي النفوس بصائح أو صادح إضافة إلى رثاء ابن الأبار مدينة بلنسية واستنجاد ابن عبيد مدينة جيان ورثاء أبي موسى هارون إشبيلية. واستنجاد ابن الأحمر بيعقوب المريني وهي من شعر ابن المرابط وختم بذكر قصيدة لشاعر قال أنه منصر، وهي في رثاء غرناطة، ذكر فيها الأندلس ومأساة المنصرين فيها، يقول فيها: شكونا لكم مولاي ما قد أصابنا / من الضر والبلوى، وعظم الرزية / غدرنا، ونصرنا، وبدل ديننا / ظلمنا، وعوملنا بكل قبيحة