كان الهواء عذباً يلعب بخصلات الشعر على الجباه الكويتية الحنطاوية، وضجة مقهى "سبلندد" تبعث الانتعاش في النفس وتزيد من ألق الحياة، وكان النادل "جورج" المعروف عند الكويتيين منذ صغره، يتنقل بحيوية بين الطاولات المملوءة بشباب نضر، وبشابات يتهامسن تارة ويضحكن بجذل وبراءة تارة أخرى، وبعائلات خط الشيب ما تبقى من شعر الأب وترك مسحة سحر واسترخاء وهناء على وجنة الأم وبناتها، بينما تراكمت أكياس التسوق تحت أقدامهن. واكتسى وادي بحمدون بخضرة الصنوبر على مد النظر، وعانقت نتف الغمام قمم الجبال الشامخة، وانساب صوت فيروز كالنبع الصافي بين الصخور، واكتظت أرصفة بحمدون بالكويتيين والكويتيات بمواكب فرح وعافية "يكزدرون" من وإلى فندق الكرمة نزولاً وصعوداً. وعبر الشارع مقهى "الإكستاز" أسفل مبنى يتكون من طوابق عدة، حيث المنظر اليومي المألوف لعامل لبناني في أواخر خمسينياته، ينظف زجاج النوافذ وهو معلق على سقالة مربوطة بحبال، وهو وضع يوحي بالخطر. كان العامل يعمل طوال النهار في تنظيف زجاج مباني بحمدون - المحطة وهو بلباس العمل الكاكي، وفي الليل يتحول الى شخص آخر تماماً، يلبس حلة داكنة ويضع وردة حمراء في ياقتها. أثار هذا الرجل فضولنا، فدعوناه الى طاولتنا في "سبلندد" كي يشاركنا فنجان قهوة، وكانت فرصة لسبر أغوار شخصيته التي كانت تشكل لغزاً بالنسبة إلينا، واتضح أن للرجل ثقافة جميلة وموهبة في الفن التشكيلي، وعندما ارتفعت حواجبنا دهشة بعد أن سألناه: كيف؟! أجاب بثقة: هكذا الحياة في لبنان، نعمل بجد من أجل معيشتنا، ونستمتع بحياتنا في وقت الراحة. - لكنك تقترب من الستين! - "شو عليها"... ما زلت أعيش. كان ضابطاً متقاعداً، لكن وضعه السابق وسلطته لم يمنعاه من العمل كعامل تنظيف، وكانت له طموحات لإعادة بناء بيته في بحمدون الضيعة، ثم يسافر الى باريس كي يدرس الفن التشكيلي. منذ ذلك الحين وأنا معجب بإرادة الشعب اللبناني وروحيته وعلى رغم ألمي الشديد أثناء أحداث الحرب الأهلية في لبنان، إلا أني لم أفقد إيماني بإرادة الحياة لدى هذا الشعب، وبالفعل كانت المنازل تهدم بالقصف ويباشر الأهالي بإعادة بنائها فوراً، ولم تستطع المآسي قتل روح الشعب اللبناني، بل كان الشعر والفن والفرح وحب الحياة والوطن وقود الإنسان في ذاك المكان الجميل. لذا لم أفاجأ بتحرر الجنوب بعد نضالات ومقاومة باسلة، فعندما تريد معرفة شعب ما، إبحث عن ثقافته بمفهومها الشامل والمتعدد التفاصيل والتي شكلت سيكولوجيته ونمط سلوكه وتفكيره. هذا الشعب انتهج الطرق التي تؤدي الى الحضارة، مثل التعددية والديموقراطية والسلم والتآخي مع الشعوب الأخرى، واعتماد الثقافة والانفتاح كخيار وهوية. لذا سيظل لبنان مستهدفاً في مشروعاته الحضارية داخلياً وخارجياً، مثله مثل الكويت تماماً. * كاتب كويتي.