التماثيل الكثيرة المنصوبة على طرفي طريق السفر، لم نكن نلمحها. تعتادها العين إلى درجة النسيان. مثلها مثل إسفلت الشارع وبلاط الرصيف والجبال الصخرية التي تتخذ أشكال وجوه تخفت ملامحها أو تتوهج وفق الضوء. لو أنهم يعلمون كيف تصبح تلك الكتل جزءاً عادياً من المشهد، بحيث يتوقف الإنسان عن التفكير بها. تصبح من البديهيات. كالصلاة والوضوء. كركوة قهوة وعلبة شاي. أذكر أن واحداً من التماثيل كان يستدرجني الى الضحك، وكنت أنتظر المرور بمحاذاته قبل أن نصل إلى حمص. تمثال نصفي يظهر فيه حافظ الأسد وكأنه يجلس في منتصف الطريق، وحيداً، متربّعاً. وكانت تلك الوضعية متناقضة مع صورته في مخيلة الناس. البعض يتساءل إن كان في الإمكان لمسه أم أنه مجرد صورة؟ بينما سقط بشار من الصورة منذ الأشهر الأولى لتولّيه الحكم. ليس هنالك أسهل من أن يتخيله الناس وهو يأكل أو يضحك بفم ملآن ويقهقه. لا يصعب تخيله نائماً أو متربعاً على الأرض. لم يستطع أن يصبح زعيماً. ولا أن يكون شخصاً عادياً كذلك. مجرد فراغ موجع. في القرية الساحلية، لم يكن الناس مشغولين بالصورة أيضاً ولا بالتمثال. لم تكن تعنيهم برامج التلفزيون الرسمي مثلاً. التلفزيون هناك يلتقط المحطات اللبنانية الكثيرة. يمضون الوقت في متابعة البرامج الصباحية وأحدث الأغاني والمسلسلات. وفي الليل، يروح البعض يفتش عن محطات تركية مشوشة وغير واضحة علّه يحظى بمشهد قبلة على الأقل. لم تكن صورة الرئيس حاضرة في الجلسات الخاصة والأحاديث بين الأصدقاء. بيوت الضيعة الحجر، المبنية وفق طراز معماري عتيق، تحوّلت مع الزمن إلى كتل إسمنتية، تعلو الطابق الأرضي. كل ابن يعمّر طابقاً ليسكنه مع عائلته. سطح البيت هو المكان المشترك الذي تمضي فيه العائلة سهرات الصيف الرّطب والحارّ. والسطح ذاته يتحول مع زواج ابن آخر إلى بيت جديد، يعلوه سطح جديد، وهكذا. بيوت الضيعة تطلّ عادة على البحر. يظهر أغبر خلف دخان معمل إسمنت بني قبل سنوات طويلة باثاً وسخه على أشجار الزيتون. في السنوات العشرين الماضية، لم يعد البحر متاحاً. ابتلعته قصور ضباط ينتمون إلى تلك القرى، وقد لا يمضون في قصورهم تلك سوى إجازات قصيرة في الأعياد أو في عطلة نهاية الأسبوع وفي بعض أيام الصيف. يغلب على تلك القصور طراز معماري يمزج الحداثة بالابتذال. رخام أبيض لا يلبث أن يكسوه الغبار، يغلف تلك القصور المبنية كصناديق كرتون متراكمة فوق بعضها بعضاً. وأذكر أن بعض تلك القصور لا يمكن تمييزها عن قصور الرّمل التي يبنيها الأطفال على شاطئ البحر. تعلو فوق شرفاتها أعمدة مسنّنة، تزنّرها أسوار من السيراميك مدوّرة كفساتين العرائس «الكشكش». ثمة نزعة طفولية خيالية تطغى على تلك القصور الفارهة. هذا عدا عن تلك التي يعمّرها ضباط كبار في الجيش على قمّة أعلى جبل يطلّ على ضيعهم. ومن يعبر طرقات الساحل السوري، يجد صعوبة في تسلّق تلك الجبال بعينيه، ليصل إلى القمة ويتأمل قصراً بعيداً، هناك، فوق، يلامس السماء. وطبعاً، ثمة طرقات خاصة تُشقّ في الجبل للوصول إلى تلك القصور. حماة الديار هم من يعمّرون تلك القصور. يمضون أياماً بلياليها وهم ينفذون أوامر المهندس المشرف. وعملهم طوعي في طبيعة الحال. ينالون لقاءه إجازة قصيرة من العسكرية مثلاً أو في أحسن الأحوال، نقلهم إلى قطعة عسكرية أخرى أقرب إلى المحافظة التي يتبعون لها. في الصيف، تحمل العائلة عدّة السهر وتصعد إلى السطح غير المجهّز عموماً بأي وسيلة راحة. يحملون كراسي الخيزران وطاولات خشب صغيرة ومسجّلة (يلتقط الراديو هناك معظم الإذاعات اللبنانية وبعض المحطات التركية). إبريق ماء ساخن وكؤوس صغيرة مملوءة حتى المنتصف بالمتّة والبعض يفضّل العرق أو البيرة المحلّية. يلعبون الورق ويستمعون إلى الأغاني. يتحدثون، يصرخون، يضحكون، يتعاركون. القصور تنتصب أمام الكثير من تلك الأسطح. هدير المكيفات يعكّر صفاء الليل ويطغى على أصواتهم. عائلة الضابط تمضي سهرتها في حديقة القصر أو على إحدى شرفاته، تمارس الطقوس ذاتها (لعب الورق - احتساء المتة أو العرق أو البيرة - تجاذب أطراف الحديث)، باستثناء أن الكراسي تكون وثيرة وبعضها هزّاز وثمة مظلات تحجبهم عن عيون الجيران. وعموماً، لا يجد أهالي الضيعة البسطاء مشكلة في أن تظهر بناتهم بملابس خفيفة في الصيف، كنزات بلا أكمام وتنانير قصيرة وشورتات ومايوه بقطعتين على الشاطئ على عكس عائلات الضباط المحافظين بعض الشيء. إذ تختبئ بناتهم عن أعين «عامّة» الشعب في الضيعة وعلى شاطئها. وكأنّهن دُرَرٌ تجب حمايتها من عيون ال «عامّة». أو أن شعوراً ضمنياً يفور في صدور الضباط بأنّ بناتهم أثمن من أن يلمح شبان الضيعة البسطاء أجسادهنّ، خصوصاً أن الكثير من الضباط يلقّبون بأسماء بناتهم مضافاً اليها «ال» التعريف وليس بأسماء أبنائهم (أبو الرّيم، أبو النّدى، أبو الرّنا...). طبعاً تلك القصص تنتمي إلى الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، أي قبل أن يتسلّل التشيّع إلى الساحل السوري... وقبل أن يتبدّل شكل الحياة في الضيع المحكومة بعوامل اقتصادية ودينية واجتماعية. اللافت، أن حظوة الضباط لم تكن محدودة في عالم المدن الكبرى فقط، بل تسود أيضاً ضمن العائلة القريبة. الأخ الضابط مهما صغر سنّه هو المرجعية. وعندما يزور الضيعة في إجازة، يتحوّل قصره إلى مزار تؤمّه الضيعة كلها. وأذكر أن تلك السطوة يفرضها الجيل الأكبر. وأذكر أيضاً أن أولاد إخوة وأخوات الضابط يتذمّرون في أحيان كثيرة من نفوذ عمّهم أو خالهم. إذ يلاحقهم التفاوت بينهم وبين أبناء عمومهم وأخوالهم. الملابس تتبدّل، ووسائل النقل «ترتقي» من السرفيس والباص والكميون والموتوسيكل إلى سيارة المرسيدس الشبح. الاهتمامات تختلف. وتتشكل مع الوقت هوّة طبقية تحفر في العمق. عمق الروح. فبينما يعيش الأقرباء حالة فقر وبطالة، يعيش أبناء الضابط في بحبوحة تتبدّى في مظاهر فاضحة كساعة «الرولكس» وعقد الذهب الذي تتدلّى منه صورة القائد وأجهزة الموبايل الحديثة (التي انتقدها بشار الأسد في أحد خطاباته)، والملابس الباهظة الثمن والعطور والسيارات والسيجار... وأشياء أخرى. في الضيع، لم يكن متاحاً استقدام خادمات أجنبيات من الفيليبين وأندونيسيا وأثيوبيا. حتى في العاصمة دمشق لم تكن فكرة الخادمة مطروحة عند عائلات الضباط. السائق العسكري «العلوي» وليس ذلك «السنّي»، يشارك في الأعمال المنزلية. يمسح واجهات الزجاج الممتدة على مساحات كبيرة، يكنّس، يشطف بلاط البيت ويلمّعه، ينفض الغبار، يلعب مع الأطفال والأحفاد، يطبخ أيضاً ويشتري أغراض البيت. وأحياناً، يرسل أحد الأقرباء أو المعارف صبية من الضيعة لتساعد زوجة الضابط في إتمام أعمال المنزل والأولاد. بينما العسكري «السنّي» يصعب إدخاله إلى البيت، إلى الحيّز الخاص والشخصي. فيبقى مجرّد سائق غريب يعامل باحترام أو باستخفاف، لكن في كلتا الحالتين يتم الاحتفاظ بمسافة يفرضها اختلاف الطوائف. لا يمكن تعميم القصص الصغيرة هذه على كل المناطق العلوية في الساحل السوري. ومجرّد الكتابة عنها، يزيد من صعوبة تفسير الأسباب التي تقف وراء الولاء الأعمى لمعظم العلويين. صحيح أن كثيراً من أبناء الطائفة حصلوا على امتيازات، إلا أن أكثرية الأقلية تعيش فقراً وتهميشاً وقهراً. وعاشت على مدى سنوات تحت ظلّ القمع والسجن والإقصاء واللاجدوى. لذلك نرى كثيرين من أبناء الطائفة وقد هاجروا إلى أستراليا أو استقرّوا في روسيا وألمانيا وبلدان أخرى، بحثاً عمّا يبحث عنه أي مواطن سوري بغض النظر عن طائفته. تبقى الامتيازات المعنوية التي تمتّع بها كل علوي في سورية مع استثناءات قليلة. وتلك الامتيازات يتمتّع بها العلوي رغماً عنه. برضاه أو بغير رضاه. مجرّد أن تقع الهوية الشخصية في يد شرطي سير أو في يد موظف في دائرة حكومية، ويرى أنك تنحدر من «الشريط الساحلي المقدّس»، تتبدّل طريقة المعاملة وتتحول من مجرد رقم إلى مواطن محترم لديه حقوق! هل يكفي الإحساس المراوغ والمتواطئ بتلك المواطنة الكاذبة لبذل الروح فداءً للأسد؟