من أكثر الشخصيات التي أحيطت بالغموض في تاريخ الفتوحات الإسلامية، شخصية المقوقس الذي قيل إنه كان حاكماً لمصر وقت الفتح الإسلامي لها، على يد عمرو بن العاص سنة 20 هجرية. وسبب الغموض، أن تسمية "المقوقس" لم ترد إلا في الكتابات العربية وحدها، دون كتابات المؤرخين اليونانيين والأقباط، الذين تناولوا فترة الفتح في كتاباتهم. ولم يعرف حتى وقت قريب هل كانت كلمة "المقوقس" هي اسم لشخص بعينه أم صفة؟ وهل أطلقت على شخص واحد، أم تعدته إلى أشخاص آخرين؟ كانت تلك النقطة من تاريخ الفتح - تحديداً -، مثار خلاف علمي بين مؤرخي العصر الحديث. بل تحولت إلى ما يشبه المعركة العلمية بين اثنين من أبرز هؤلاء المؤرخين: لين بول من ناحية، وألفريد بتلر من ناحية أخرى، فكان بتلر يرى أن المقوقس هو نفسه قيرس البطريرك الملكاني على مصر. وكان هذا البطريرك يجمع في يده السلطة الدينية والدنيوية، إذ كان يحكم مصر نائباً عن الامبراطور البيزنطي هرقل. واعتمد بتلر في الوصول الى هذه النتيجة على ما ورد في الكتب القبطية، التي تناولت تاريخ تلك الفترة، وهي: "كتاب ساويرس" وكتاب "تقويم حياة القديسين"، وكتاب "صمويل القلموني". وشكّك لين بول في النتيجة السابقة، وطرح سؤالاً مهماً في هذا الاتجاه: إذا كان المقوقس هو قيرس البطريرك الملكاني، فلماذا لم ترد إشارة واحدة في سلسلة طويلة من كتابات المؤرخين العرب إلى ذلك؟ وكيف لم يشيروا حتى إلى أن المقوقس كان قسيساً، فما بال كونه بطريركاً؟ ولم يسمونه جريج بن مينا، أو ابن قرقب، إذا كان اسمه الحقيقي قيرس؟ وفي معرض الرد على تساؤلات لين بول، فإن بتلر يرى أن المؤرخين العرب تلقفوا لقب المقوقس سماعاً أو رواية، نقله بعضهم عن بعض بغير أن يفهموا له معنى. وأن الاسم بقي بينهم من دون سواه، إذ اختلط عليهم الاسم الحقيقي للشخص الذي كان يلقب به. لقد ظل هذا اللقب مبهماً، لأن أصله غير عربي، وفي الوقت نفسه ظل مرتبطاً بمن يحكم مصر، لذلك، فإنهم سموا حاكم مصر أيام النبي بالمقوقس، كما سموا حاكمها زمن الفتح بهذا الاسم نفسه، وبذلك، اصبحت كلمة "المقوقس" صفة، أكثر منها اسماً. وإذا كان بتلر يرى أن المقوقس وقيرس البطريرك الملكاني هما شخص واحد، فإن لين بول ظل مؤمناً أن كلاً من المقوقس وقيرس كانا شخصيتين مختلفتين، وكلاهما كان حاكماً على مصر من قبل هرقل. ففي الوقت الذي ذكر فيه مؤرخو اليونان، ومعهم المؤرخ القبطي حنا النقيوسي، أن قيرس صالح العرب في معاهدة مصر التي ردها هرقل ملك الروم، فإن المؤرخين العرب قالوا إن المقوقس صالح العرب. وهذه الاتفاقات يفسرها لين بول بأن المقوقس كان حاكماً تابعاً قام بمصالحة العرب، وأن قيرس البطريرك والحاكم الأعلى أقر ما قام به تابعه، وبعث بذلك الى الامبراطورية، وبذلك يخلص لين بول إلى أن المقوقس ربما كان هو تيودور حاكم الاسكندرية الحربي. ويعود بتلر لمناقشة هذا الرأي مرة أخرى، من خلال مناقشة كتابات المؤرخين العرب، التي أدت إلى هذا الخلاف: - فالطبري يفرق في رواية من رواياته بين المقوقس وجاثليق مصر. - وجاء في تاريخ ابن عبدالحكم حوالى 850 ميلادية: "فوجه هرقل ملك الروم المقوقس أميراً على مصر، وجعل إليه حربها وجباية خراجها، ونزل الاسكندرية". - يتفق المؤرخ العربي المسيحي سعيد بن البطريق مع رواية ابن عبدالحكم. - وفي تاريخ البلاذري 809 - 903 ميلادية، يقرر أن "المقوقس صالح عمراً على عهد، رده هرقل"، والمقصود بذلك معاهدة مصر، ثم يذكره بعد ذلك قائداً في الاسكندرية، مدة حصار العرب لها، ويتفق البلاذري في ما ورد عن حنا النقيوسي المؤرخ القبطي من أخبار قيرس. - اليعقوبي ت 873 ميلادية، وهو لم يكن من أهل مصر، ورد عنده أن المقوقس صالح عمراً، وأن هرقل ردّ هذا الصلح. - وابن الاثير 1160 - 1232 ميلادية يبدو أنه يأخذ عن الطبري وجهة نظره كاملة. - ياقوت 1178 - 1228 يذكر أن المقوقس هو صاحب الصلح الذي عقد باسم القبط والروم، وأنه صالح عمراً على شرط أن ينفذ بالعهد الى الامبراطور ليقره، وهذا دليل - كما يقول بتلر - إلى أن ياقوت كان يعد المقوقس حاكم مصر. - المكين 1205 - 1273 يذكر أن المقوقس كان حاكم مصر من قبل هرقل، أي أنه كان نائب الملك فيها. - ابن دقماق 1350 - 1406 يروي عن ابن وهب أنه روى عن الليث بن سعد أن المقوقس الرومي الذي كان ملك مصر صالح عمراً. - المقريزي 1365 - 1442 يروي عن يزيد بن حبيب أنه قال إن المقوقس الرومي كان والياً على مصر، وأنه صالح عمراً، ويقول إن قائد حصن بابليون كان "الأعيرج" من قبل المقوقس. ويذكر بعد ذلك أن المقوقس كان حاكم البلاد من قبل هرقل، فالمقوقس، من وجهة نظره هو نائب الملك في مصر. - أبو المحاسن 1411 - 1469 يذكر أن قائد قصر الشمع - أي حصن بابليون - كان الأعيرج من قبل المقوقس. وطبقاً لآراء كل المؤرخين العرب الذين تعرضوا لشخصية المقوقس، والذين استعرض وجهات نظرهم ألفريد بتلر، في معرض الرد على لين بول، فإنه يصل إلى نتيجة مؤداها أن مجمل تلك الآراء تصب في اتجاه واحد، يؤكد أن المقوقس كان حاكماً أو عاملاً من قبل هرقل امبراطور الروم، ولم يختلف على تلك النتيجة أي منهم. وهذه النتيجة سوف يعود إليها ألفريد بتلر لاحقاً، ليؤكد فرضيته في أن المقوقس وقيرس هما شخص واحد. وبعد عرض وجهة النظر الإسلامية بخصوص المقوقس، يعرض بتلر لمختلف وجهات النظر التي طرحتها الوثائق القبطية، التي تناولت تلك الفترة، وركز على ثلاثة كتب تمثل سنداً رئيسياً لوجهة نظره. فلقد أورد المؤرخ القبطي الشهير ساويرس في كتابه المهم "تاريخ البطارقة" الذي يتميز بالدقة التاريخية، ولى هرقل قيرس حاكماً على مصر، وجعل له ولاية الدين والحكم معاً. وفي "تقويم القديسين" وردت عن المقوقس عبارة: "كان المقوقس كبير المذهب الخلقيدوني - الملكاني - وجعل حاكماًَ على مصر، وبطريقاً لها"، وتتفق تلك العبارة مع ما ورد بالنسخة الاثيوبية، وأكدت ذلك إحدى الوثائق السريانية المخطوطة، والتي اكتشفت أخيراً، وتسمى ب"الديوان مجهول المؤلف"، وجاء في هذه المخطوطة أن بطريق الاسكندرية - والمقصود به قيرس - دافع العرب عن مصر. في حين أن ابن عبدالحكم يصف عامل هرقل على مصر بأنه كان يجمع سلطة الحرب الكاملة، وسلطة جباية الأموال، ويسميه ابن عبدالحكم بالمقوقس. وبعد ذلك، ينتقل بتلر لعرض آراء اثنين من أشهر مؤرخي اليونان، الذين تناولوا تلك الفترة في كتاباتهم. فها هو نيقفوروس يذكر أن هرقل أرسل القائد المدعو "ماريانوس" الى الاسكندرية ليشترك مع قيرس بطريق الاسكندرية، في الاستقرار على خطة يسيران عليها مع العرب. ثم يقول في موضع آخر عن قيرس أنه "كان أسقف الاسكندرية". ومن جهة أخرى، فإن المؤرخ اليوناني تيوفانز كان صرح قولاً، إذ قال "ولما مات جورة - البطريق الملكاني - أرسل قيرس ليكون أسقف الاسكندرية بعده. ولما جاء ذكر العرب، قال تيوفانز: "فغزوا مصر، واتهم قيرس - أي هرقل - بأنه سلم ذهب مصر إلى العرب، فأرسل إليه الامبراطور رسالة شديدة، يأمره فيها بأن يعود من مصر". ويصل بتلر مما سبق إلى أن المؤرخين اليونانيين قد اتفقا مع مجمل المؤرخين العرب، بشأن معاهدة الصلح بين مصر ونائب الامبراطور في مصر، وهو المقوقس في بعض الأقوال، وقيرس في أقوال أخرى. والاختلاف البين بين المؤرخين العرب والمؤرخين اليونانيين أن العرب يطلقون على من وقّع المعاهدة كنائب للملك المقوقس، بينما اليونانيان يطلقان عليه اسم قيرس. ثم يعود بتلر مرة أخرى إلى المؤرخين العرب، لكنه - في هذه المرة - يعرض آراء اثنين من المؤرخين المسيحيين، هما: أبو صالح، وسعيد بن البطريق. يقول الأول إن المقوقس كان هرقل قد ولاه على مصر، كما قال إن السنوات العشر التي كان فيها البطريق بنيامين - بطريق القبط اليعقوبيين - طريداً في منفاه، كانت هي نفسها السنوات التي حكم فيها المقوقس مصر. فالمقوقس - إذاً - كان هو المضطهد الملكاني الذي اضطهد القبط اليعقوبيين، وطرد بطريقهم بنيامين من مقر كنيسته في الاسكندرية الى منفاه. أما المؤرخ العربي المسيحي الآخر الذي يستشهد به بتلر، فهو سعيد بن البطريق 876 - 939، فقد كتب قبل أبي صالح بثلاثة قرون، يقول عن المقوقس: "وكان العامل على الخراج بمصر المقوقس، من قبل هرقل الملك.. وكان يعقوبياً - أي قبطياً - يكره الروم، ولكنه يخشى أن يظهر عقيدته اليعقوبية، خوفاً من أن يقتله الروم". ويرى بتلر أن ذلك المؤرخ كان ملكانياً، وبالتالي فإنه كان شديد الحرص على أن يزيل عن قيرس معرة تسليم مصر إلى العرب. واضطره ذلك الى التورط في تلك الأقاويل العجيبة. وفي قول سعيد بن البطريق أن المقوقس كان العامل على الخراج من قبل هرقل، فهو بذلك يتفق على الوثائق القبطية، ومع ابن الحكم كذلك. لذلك، فإن بتلر يصل من خلال الأدلة السابقة التي طرحها، من مختلف الاتجاهات العرقية والدينية، إلى أن المقوقس هو نفسه قيرس بطريق الاسكندرية، والعامل على الخراج والحاكم العام على مصر وقت الفتح. وليس ينقض هذا الرأي أن يقول قائل إن مؤرخي العرب قد يطلقون لقب المقوقس أحياناً على شخص يسمونه، ليس هو قيرس، لكن من المؤكد أن لقب المقوقس لم يكن علماً على شخص معين واحد، من وجهة نظر المؤرخين العرب، وهو ما ينكره بتلر كل الإنكار، إذ ينم ذلك عن خطأ شائع، أو عن نقص في المعلومات التاريخية، واتخذ العلامة كاتياني هذا الرأي وإنحاز إليه، على رغم تهافته من وجهة نظر بتلر. وبعد تلك المعركة العلمية الحامية بين كل من العالمين، ألفريد بتلر ولين بول، فإن الأدلة التاريخية التي قدمها بتلر لم تكن تقبل الشك، لذلك، أعلن لين بول بشجاعة العلماء، الذين لا يرمون سوى الحقيقة العلمية وحدها، انتصار ألفريد بتلر في تلك الموقعة، التي لم ينتصر فيها سوى تلك الحقيقة، ولم ينهزم فيها أحد. وبذلك، تصبح شخصية المقوقس الغامضة، هي نفسها شخصية قيرس، الذي أرسله هرقل حاكماً على مصر لمدة عشر سنوات، انتهت بالفتح الإسلامي، وكان يجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، والذي كان قدومه إلى مصر يشكل اضطهاداً للأقباط اليعاقبة، الذين يخالفون مذهبه الملكاني الخلقيدوني. ونتج عن قدومه، نفي البطريق بنيامين الى الصعيد لمدة عشر سنوات، لم يعد بعدها إلى كرسي الكرازة المرقسية إلا بعد فتح مصر، وبعد أن منحه عمرو بن العاص الأمان. وهكذا، يتم حل أحد ألغاز التاريخ، التي حيرت العلماء كثيراً. * كاتب مصري.