خرج محمود الزعبي، رئيس الحكومة السورية السابق والراحل، من مراتب السلطة العليا، ظاهراً، ومن الحياة، معاً. فهو بعدما قضى تسع عشرة سنة تامة رئيساً لمجلس الشعب المجلس النيابي السوري ورئيساً للحكومة، لم يطق وهو في العقد السابع من العمر تجريده، وأهله الأقربين، من شارات المكانة والاعتبار والامتياز، ولا أطاق رميه في عراء "المواطن" أو الرعية العادي. فجاء انتحاره مجيء إعلان يائس وخاسر عن حال العلاقة بين السلطة وبين المواطنية في هذا الضرب من المجتمعات والكيانات السياسية: فالسلطة هي الحياة أو أورها وقوامها، فإذا عدم المرء السلطة أو أُخرج منها لم يبقَ له ما يتماسك به، إذا بقي له ما يسد به رمقاً. والزعبي لم يخرج من السلطة، أو من شاراتها وعلاماتها و"عزها"، على قول رئيس حكومة لبناني راحل، إلى المقاضاة، أو التهمة القضائية والقانونية. فهو لم يكد يعزل من رئاسة الحكومة، غداة ثلاث عشرة سنة متصلة في سدة رئاسة، ولو صورية محض، حتى كانت التهمة ثبتت عليه وسطعت. وكرَّس طرد رئيس الحكومة السابق من الحزب الحاكم، وهو "الحزب - الدولة" أو الحزب الشريك في "الدولة"، الإدانة، وعرى المدان من وسائل المراجعة والاستئناف والنقض. فالماثل بين يدي هيئة "الأمن الاقتصادي" مجللاً ب"التعارض مع قيم الحزب وأخلاقيته ومبادئه و خرقه القانون وتسببه بأضرار فادحة بسمعة الحزب والدولة والاقتصاد الوطني"، على ما جاء في قرار الطرد، لا يرجو، على ما علم الزعبي من غير ريب وخبر، محاكمة تجلو الوقائع والبواعث وسلسلة الأسباب، وتقسم التبعات قسمة عادلة. ويطعن قتل رئيس الحكومة السابق نفسه في استقلال القضاء عن أجهزة الحكم والإدارة" ويطعن في استقلال الحكم والإدارة عن الحزب الحاكم والمتسلط على الحكم والإدارة" ويطعن أخيراً في استقلال الحزب عن قيادته الآمرة والناهية، ولما كان الزعبي ركناً من أركان القيادة المفترضة، ولم يملك لنفسه شيئاً، بل لم يرَ علامات تهمته أو نذر إدانته تتجمع في أفق قريب عابس أو بعيد ظاهر الصفاء - أو رأى العلامات والنذر ولم يملك الرجعة في أفعاله ولا الاعتذار والتنحي-، فينبغي الخلوص من هذا الى أن "القيادة" العتيدة منقادة بدورها الى إرادة لا يعصم "القياديين" من مكتوبها وأقدارها عاصم، وهذه الإرادة، وهي الكلمة التي كانت الدواوين العثمانية تستعملها حين تنسب القوانين والقرارات الخطوط الهمايونية والفرمانات إلى رأس السلطنة، لا حسيب عليها ولا رقيب من غير نفسها. وشأنها مع أهل المراتب والمكانات، وفيهم، هو الإنشاء من قريب من العدم والإرجاع الى حالهم الأولى، على ما فهم محمود الزعبي وقبل طائعاً. والحق أن رؤساء الحكومات السورية، منذ تشرين الثاني نوفمبر 1970- إذا استثني أولهم وهو يومها الفريق حافظ الأسد نفسه الذي اختار رئاسة الحكومة باباً على الرئاسة من غير إضافة -، لم يترأسوا حكوماتهم في نهاية مطاف سياسي مشهود. فلم يكد رئيس الحكومة، الفريق الأسد، ينتخب في آذار مارس 1971 رئيساً للجمهورية بأصوات بلغت نسبتها من المقترعين 2،99 في المئة، ويحل محل أحمد الخطيب. وكان الرئيس الجديد انتخب من قبل أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي، وعدل الدستور قبل شهر واحد من الاقتراع المباشر، وأنشئ بمرسوم، في شباط فبراير 1970، مجلس شعب من 173 عضواً اقتصر عدد "النواب" البعثيين فيه على نصف أعضائه ويزيدون واحداً 87. وسمّى الرئيس الجديد غداة ترؤسه، اللواء عبدالرحمن خليفاوي رئيساً للحكومة. ولم يخلف رئيس الحكومة أثراً عميقاً في التاريخ السوري المعاصر، على رغم اضطلاع فريقه الوزاري، ظاهراً وشكلاً ب"إصلاحات" اقتصادية نيط بها، منذ ثلاثة عقود وشأن إصلاحات اليوم المزمعة، تحرير القطاع الخاص من القيود الإدارية الثقيلة، وتشجيع الاستثمارات، وتحفيز الإنتاجية، وعصر النفقات، ومحاربة الهدر... ونهت الحكومة، في نيسان ابريل 1971، المنظمات الفلسطينية عن أعمال عسكرية منطلقها الأراضي السورية، وأمرت وحدات فلسطينية في تموز يوليو من العام نفسه، بالانتقال الى جنوبلبنان وكان النهي والأمر هذان باكورة اضطلاع الأراضي اللبنانية، واللبنانيين، بأدوار آتية لم تنقض الى اليوم. ولم يسعف رئيس الحكومة صمته فأخلى محله، في أواخر 1972، لنائبه، محمود الأيوبي. وعلى مثال مجلس الشعب، وتقسيم الحصص الحزبية عليه، رضي الحزب القائد بستة عشر وزيراً من واحد وثلاثين. والوزير السادس عشر، وهو الصوت المرجّح في حال الاقتراع، هي استعارة للمناقشة التي تجري في مجلس الوزراء، أو في مجلس الشعب فيما يعود الى عدد النواب، ولا يحسم أمر إلا من طريقها. وقادت حكومة الأيوبي حرب تشرين أكتوبر 1973، من وجه، وباشرت بناء "نظام إداري حديث" على قول أحد كبار الأخصائيين الأوروبيين في الشؤون السورية والإقليمية السيد الجنرال فيليب روندو. وهذا، أي تعهد الإدارة السورية وتحديثها، ما لم ينجز الى اليوم، شأن الإصلاحات الاقتصادية. ويزعم مراقبون، بعضهم سوري ويتولون مناصب نافذة، أن الأمر لم يباشر بعد. واستقال محمود الأيوبي في أوج الأزمة اللبنانية، في تموز 1976، في أعقاب أربع سنوات على تدبيرها الشؤون السورية الداخلية، الإدارية والاقتصادية والمالية، فما عداها يتبع "ديوان الخاص" على قول عثماني كذلك. واضطلعت الحكومة الجديدة بسياسة تقشف استتبعتها التزامات الاستثمار الكبيرة، وإن كانت أقل من التزامات حكومة السيد محمد مصطفى ميرو في المضمار الاستثماري نفسه، في الخطة الخمسية الرابعة. ولم يكد مجلس شعب جديد، منتخب، يخرج من انتخابات صيف 1977، حتى عهد المجلس الجديد الى حكومة الأيوبي بحملة على الفساد والإثراء غير المشروع. وجعلت الحملة نصب قصدها تطهير الإدارة العامة، معقل النشاط الاقتصادي وحافزه والحسيب عليه، على رغم انقضاء سبعة أعوام على "ليبرالية" اقتصادية موعودة. ولما لم تنهض حكومة الأيوبي بالمهمات الموكولة إليها، إدارة واقتصاداً وإصلاحات، خلفتها حكومة محمد علي الحلبي، في شباط 1978. وعهد الى حكومة الحلبي الجديدة بتوطئة المصاعب الاقتصادية والإدارية التي بدت مزمنة، ولم تنفع في علاجها إجراءات الحكومة الأيوبية. ويلاحظ غير مراقب، محلي أو أجنبي، أن استعصاء الفساد على المعالجة قد تعود أسبابه الى عوامل بنيوية أولها العلاقات المتشابكة بين ما يسميه السوريون "المؤسسة"، والسلطة الفعلية بيدها، وبين بورجوازية أعمال ومقاولات ووساطة نشأت في ظل "المؤسسة"، وتتولى رعاية مصالحها على نحو أو آخر. ولا تتطاول إجراءات تعيين الوزراء والإداريين الى أركان السلطة الفعلية، بل تقتصر على الوزراء، وعلى بعضهم. فكانت وزارة الحلبي قوية الشبه بوزارة الأيوبي، ولم تكن هذه ضعيفة الشبه بوزارة خليفاوي. فلما عهد الرئيس السوري، في مطلع 1980 وغداة المؤتمر السابع للحزب الحاكم والقائد الذي خرج منه الرئيس والأمين العام "أقوى" مما كان على ذمة مراقبين، الى السيد عبدالرؤوف الكسم برئاسة الحكومة، نذيراً أو بشيراً بابتداء صفحة جديدة من النزاهة والحداثة، سمّى الكسم أربعة وعشرين وزيراً، من سبعة وثلاثين، لم يزاولوا الإدارة من قبل. وباشرت الحكومة "القوية" معالجة التضخم والفساد وثقل المصروفات العسكرية. وصرف الكسم الأعمال الداخلية، على المعنى المقيد، في أثناء السنوات العاصفة التالية. وفي 1981، في ابتداء السنوات العاصفة هذه، برز محمود الزعبي، وقام على مقدرات مجلس الشعب الذي تولى رئاسته بينما كان عبدالرؤوف الكسم يتعقب الفساد، على حسب ما أوكل إليه. وتفتقت الحوادث السياسية والعسكرية الداخلية، غداة صدامات حماه ومرض حافظ الأسد واشتباكات الأجهزة العسكرية، عن نواب الرئيس الثلاثة، أو عن جهاز نيابة الرئيس المثلثة. وخرجت "المؤسسة" أقوى مما كانت، وأشد تماسكاً حول الرئيس، وأمنع تالياً على المحاسبة والمراقبة. وجددت ولاية السيد الكسم، ومع الولاية المهمات المناطة بها، في آذار مارس 1984. ودامت ولاية الكسم الثانية الى نيسان 1985، غداة مؤتمر الحزب القائد الثامن وتجديد انتخاب الرئيس السوري الى ولاية ثالثة من سبع سنوات. فولى الرئيس الأسد السيد الكسم على رأس حكومة ثالثة، زادت حصة الحزبيين البعثيين فيها الى 22 وزيراً من 34، ولم تتغير مهماتها الإصلاحية والتحديثية والتطهيرية. وحين عمد مجلس الشعب الى حجب ثقته عن وزيرين من وزراء حكومة عبدالرؤوف الكسم الثالثة، هما وزيرا الصناعة والتموين، أحرج الأمر رئيس الحكومة الدمث والنزيه، فاستقال. وتولى رئاسة الحكومة، في تشرين الأول 1987، رئيس مجلس الشعب، الذي أقدم على نزع الثقة بالوزيرين وباشر من الأعمال النيابية والشوروية ما لم يكن معهوداً منه. ورئيس مجلس الشعب كان محمود الزعبي. ونسب الى الزعبي اعتدال الميزان الاقتصادي، في صيف 1989، بعد أقل من سنتين على ولادة حكومته. وكان الإنتاج السوري من النفط بلغ مرحلة صناعية. وأغدقت الطبيعة على الزراعة والأرض موسماً خيراً في تلك السنة. وحدس مراقبون في إدارة الحكومة الجديدة بعض الحزم والصرامة. ولما انتخب السوريون 250 نائباً، عوض 195 في 1990، فسرت الزيادة توسيعاً للتمثيل الشعبي. وجدد المجلس الجديد، وكان البعثيون الحزبيون فيه 134 نائباً أي فوق النصف بتسعة نواب، للزعبي، رئاسة ثانية، غداة الانتخابات ورئاسة ثالثة، في حزيران يونيو 1992. ولم يعف محمود الزعبي من رئاسة الحكومة الى آذار الفائت. فكان، في أثناء العقود الثلاثة التي انصرمت من عهد الرئيس حافظ الأسد، أكثر رئيس حكومة ثباتاً. وهذا الرجل، وهذا شأنه وشأن وظيفته وعمله، أقيل غداة سنة على تجديد حكومته آخر مرة، بعد انتخاب الرئيس السوري لولاية خامسة في آذار 1999. ولم تختلف "حيثيات" الإقالة عن "حيثيات" التولية. وهي عينها مسوغات تولية من سبقوه، وتولية من خلفوه. وهو أقيل وصرف بينما أبنية الحكم، وعلاقة أنصبة السلطة بعضها ببعض، وتقسيم العمل السياسي إذا جازت العبارة، هي هي. والمهمات لم تتبدل ولم تتغير. ولكن الشدة التي أُخذ بها الرجل، ولم يؤخذ بمثلها من سبقوه، ينبغي أن تكون قرينة على "مجرى جديد"، على قول البلاشفة الروس في أيام سطوتهم. ولكنها قد تكون قرينة على اضطرار الحكم الى السوس بالشدة لأحوال كان يسوسها باللين، من غير أن تتغير الأحوال.